منذ مدة والعاملون في انشطة حقوق الانسان يودون المساهمة في فتح ملف واقع وعمل المنظمة العربية لحقوق الانسان، التي شكلت احد طموحات الآلاف من ضحايا الانظمة التسلطية. وحان الوقت ليدلي المهتمون في تطوير هذا المجال الانساني بآرائهم الصريحة بعيداً عن التشهير والسلبية وبمنهجية وموضوعية، لجعل حقوق الانسان من مفردات الحياة السياسية - الاجتماعية لسكان العالم العربي. وحري بالمنظمة ان تراجع وتتفحص مسيرتها وتدرس الاخفاقات والنجاحات التي تحققت لتستخلص منها العبر وتتعلم الدروس بشفافية عالية نقدر مبادرة علي أومليل الرئيس السابق للمنظمة في نقده الذاتي لتعيد بناء وضعها على اسس جديدة وتصوغ منهاج عمل مؤثراً وفعالاً يلائم استحقاقات المرحلة الحالية للمنطقة والتحولات السياسية - الفكرية الضاغطة والوضع العالمي الجديد. ومن خلال قراءة الملف بطريقة هادئة وفاحصة منطلقة من روح نقدية ايجابية واقعية بناءة، لا يمكن للمتتبع لنشاط المنظمة الا ان يقدر الانجازات التي حققتها في مسيرة عملها خلال السنوات الماضية في وسط بالغ التعقيد اهم مظاهره استفحال داء الاستبداد والقمع عند العديد من الانظمة الموصوفة بپ"القومية التقدمية". شقت المنظمة طريقها وسط تربة غير صالحة وفي بيئة قاسية قاومت تطلعاتها وأمانيها حتى غدت كلمات وأحرف حقوق الانسان تسبب التشنج والامتعاض عند اوساط حكومية ولدى بعض الحركات السياسية الايديولوجية. لا بد من قراءة ظروف النشأة والتأسيس لتصور حجم الضغوط والاجواء الصعبة التي رافقت عملية النشوء للأمانة الموضوعياة، فعند قراءة ملف المنظمة لا بد ان تؤخذ في الاعتبار الاجواء السائدة بعد هزيمة حزيران واجواء الصراع العربي - الاسرائيلي واشتعال الحرب الاهلية في لبنان وفشل بعض الانظمة "المتحررة والاشتراكية" في تحقيق شعاراتها وتنامي نزعة السيطرة والهيمنة عند السلطات الرسمية وانعدام فرص التنمية وبناء الديموقراطية في الوطن العربي وصعود التيار الاسلامي وتعالي موجته العاتية وانحسار التيار القومي واتفاقيات السلام المصرية - الاسرائيلية…، في مقابل مصادرة الحريات الأساسية والامعان في سياسات الاذلال للمواطنين وسحق كرامتهم وقمع الرأي الآخر وزيادة عدد السجون والمعتقلات على حساب المدارس والمصانع وتنوع الوسائل لقمعية وتصاعد وتائر الانتهاكات لحقوق الانسان. تأسست المنظمة في مدينة قبرص عام 1983 في ظل تلك الظروف الصعبة وفي حاضنة غير عربية ونشأت وترعرعت وهي غير كاملة النمو، فوصلت الى مرحلة التوقف عن النمو بسبب تنامي حدة الصراع بين المتناقضات التي حوتها او تلك التي زرعت فيها. ومع ذلك استطاعت المنظمة ان تدخل حقوق الانسان في الخطاب الفكري - السياسي لبعض النخب العربية وان تعثرت في انجاز اهدافها لأسباب يأتي في مقدمها: اولاً - احتواء الأنظمة العربية للمنظمة عبر توغل ولاءاتها وتأثيراتها داخل اجهزة وقيادة المنظمة لشلها عن العمل وافشال مخططاتها في تصحيح اوضاع حقوق الانسان. قال السيد ميشال المر وزير الداخلية اللبناني انه خلال مؤتمر وزراء الداخلية