سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
احمد بن سودة ... صفحات من التاريخ المغرب : تأملات، خواطر وذكريات . لم تكن لآبائنا نظريات علمية في التربية ... ولكن كان لديهم تراث غني في التربية مستمد من العقيدة الاسلامية 12
لم أنم تلك الليلة من فرط الفرحة، فلقد أخبرتني أمي أن والدي قرر ابتداء من الغد أن أرافقه إلى زاوية الشرادي لأبدأ في تعلم الكتابة والقراءة ثم حفظ القرآن الكريم، غدا سأحمل اسم "المحضري"1 في الصباح وجدتني أمي صاحيا، ناولتني الفطور وألبستني أجمل الثياب ودعت لي، وحملني والدي بين يديه إلى زاوية الشرادي، أو المدرسة الخضراء أمام درب الدروج من حومة الجزيرة، في محراب الزاوية يوجد قبر عم والدي سيدي علي بن عبدالقادر بن سودة، وعن يمين المحراب يوجد قبر عم جدي الشيخ أحمد بن سودة الذي أحمل اسمه تبركا بمقامه وتيمنا بعلمه. كانت زاوية الشرادي كسائر الزوايا العديدة بمدينة فاس، مدفنا للمشاهير من العلماء والصلحاء والمجاهدين يقصدها الزائرون للتبرك وتؤدي ببعضها الصلوات الخمس، ولكل زاوية مصادر مالية حبسية أو ريعية تنتظم بها أمورها، ولقد تحولت زاوية الشرادي إلى مدرسة لتحفيظ القرآن وتلقين مبادىء بعض العلم في وقت ابتدأت فيه حركة انشاء المدارس، فكانت هناك مدرسة بالزاوية الناصرية، ومدرسة بالقلقليين، وكان يلقن التلاميذ في زاويتنا الدروس القرآنية السيد المختار العمراني وشيخي ومحمد الجاي ووالدي. حملني والدي إلى المدرسة وأجلسني إلى جانبه على كرسي مستطيل مع اثنين أو ثلاثة، شعرت بالزهو يتملكني، فأنا ابن الفقيه المدلل، والتلاميذ يتوددون لوالدي. وأنا أجلس باعتزاز ووقار. ها أنا أدخل تجربة جديدة. كان عمري سبع سنوات. من البيت، إلى مرافقة والدتي، إلى اكتشاف الحي واجتياز حدود الدرب... إلى المدرسة، إن كل شيء بدا لي بعد ذلك وقد تم وفق نظام مرتب، ومراقبة واعية وتوجيه محكم، فالمرحلة التي سبقت المدرسة كانت بدورها مدرسة، كان هناك مدير ومراقب واساتذة، وتمارين، وكانت هناك حصيلة تجلت في استيعاب أن ما حولي كان منظما، الأسرة، المجتمع، العقد المتماسك للتقاليد والقيم والأعراف، لكل شيء نظام، للأفراح كما للاتراح، لكل دوره ومسؤوليته يتحملها عن طواعية غير مكره عليها، والقاسم المشترك هو القناعة والرضا، لا حقد ولا بغض ولا تنافر. في يومي الأول في المدرسة شعرت بالمكانة التي تحتلها عائلتنا عند الناس، ولكن ذلك لم يكن باعثا لي على اي قدر من مشاعر الاستعلاء أو الكبرياء، فأنا ابن الفقيه سيدي يحيى، الناس يحيونه باحترام وتبجيل، وهذه الزاوية فيها قبران لجدودي. بعد أيام من الاستئناس، نزلت من فوق الكرسي المستطيل لآخذ مكاني وسط التلاميذ لابدأ في تلقي الدروس. في البداية بدأت أحفظ بضع آيات من القرآن عن طريق الاستماع المتكرر. إن أول ما يتعلمه الطفل عن طريق السماع بصقل قدرات الحفظ لديه وتخزين أكبر قدر من الآيات والمحفوظات في خزان ذاكرته، فسيحتاج لهذا المخزون في مستقبل عمره، وسيدرك أية فائدة لا تقدر بثمن لتلك المرحلة المبكرة التي تكون فيها حاسة الحفظ وقادة صافية ذات قوة مغناطيسية جبارة. بدأت أتعلم في اللوحة، وكانت البداية هي الكتابة بالتحنيش، يكتب الفقيه أو كبير التلاميذ على سطح اللوحة الكلمات بذيل القلم القصبي