لو اعتمد التحليل السياسي في الشأن العراقي - الأميركي على التصريحات المعلنة لارتبك الى حد كبير، ففي الأرشيف القريب والبعيد كم هائل من المتناقضات ليس على ألسنة المسؤولين الأميركيين بالمجمل، وانما على لسان المسؤول الواحد أيضاً. ويبرز هذا التناقض أكثر ما يبرز في سؤال ما إذا كان بقاء العقوبات مرهوناً بوجود صدام حسين في السلطة أم لا، وهل ان القول بالايجاب، يعني وجود مخطط للاطاحة بالرجل، أم ان الوضع القائم يبدو مريحاً لواشنطن. بداية، من الصعب القول ان رأياً واحداً قد تبلور في أروقة السياسة الأميركية بشأن العراق، سواء لجهة الملف برمته، أم لجهة المشاكل التي تندلع خلاله بين الفينة والأخرى، كما كان شأن الأزمة الأولى والثانية مع فرق التفتيش، والتي ساد ما يشبه الاجماع على أن النظام العراقي قد خرج منهما فائزاً بالنقاط. غير أن عدم توفر اجماع حول رأي واحد في مسألة التعاطي مع الملف وأزماته لا ينسحب حول الرؤية الأميركية لما هو مطلوب من العراق كي يخرج من نفق الحصار، ففي هذا السياق يمكن القول أن ثمة رؤية متوفرة يحكمها اعتبار في غاية الأهمية، ألا وهو تحرك الادارة الأميركية شرق أوسطياً على إيقاع المصالح الاسرائيلية، من دون أن يعني ذلك الاتفاق مع تل أبيب، ونتانياهو بالتحديد، على الوسائل الأفضل للوصول الى تلك المصالح. فنتانياهو لا يمكنه الصراخ في وجه اولبرايت ودنيس روس ومارتن انديك وأرون ميلر وبقية الفريق اليهودي في الخارجية الى جانب وزير الدفاع كوهين، واعلامهم بأنهم غير قادرين على تحديد المصالح العليا للدولة العبرية، وإذا فعل فسيدخل في صراع خفي معهم، يطال الزعامة الداخلية في اللوبي الصهيوني في الولاياتالمتحدة وهو ما يحدث عملياً منذ شهور طويلة. نعود قليلاً الى مسألة صدام حسين وبقائه في السلطة. وهنا يمكن القول ان التصريحات القائلة بضرورة تغييبه أو عدم ضرورة ذلك، انما تأتي كجزء من التكتيكات السياسية، أما الواقع فإن واشنطن ما زالت معنية بالحصول على العنب وليس بمقاتلة الناطور، فضلاً عن اطاحته. ولا شك أن غياب صدام حسين لن يغير من قائمة المطالب التي على خلفه أن ينفذها، وإلا فإن العقوبات ستبقى على حالها. فهذا جورج تينيت، مدير وكالة الاستخبارات الأميركية يوضح ان "المحللين الأميركيين لا يزالون يرون أن خلفاء صدام المحتملين سيكونون قادة عسكريين من العرب السنّة الذين يرجح أن يشاطروه بعض سياساته وتطلعاته". وكأن تينيت هنا يعلن بوضوح ان المسألة تتعلق بالسياسات والتطلعات وليس بشكل الخليفة أو اسمه، وهذا هو الواقع الذي يبدو من الصعب التعامل مع سواه، اللهم إلا إذا انجرفت الحالة العراقية باتجاه الفوضى أو التقسيم، وهو الأمر الذي لا يزال مرفوضاً من الزاوية الأميركية، وان يكن من النوع الذي يمكن التعامل معه اسرائيلياً. ما هو المطلوب إذن من صدام أو خليفته المحتمل؟ ليس من العسير هنا أن نرجح أن واشنطن، وحتى اللوبي الصهيوني ومن ورائه تل أبيب قد يكونون أكثر ارتياحاً لتنفيذ صدام حسين شخصياً لقائمة المطالب، بعيداً عن الدخول في مجاهل القادم التالي، نظراً لما يحمله هذا الاحتمال من جوانب نفسية على الوضع العربي، فضلاً عن عدم وجود ضمانات لمسار الوضع في حالة التغيير والارتباكات المرافقة. خلاصة المطلوب من العراق لم تعد سراً. فموضوع الأسلحة لا مساومة عليه بأي شكل من الأشكال، سواء بوجود صدام أم بمجيء آخر. إذ لا بد من التأكد الكامل من أن العراق قد دمر قدراته التسليحية ولا يفكر في إعادة بنائها من جديد. ولا يمكن التأكد من هذه المسألة دون الاعلان العراقي الواضح عن الحدود التي كانت البرامج التسليحية قد وصلتها وعن العقول والعلماء الذين وقفوا وراء تلك البرامج. فواشنطن ومعها تل أبيب تعتقدان ان تدمير البرامج النووية والبيولوجية بشكل أكثر خصوصية لا معنى له دون وضع اليد على العقول التي انشأتها. وسيصار الى ايجاد طريقة في التعامل مع اولئك العلماء، فيما يبدو أن تهجيرهم الى الخارج هو الاحتمال الأقوى. أما أن يبقى العلماء في حالة الأسلحة البيولوجية - والجميع يدرك سهولة انتاج تلك الأسلحة - فلا يمكن أن يكون مقبولاً حسب الرأي الأميركي - الاسرائيلي. القضية الأخرى المطلوبة من العراق يمكن وضعها ضمن ملف واحد، هو العلاقة مع الدولة العبرية وبرنامجها الاقليمي، وهنا لا بد من صيغة يدخل فيها العراق الى لعبة التسوية والترتيبات الخاصة ذات الصلة بالالتفاف الاسرائيلي على المنطقة عبر التحالف التركي - الاسرائيلي وسواه من التحركات الاقليمية في افريقيا وآسيا الوسطى. وإذا كان المنطق الاسرائيلي يقوم على انشاء "كماشة مشتركة مع تركيا لتطويق سورية وايران"، حسبما صرح وزير الخارجية الاسرائيلي السابق ديفيد ليفي أثناء زيارته لأنقرة في شهر نيسان ابريل من العام الماضي. اذا كان المنطق الاسرائيلي يقوم على ذلك، فإن ادخال العراق ودولة عربية اخرى في اللعبة سيعني قلباً للوقائع السياسية في المنطقة برمتها، وانشاء حالة توازن جديدة، لتل أبيب فيها السطوة الكاملة. وهناك تفصيلات كثيرة داخل هذا الملف قد تحمل اغراءات للقيادة العراقية، اضافة لمكافأة انهاء العقوبات، فضلاً عن تفصيلات أخرى تتعلق بالولاياتالمتحدة ومكاسبها من اللعبة خصوصاً في ما يتعلق بوضع اليد على النفط العراقي وعقود إعادة الإعمار، غير أن الأساس المهم هو الموافقة العراقية على مبدأ المقايضة بالعنوان الأول والثاني، ثم تكون التفصيلات. هل ثمة مسار لتحقيق ذلك من زاوية النظر الأميركية أو الاسرائيلية أو اللوبي الصهيوني في واشنطن؟ من زاوية نتانياهو وجماعته في واشنطن لا بد من القوة لإجبار صدام حسين على الرضوخ أو خلعه والمجيء بآخر، غير أن هذا الرأي لا يحظى بالتأييد في واشنطن، في هذه المرحلة على الأقل، حيث ما تزال وجهة النظر الراجحة هي استنزاف صبر النظام العراقي باستمرار العقوبات من جهة، وبالتهديد والوعيد من جهة أخرى. وهذا بالضبط ما يحدث منذ سنوات. هناك عملية تدجين وتيئيس للنظام العراقي لدفعه الى القبول بالمطالب الأميركية - الاسرائيلية ولولا تجدد آماله بين الفينة والأخرى بفعل جهود المثلث الدولي موسكو - باريس - بكين لكان في الامكان توقع أمر آخر، فاليائس يمكن أن يلجأ الى أسوأ الخيارات. ان مراقبة