يقول ابي الفتح عثمان بن جني "ت 392ه" (اللغة اصوات يعبر بها كل قوم عن اغراضهم). وتشير هذه العبارة من خلال الفعل عبر عن غاية اللغة ووظيفتها وهي القدرة على الافصاح والابانة. يشير ابو الطيب المتنبي الى الفرق بين المعنى اللغوي والقدرة على ايصال هذا المعنى عندما قال: وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم ولكن تأخذ الاذان منه على قدر القرائح والفهوم يؤكد غازي طليمات ان السر في هذا الاختلاف هو "اختلاف الرجلين فيما يمتلكان من الفاظ.. (الذي يعني) اختلافهما فيما يمتلكان من افكار، لان كل لفظة وعاء يصب فيه معنى، وازدياد الثروة اللغوية يقتضي على الاغلب ازدياد الثروة الفكرية، لان الكلمة المسافرة من فم المتكلم الى اذن السامع تحمل بين احرفها فكرة تغرسها في دماغ السامع. ولولا الكلمة الحاملة الناقلة لما استطاعت الفكرة ان تتحول الى خلية عقلية تضاف الى النسيج العصبي في المخ.." ان اللغة (ليست رموزا جامدة متحجرة، ولا اوعية للمعني، وحسب، وانما هي مواد قابلة للتصنيع، وان البشر لا يتعلمون عن طريق الملاحظة والتجربة المباشرتين وعن طريق المحاكاة والتقليد فقط، بل يتعلمون عن طريق هذه الوسائل، وعن طريق الخبرة اللغوية، وعن طريق الالفاظ التي يتولد بعضها من بعض، ويشتق بعضها من بعض). كما ان عالم اللسانيات الامريكي "نوام شمسكي"، يرى ان السلوك اللغوي عند الانسان يتشكل من الاسس الفطرية للمقدرة اللغوية التي يتميز بها العقل البشري. كما ان الانسان هو الكائن الوحيد الذي يتميز بنسق معقد يسميه علماء الاجتماع "بنسق عالم الرموز" الذي يتكون من اللغة المنطوقة والمكتوبة والقيم والمعايير الثقافية والمقدرة على التعامل مع ادوات المعرفة والعلم. لذلك فان تشكل الاعراف اللغوية وانتشارها هو عمل فطري يمارسه الانسان للتواصل مع المجموعة البشرية التي ينتمي اليها والمجموعات الاخرى التي يرغب في التعريف بنفسه لها. خلال دراستنا للعمارة التقليدية الخليجية استوقفنا عدد الوقفات كتعدد الاسماء لاحد العناصر المعمارية في البيئات الخليجية المختلفة بينما هناك اسماء شبه عامة دارجة في كل تلك البيئات؟ لعل ظاهرة الدلالات المختلفة التي توحي بها اسماء العناصر العمرانية تجعلنا نبحث عن الدوافع وراء هذا الاختلاف، وربما تجعلنا نتطلع الى فهم العوامل الاجتماعية والاقتصادية وحتى التقنية التي هذبت تلك الاسماء عبر الزمن واعطتها مدلولاتها وحتى الفاظها المحلية. ما من شك ان البيئة تؤثر على اللغة فالبحر يولد صورة في عقول من يعيشون على ضفافه والصحراء تولد صورتها، وينجب الجبل صورة الجبل، والبادية بحقولها مثل المدينة بعمرانها تنجبان صورتهما وثقافتهما. لابد اذن ان يترك التنوع البيئي والاقتصادي الذي تتميز به منطقة الخليج اثرا في تسمية العناصر العمرانية، فالبيئات الزراعية لابد ان تكون قد اوجدت لنفسها مصطلحات تختلف عن تلك البحرية والصحراوية. هذا ينطبق على البيئات الاخرى لان لكل بيئة خصائصها واقتصادياتها التي ستولد فراغات وعناصر ذوات استخدام خاص وبالتالي اسماء خاصة. لقد تداخلت الثقافات في منطقة الخليج العربي وانتقلت الاسماء من بيئات قريبة وبعيدة الى المنطقة وشكلت