العرب الذي عقد اوائل سنة 1997 في تونس أثير موضوع جمعيات حقوق الانسان. ومما قال ايضاً: "لاحظنا ان جميع الحاضرين يشكون من جميعات حقوق الانسان التي لديهم. وقالوا ان عملها وتحركها لا يهدفان الى حماية حقوق الانسان، بل الى شل عمل الاجهزة الامنية وسياسة الدول الامنية". ويعرف جيداً السادة الامناء وبعض العاملين حجم الولاءات لهذا النظام او ذاك ومدى تأثيرها على امور المنظمة، وهذا ما يتردد من طرحه وكشف حقائق الامور المسؤولين في المنظمة. ثانياً - المفارقات التي رافقت عمل المنظمة ونخرت في جسدها نجملها في: 1- التناقض الفكري بين مفهوم حقوق الانسان المبني على المساواة بين بني البشر والمفهوم القومي الذي سميت به المنظمة المبني على اساس تميزي وتفضيلي بكونها "منظمة عربية لحقوق الانسان" وكأنها لا تهتم بقضايا غير العرب من مواطني العالم العربي، ويبدو انها تنطلق في عملها من قاعدة "انصر اخاك ظالماً او مظلوماً"، او انها تتعامل مع الاقليات العرقية والقومية والدينية المنتشرة في البلاد العربية من خلال المفهوم القومي العربي المتعصب كما عبّر عنه ميشال عفلق ومنظرو حزب البعث بكون "كل من سكن الارض العربية فهو عربي". والمفروض ان تتبنى المنظمة قضايا الخصوم والاصدقاء بنفس المستوى من الدفاع عن حقوقهم لأنهم في النهاية بشر لا فرق بينهم الا في مدى ارتكاب الانتهاكات واقتراف الخروقات. والاجدر انتسمى مثلاً "منظمة حقوق الانسان في الوطن العربي"، ليشمل نشاطها وعملها سكان العالم العربي من دون استثناء. 2- سيطرة التيار العروبي المؤدلج والمسيس ذي الاتجاه الاحادي الضيق واستبعاد الكفاءات المتخصصة والناشطة في مجال حقوق الاسنان، وترتب على ذلك تسييس حقوق الانسان وتغليب الاعتبارات السياسية القومية عند دراسة ومعالجة قضايا الانتهاكات. ويحق ان نتساءل عن الأساس الذي بموجبه يتم اختيار الامناء والعاملين في المنظمة، فهل يفضل من هو من بلد معروف بشراسة قمعه واستبداده، ليعمل الشخص المختار على تحسين حالة حقوق الانسان في بلده، او من بلد تعد الديكتاتورية اهم مظاهره، او من ضمن سياسة تقريب وتفضيل الاتجاه القومي السياسي، او لاعتبارات المعرفة والصداقة الشخصية، او ترجيح الانتماء القطري المتشابه لعدد الامناء والعاملين ليسهل انسيابية العمل كما يحتج بذلك، ما افقد المنظمة ابسط متطلبات وقواعد العمل المؤسسي. 3- بعض مفاصل القيادة في المنظمة وفروعها شُكّل من شخصيات معروفة بتوليها مراكز حكومية عليا، اعتادت تسيير الامور بنمط اداري معين وضمن قوانين السلطة وبيروقراطيتها، وآخرين كانوا جزءاً من انظمة استبدادية متسلطة مارست خروقات كالتمييز والاضطهاد الواسع والقمع الدموي، وغيرهم نظّروا لافكار تناهض بالصميم حقوق الانسان كالماركسية والقومية المتطرفة والايديولوجيات الشمولية، وشغلت هذه الشخصيات مواقع تيسير اعمال المنظمة وبعض فروعها وصفهم نبيل ياسين في مقالة حول الموضوع "بالحرس القديم". ويفترض ان يكون جزءاً من عمل المنظمة مراقبة ورصد الانتهاكات الرسمية للدولة، فكيف يمكن ان تناط اليهم مهام مخالفة لما تربوا عليه وتثقفوا. 