حركة السياسة الأميركية تجاه العراق تعكس بوضوح حدود اللعبة القائمة على خيار التيئيس والتدجين، ولا نعني بذلك التصريحات والمواقف الخاصة بالعراق فقط، وانما بالمحيط الاقليمي، فارتفاع وتيرة أحاديث التقارب مع ايران اميركياً تدخل في نطاق تيئيس العراق الذي يخشى التقارب الأميركي - الايراني. والا فكيف يمكن تفسير ما قاله مارتن انديك قبل أسابيع في حلقة بوزارة الاعلام الأميركية، حين تحدث وهو صاحب نظرية الاحتواء المزدوج لايرانوالعراق بشكل هادئ عن ايران، بينما توجه الى الشأن العراقي قائلاً ان بلاده تعمل مع 73 جماعة عراقية معارضة خارج العراق للتخطيط لحملة جديدة يمولها الكونغرس لبناء معارضة سياسية لصدام حسين وذلك بأسلوب علني وبطريقة فعالة. ثم ما ذكرته صحيفة "وول ستريت جورنال" عن استراتيجية سرية وعلنية يجري طبخها لاضعاف حكم الرئيس العراقي واسقاطه. ثم دراسة معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى الذراع الفكرية للايباك الأخيرة حول مراجعة الاستراتيجية الأميركية تجاه العراق والملأى بالوعيد والتهديد بكل الخيارات الخمسة التي تطرحها. وضمن هذا النسق تجري عملية اشعال الآمال العراقية واطفائها، كما حصل أخيراً في اتفاق بتلر - عزيز الذي لم تدم فرحة بغداد به سوى أيام وليعود بتلر لترتيب قصة غاز "في اكس" الذي قيل ان لجنة التفتيش قد اكتشفته على رؤوس صواريخ عراقية!! ولا ننسى هنا بالطبع عروض التوسط والحوار التي تقدم من أطراف أخرى، وقد تصل الى نتيجة مع الوقت. ولكن هل ثمة معالم يأس عراقي؟ هناك شيء كهذا يمكن قراءته من خلال اللهجة العراقية خلال الفترة الأخيرة، خصوصاً عبر الانتقادات الحادة لعجز التحالف الثلاثي الدولي، و"التواطؤ" العربي، الذي حظي بهجوم خاص من طارق عزيز حين اعتبر الحصار برمته قراراً عربياً قبل أن يكون من مجلس الأمن الدولي. لعل أغرب ما في الحكاية التي نحن بصددها هو الموقف العربي، وبالذات المحوري منه بقيادة مصر، وإذا كان من الصعب القول ان ذلك الموقف كان سلبياً خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة على وجه الخصوص، فإن الأكثر صعوبة هو وصفه بالموقف القوي والايجابي قياساً الى حجم التحدي المطروح. ذلك أن تحول العراق الى المربع الاسرائيلي في سياق صفقة كالتي أشرنا اليها، انما يعني اعلاناً لمرحلة جديدة يكون عمادها التفوق الاسرائيلي الاقليمي والعبث بقدرة الوضع العربي على المواجهة، كما حصل نسبياً خلال الأعوام الأخيرة منذ مدريد الى الآن. ان قياس حجم الفعل بضخامة التحدي المطروح واحتمالاته السيئة يفضي الى القول بأحد احتمالين، فإما أن الوضع العربي على ثقة مفرطة بأن القيادة العراقية لن تيأس مهما بلغت الضغوط، وهي شهادة كبيرة تعطى لتلك القيادة، وتحمل الكثير من المبالغة، واما ان هذا الوضع يعاني من حالة عجز، أو يتعرض الى ضغوط لا تمكنه من التحرك. وفي كل الأحوال فإن شكلاً جديداً من التحرك قد بات مطلوباً، فاحتمال أن يصبح نتانياهو سيد الموقف في المنطقة، من البشاعة بحيث لا بد أن يكون دافعاً لذلك التحرك. * كاتب سياسي فلسطيني، الأردن.