مزيجا لغويا خاصا مما اضفى على المنطقة خصوصية تجلت في التمازج الثقافي الذي اظهرته البيئات المحلية الخليجية التي تفاعلت مع ما جاورها من ثقافات ووطنت المستورد وصنعت منه لغة بصرية ولفظية محلية ذلك ان عملية التواصل "التثاقف" هي ظاهرة فطرية يتميز بها الانسان عن غيره من المخلوقات، فنحن لا نتصور ثقافة دون مؤثرات خارجية. والثقافة في تواصلها غالبا ما تأخذ احد شكلين اما اللغة المنطوقة او اللغة غير المنطوقة والتي يمثل الشكل المعماري وعناصره البصرية احد اشكالها. اللغة تمكن المجموعات البشرية، على المستوى الجماعي، من "تسجيل ذاكرتها الجماعية والمحافظة عليها وتخليدها، وذلك رغم اندثار وجودها العضوي والبيولوجي كمجموعات ورغم امكانية تغييرها للمكان وعيش اجيالها اللاحقة في عصور غير عصورها".. يثير كلود ليفي شتراوس في كتابه الانثروبولوجيا البنائية ما للمتقابلات من اهمية في الكشف عن البنية الثقافية لمجتمع من المجتمعات. من هذه المتقابلات الداخل الخارج، اذ ان علاقة الداخل بالخارج علاقة مشدودة بنيت حولها الكثير من الاعراف والتقاليد والقوانين، والكثير من المصطلحات اللغوية والتشكيلات العمرانية، ولاننا بحاجة فعلية لفهم البنية الثقافية لعمارتنا الخليجية التقليدية، لذلك فقد حاولنا هنا ان نستبطن ظاهرة "الداخل الخارج" في المسكن التقليدي الخليجي والتشكيلات اللغوية والعمرانية التي بنيت حول هذه الظاهرة التاريخية. لذلك فقد حاولنا في هذه الدراسة التركيز على التمازج الثقافي الذي تعكسه المصطلحات المحلية في البيئات العمرانية الخليجية. ففي منطقة الخليج العربي تداخلت الثقافات وانتقلت الاسماء من بيئات قريبة وبعيدة الى المنطقة وشكلت مزيجا لغويا خاصا. ولان الاسم، كمفهوم، مرتبط بالالفاظ التي لها وظيفة اشارية، فعلى سبيل المثال، اعتبارنا لفظا ما اسما هو ان هذا اللفظ يستعمل ضمن اطار معين لغرض الاشارة الى شيء معين بالمعنى الوسع ل "شيء". لذلك فان اللفظة المحلية التي تدل على العنصر العمراني هي اشارة صوتية استخدمها السكان المحليون للتعبير عن صورة بصرية فيزيائية او فراغية. واتفاق مجموعة بشرية على اللفظة ودلالاتها البصرية والفراغية لابد يمر بفترة زمنية لكي يحدث فيها تعريف للكلمة او تهجين لها من ثقافات اخرى. فحين "تلتقي مجموعتان لغويتان لا تعرف الواحدة منهما لغة المجموعة الاخرى،.. فان الذي يحدث في هذه الحالة ان يلجأ متكلمو اللغتين الغالبة والمغلوبة الى تبسيط احد النظامين اللغويين ليكون وسيلة تخاطب تسمى اللغة الهجين". يؤكد علماء اللغة ان الفكر يسبق النطق، اي ان الفكرة تسبق التسمية وذلك لسبيين، اولا: ان اللسان لا ينطق الا باوامر يصدرها الدماغ ليعبر عن فكرة متصورة في النفس، وثانيا: ان الفكرة الواحدة يمكن التعبير عنها بصور متعددة، وهذا يعني ان الفكرة وجدت وتجلت في الدماغ قبل ان تتحول الى لفظ يمكننا كذلك ان نفترض ان التسمية في البيئة العمرانية تدل بصورة مباشرة على القيمة الاجتماعية للعناصر المعمارية ذاتها ومرتبطة بوظيفة هذه العناصر واستخداماتها المختلفة والمعاني التي توحي بها. هذا ما يؤكده "بول اوليفر Paul Oliver" الذي قال "ان دراسة العمارة