4- تناقض المنظمة مع الحكومات والمنظمات القطرية لحقوق الانسان والحركات السياسية وذلك لاتباعها المنهج السلبي من مفاهيم حقوق الانسان وهو نشر الانتهاكات والخروقات التي تقترفها الجهات الرسمية في اجهزة الدولة، من دون سعيها للمساعدة والنصح والمشورة لحل مأزق الحكومات مع مواطنيها في مسألة حقوق الانسان وتشجيعها اتخاذ اجراءات لمعالجة الاوضاع المتأزمة ما يوطد العلاقة بين الدولة والمواطنين. فلم توفق المنظمة في التأثير على الحكومات ولم تعدل من اساليبها المناهضة للاتفاقيات الموقعة عليها بكفالة احترام حقوق الانسان في بلدانها، ولا كسبت ووثقت علاقتها مع المنظمات القطرية لحقوق الانسان باعتبارها المنظمة القومية والحركات السياسية العاملة في البلاد العربية لتوليد ضغوط اخرى على الدول المنتهكة لحقوق مواطنيها. وانعدمت بذلك مهمة تجسير الفجوة وتخفيف شدة ازمة الثقة بين الحكومات والمنظمات القطرية العاملة في مجال حقوق الانسان. 5- ضعف نشاط المنظمة في المحافل الدولية سواء مع مركز حقوق الانسان في جنيف التابع للامم المتحدة او الحضور والمشاركة في المؤتمرات الخاصة بحقوق الانسان، وهو ما دفع بالمنظمات القطرية لسد هذا الفراغ، وساعد على تركيز نظرة قلة الصدقية الى عمل المنظمة، وضعف علاقاتها الدولية مع المنظمات غير الحكومية الاخرى يفقدها ايضاً التأثير واجادة صناعة الضغط اللوبي على البلدان العربية لتحسين وضع حقوق الانسان. 6- تداول المسؤولية داخل اجهزة المنظمة، خصوصاً الأمناء، فلم تحل مشكلة تغير المواقع القيادية لجيل التأسيس والنشأة على رغم انتهاء مرحلتهم منذ فترة طويلة من الزمن، وكأن العدوى للبقاء في المنصب انتقلت اليهم من الحكام الذين يبقون طوال حياتهم في الحكم، فأصبح من الضروري ابداء تغير في الاساليب والادوات والعاملين منذ فترة، ونقل الامانة لجيل آخر يختلف في استيعاب وفهم ثقافة وفكر وعمل حقوق الانسان عن الرواد المؤسسين، ليقود المنظمة بخطى ابداعية. 7- انعدام الآلية التي تتيح الفرصة لأوسع مشاركة شعبية لمواطني العالم العربي واقتصارها على النخب الثقافية المحدودة العدد والعطاء، وانعدام اي دور شعبي، وكأن حقوق الانسان مفهوم نخبوي يختص به المثقفون لوحدهم، على رغم ان اغلب ضحايا انتهاكات حقوق الانسان هم من القواعد الشعبية المحرومة من ابسط حقوقها والمكتوبة بنار الاستبداد. وبهذه الطريقة اضاعت المنظمة وسطاً مهماً يستطيع رفدها بالمقترحات التطورية لعملها وتزويدها بالمعلومات التي تحتاجها، فكانت بذلك مخيبة لآمال ضحايا انظمة الحكم. 8- افتقار المنظمة لاستراتيجية التوعية والتثقيف وزيادة مساحة الوعي بمفاهيم حقوق الانسان في البلاد العربية ومحاولة تفكيك حلقة الخوف المتبادل بين الدولة والمواطن، وقلة جهود المنظمة في السعي لتأصيل مبادئ حقوق الانسان من خلال التراث العربي الاسلامي الذي يشكل الخصوصية الثقافية لسكان العالم العربي. * رئيس مكتب حقوق الانسان ومنظمة التحالف من اجل العدالة في العراق.