عندما وقف المجاهدان يتحدثان فوق سطح احدى البنايات في الجزائر العاصمة ويطلان على حي القصبة الشعبي المعروف، كانا بذلك يسجلان للتاريخ لحظة من حياة حرب التحرير في الجزائر؟ كان هذا في فيلم "معركة الجزائر"، للمخرج الايطالي جيلّلو بونتيكورفو، الفيلم الذي حاز على جائزة الاسد الذهبي في مهرجان البندقية عام 1966، وهو من انتاج ياسف حسين، شقيق ياسف السعدي كاتب الفيلم وقائد المعركة الفعلية في الجزائر العاصمة. رواية ماري كاردينال - "حب واحد... أكثر من حب واحد..." لا تتعلق بفيلم ياسف حسين أو بكتاب ياسف السعدي، ولكنها رواية عن الجزائر الباقية في الذاكرة الفرنسية. تسعى الكاتبة الفرنسية ماري كاردينال للإجابة عن سؤالين اثنين في روايتها، الاول هو: ما هي الحياة؟ والحياة هي وقائع وتواريخ واسماء واحداث. ص37 والثاني هو: ما هي الارض؟ والارض هي الأمة والشعب واللغة والجغرافية. وهذه الارض لم تعد موجودة، لقد فقدت. ص55. والرواية هي قصة لولا، لولا التي ولدت وعاشت في الجزائر، والتي تعيش في الريف الفرنسي الآن، ولكنها تعرف التناقض بين الحياة الفرنسية في الريف والحياة الجزائرية في المدينة والمقصود بذلك مدينة الجزائر العاصمة. لولا هذه تتحدث عن مرحلة دراستها، في المدرسة اولاً وفي الجامعة لاحقاً، حيث درست الفلسفة ثم اعداد شهادة التبريز أغريغاسيون، حيث كانت تعمل في ميدان التدريس نهاراً، وتحضّر شهادة التبريز ليلاً ص16. والمسألة بالنسبة لبطلة الرواية هي الذاكرة ولا شيء سوى الذاكرة ص14 والمسألة، بهذا المعنى، هي مسألة صور تتكرر في الذاكرة هذه الصور هي ما تفكر به لولا ص9. والصورة الاولى هي صورة الباخرة التي حملت لولا من الجزائر الى فرنسا. بطلة الرواية تتذكر حياتها في الجزائر، ولكنها في الوقت عينه، تستمع كل يوم الى اخبار الجزائر والمذياع يحمل اخبار الحرب الاهلية اليوم، كما يحمل خبر دفن شاب حسين، مغني الراي الجزائري الذي قتله الارهابيون. ص41. ولماذا العنوان - "حب واحد... أكثر من حب واحد". ذلك ان الروائية تودّ ان تتحدث عن حب واحد هو حب الوطن والوطن هو الجزائر، وعن أكثر من حب واحد وهو حب الاهل والاصدقاء والعشاق. ان الحب الاول هو حب الجزائر، هو الوطن الذي يشبه كليتمنساتر زوجة أغامنون، التي قتلت زوجها وما لبثت ان قُتلت على يد ابنها أورست. والبطلة لولا تحلم بكتابة رواية، وهكذا تتّبع طريقة رواية داخل الرواية، حيث تتحدث عن إمرأة تكسب جائزة اللوتو وتسافر الى أميركا حيث تشتري منزلاً وتعيش هناك. واذا كان الوطن يشبه كليتمنساتر ص19، فان هذا الوطن يشبه ايضاً اميركا أو الفردوس المفقود. وتستعيد لولا ذكريات الوطن المفقود. كان والد جدتها قد هاجر الى الجزائر حيث ولدت جدتها أليس ووالدتها ميمي وهي لولا. ولولا تتحدث عن جدتها ووالدتها. هذه الجدة التي ولدت في الضفة الجنوبية للمتوسط والتي برغم ولادتها هناك كانت تغني دائماً أغنية: "أجدادنا الغاليّون". لولا التي ولدت في الجزائر، قضت فترة من حياتها في المزرعة دون ذكر اسم المكان، حيث قُدّر لها ان تتعرف عن كثب الى الجزائريين، وهكذا يرد اسم ديبة وزهرة