المحلية.. لابد ان تأخذ في اعتبارها القيم المرتبطة بالمصطلحات المستخدمة في وصف المبنى واستخدامه. فاذا كانت القيمة الرمزية لمنشأة مبنية يمكن تمييزها على انها شيء خاص بالمجتمع الذي بناها، سيبدو ان هناك متسعا لوجود دليل لغوي يوضح ان هذه المنشأة يمكن ان تفهم داخل الاطار اللغوي والذي هو نفسه نظام ذو اهتمامات مختلفة". كما ان ربابورت "Rapoport" اشار الى ان "العالم يصبح ذو معنى عن طريق التسمية". اما "هبراكن" Habraken فأكد ان (الاسماء ببساطة يمكنها ان تتضمن الاشكال في المحيط التي توجد فيه). على اننا يجب ان نشير لاهمية المعنى الذي تدل عليه الكلمة عند جماعة ما، فقد لاحظنا تشابها كبيرا في كثير من الكلمات المحلية في البيئات الخليجية ومع ذلك فهي تدل على معان مختلفة في كل بيئة. ولفهم ما للدلالات اللغوية للعناصر العمرانية في اللغة العربية يمكننا ان نسترشد بمثالين من القرآن. في المثال الاول، يقول الله تعالى "وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد" (الكهف 18) والوصيد هنا يعني الفناء، اي فناء الكهف، وفي لسان العرب "الوصيد" هو فناء الدار والبيت. كما ان "الوصيدة" هي عبارة عن بيت يتخذ من الحجارة للمال في الجبال. واوصد الباب اي اغلقه كما في قوله تعالى "انها عليهم مؤصدة (الهمزة، 8) نلاحظ في هذا المثال ان هناك مجموعة من المصطلحات العمرانية ولدت من الجذر "وصد" وكلها تفيد المكان المغلق او المحاط من جميع الجوانب. وفي مثال آخر، يقول الله سبحانه وتعالى "والله جعل لكم من بيوتكم سكنا" "النحل/80". هذا التحديد المبكر لمعنى البيت والمسكن من القرآن الكريم يعد اقدم ايضاح ان البيت ليس كالمسكن. فالله هو الذي جعل البيت مسكنا وورود البيت قبل المسكن فيه اشارة واضحة انه حتى يصبح البيت مسكنا بحاجة الى فترة من الزمن حتى يتحقق الارتباط الذهني بين الساكنين والوسط الفيزيائي الذي هو البيت. ولفظة "سكن" تشير الى سكون الشيء، اي ستقر وثبت، والمسكن اهل الدار وهم السكان وفي الوثائق المملوكية يرد هذا اللفظ للدلالة على من يشغل المكان او لشهرة المكان بشاغله. عند اسقاط هذا الايضاح القرآني على الجدل القائم في اللغة الانجليزية تجد ان البيت يتطابق مع الكلمة الانجليزية House بينما المسكن يتطابق مع كلمة Home. ان البيت هو الوسط الفيزيائي للمسكن ولا يعد البيت مسكنا الا اذا حدثت العلاقة الحميمة والتي يشير اليها القرآن من خلال فعل السكن الذي هو علاقة اجتماعية زمنية، وهذا ما تؤكده اشارة اخرى في القرآن الكريم حيث يقول الله سبحانه وتعالى "ليس عليكم جناح ان تدخلوا بيوتا غير مسكونة" النور/29 وفي هذه الآية اشارة واضحة الى ان البيت لا يعد سكنا اذا فرغ من ساكنيه ويفقد قيمته كوسط له حرمته وخصوصيته. ان المسكن يحمل معنى انسانيا اكثر من البيت حيث ان البيت مرتبط بالحاجة للامن لذلك نجد ان تعريف البيت هو "ما يبات فيه وهو مايدار عليه الجدار من الجوانب الاربعة والسقف" في اشارة واضحة للمعنى الفيزيائي للكلمة. اما المسكن فيتعدى الاحساس بالامن الى الاحساس بالمكان وساكنيه والارتباط بهم بعلاقة حميمة نفسية واجتماعية تجعل هذا المكان جزءا من التجربة الذهنية اليومية.