وفاطمة كما يرد ذكر برداد وعواد وقادر. وهناك في المزرعة تتعرف لولاعلى عادات المسلمين: الصلاة والصوم ولكن ايضاً الكسكس والزواج والاعراس والعادات الاخرى. ولكن رواية ماري كاردينال تتحدث عن حب من نوع آخر. واذا كان الحب الاول هو حب الوطن اي الجزائر، فهناك اكثر من حب واحد وهو حب جاك وفرانسوا والبروفسور. هناك دائماً لدى لولا حب مثلث، فهناك مثلاً حبّ الجدة أليس والاب والأم" وهناك ايضاً حب مثلث آخر هو حب الرجال الثلاثة. وهو الرقم ثلاثة له دلالة خاصة لدى فرنسيي الجزائر وهذا ما لا تقوله الكاتبة لان هناك حباً مثلثاً هو حب فرنسا والمتوسط والجزائر. وتتحدث لولا دون خفر عن علاقة الحب مع جاك الحبيب الاول الذي كان يعرف معنى العلاقة الجسدية والروحية، وجاك هذا هو فرنسي تعرفت اليه لولا في الجزائر وقضيا فترة سوياً في تونس. وبعد علاقتها بجاك، تسافر لولا الى سالونيك حيث تعمل في ميدان التدريس ثم لاحقاً الى مصر للتدريس ايضاً وهناك تتعرف على فرانسوا لافوا الذي سوف يصبح زوجها. وفرانسوا لافوا كان هو الاخر يدرّس الآداب في مصر، بينما كانت لولا تدرّس الفلسفة، ولكن فرانسوا كان يحضّر لشهادة التبريز في الآداب ارضاءً لأهله ويحلم بالعمل في ميدان السينما. وبعد الزواج والاولاد الثلاثة ثلاثة هنا ايضاً والعيش في باريس والسينما تكتشف لولا ان فرانسوا يخونها ولكن الحياة تستمر. وتبقى العلاقة الثالثة مع البروفسور وهو استاذ جامعي في جامعة باريس السابعة جوسيو حيث يدرّس الانتروبولوجيا ص119. والمؤلفة ماري كاردينال تودّ ان تختم روايتها مرة اخرى بالحديث عن الجزائر، حيث تتحدث عن حرب الجزائر وعن ايام الصيف والشتاء التي كانت تقضيها مع العائلة في شريعة قرب بليدة. وبلغة شاعرية صافية، تصف لولا ايام الصيف والشتاء في شريعة حيث كانت تسمع ليلاً صوت الضباع وسط غابة الارز، وحيث الطقس اكثر اعتدالاً صيفاً بينما الثلج يغطي المنطقة شتاء. كان الخيار صعباً: الكفن أو الحقيبة، واختاروا الحقيبة، أما أولئك الذين قرروا البقاء، فهم لا يتعدون أصابع اليد من حيث العدد، ويمكن ذكر اسم القتيل - الشهيد الشاعر جان سيناك. ورغم مرور السنين، تبقى الذكرى قوية والذاكرة حية، لان حياة بأكملها كانت هناك، وكيف لهم نسيان ذلك وهم الذين يعتبرون بان ذلك البلد كان بلد المولد "Le Pays Natal" وان ذلك البلد هو وطنهم رغم كل شيء. والآن بعد مرور السنين، تجد من يقول لك بان خطأ الجنرال لا يُغتفر وان ما يجري الآن ما كان له ان يجري لو بقي الذين خرجوا هناك. ولكن الزمن يجري ومعه تصبح الذاكرة حادة اكثر فاكثر وتصبح الذكريات اكثر حيوية وتتجدد ذكريات الامس لتمس الحاصر. زمن من حاضر وماضٍ يتآخيان كأنه فقاعات صابون وكأن شيئاً لم يكن. كتب شيخ عرّاب بن سعود كتابه: "كم هم سعداء الشهداء الذين لم يروا شيئاً"" اما أولئك الذين رأوا كل شيء فهم يتذكرون، دون أدنى ريب، كتاب محمد حربي: "السراب والواقع". انه السراب والواقع، وهذا ما أرادت ماري كاردينال ان تقوله في روايتها. انه سراب الحب وواقع خيبة الأمل. Marie Cardinal - "Amour... Amour ", Paris, Grasset, 1998