لا برأسه المشقوق المعد للكتابة بالمسحوق الأسود المذاب الصماغ، ثم يطلب من التلميذ أن يكتب فوق ذلك التحنيش بالصماغ، انها عملية تشبه الرسم، تتدرب بواسطتها الأنامل على الإمساك بالقلم والضغط عليه والتركيز على الخطوط المرسومة بدقة، بعد هذه المرحلة ننتقل إلى مرحلة التحنيش والسطور، فيرسم الفقيه الحروف بطرف القلم ويجعل تحتها سطرا فننقل نحن صور الحروف. ثم ننتقل في مرحلة اخرى إلى التهجي، أي تلقي الحروف والكلمات بصوت الفقيه. وفي النهاية نكون قد اتقنا كتابة الكلمات. لم تمض إلا شهور قليلة حتى تقوض كيان هذه المدرسة وتوزع معلموها على أماكن اخرى ولم يعد بالامكان استمرار عملها في نفس المكان، بقي والدي وعمي وحدهما، ثم بعد فترة وجيزة وقع نزاع بين عمي عبدالهادي ووالدي، وهنا قرر والدي الانتقال بصفوة تلامذته إلى بيتنا. وتحول بيتنا إلى مدرسة. واختل نظام البيت وانقلب رأسا على عقب، وتحملت والدتي بصبر الوضع الجديد مؤازرة لزوجها. كان عمي عبدالهادي يقيم معنا في البيت وكنت ألاحظ الجفوة بينه وبين والدي ولكنهما كانا حريصين على إظهار المودة أمام الناس وبصفة خاصة أمامي وأمام الأطفال، فلم يكن يبدر منهما ما ينبىء بما بينهما من خلاف، وطوال أيام طفولتي لم أسمع كلمة نابية بالبيت ولا صوتا يرتفع بالخصومة والمشاجرة، لقد كان آباؤنا وأمهاتنا حينما يدب خلاف أو تقع مشكلة يعالجون الأمر بعيدا عن مسامع الأطفال وانتباههم، كانوا حريصين أشد ما يكون الحرص على أن يظل بينهم وبين اطفالهم ذلك السياج الكثيف من الاحترام والوقار أسوة بالسيرة النبوية وسيرة الصحابة والصلحاء، لم تكن لهم بالتأكيد نظرية علمية في التربية يسترشدون بها ويطبقون قواعدها، ولكن كان لديهم تراث غني في التربية مستمد من العقيدة الاسلامية التي تحتل التربية فيها مكانا ساميا "فالمسلم من سلم أخوه من لسانه ويده". لم تدم فترة الخلاف بين والدي وعمي طويلا، فقد تدخل أولو الخير بينهما، وعاد الصفاء إلى علاقتهما، وتغلبت المحبة العميقة بينهما على الجفوة العابرة، وعادا معا إلى الزاوية المدرسة. غير أن هذا الخلاف شكل نقطة تحول حاسمة في حياة بيتنا، فبعد حين أصبح عمي عبدالهادي عدلا وعالما ومدرسا بالقرويين وأصبح والدي وحده بالمدرسة، فلم يكن امامه حل غير أن يحولها الى كتَّاب قرآني، فهو الوحيد بها، وهو فقيه حافظ للقرآن الكريم وليس بوسعه أن يلقن التلاميذ شيئا آخر غير تحفيظ القرآن الكريم، ولكنه احتفظ لكتَّابه بنظام المدرسة، كانت التقاليد التي درجت عليها الكتاتيب القرآنية سواء في البوادي أو في المدن هي أن يتقاضى فقيه الكتاب من آباء التلاميذ وأوليائهم مقدارا قد يكون نقديا وقد يكون هبة خلال يومين في الاسبوع، اضافة الى ما تجود به اريحية اولئك في أيام عاشوراء والأعياد، لم يكن التعويض محددا، كل على قدر طاقته، ولكن والدي، في كتَّابه الجديد، حافظ على نظام المدرسة في التعويضات، وهو آخذ قدرا معينا كل شهر مقابل وصل بالاستلام، كما حافظ على نظام المدرسة فيما يرجع للعطل، ورفض أن تقام للاطفال حفلات "الختمة" وهي الحفلات التي كانت تقام عادة للطفل كلما قطع مرحلة مهمة في حفظ اجزاء من القرآن الكريم، وأكبر حفلة هي تلك التي تقام عندما يستظهر الطفل القرآن كاملا ويتقن رسمه. كانت أيام والدي بهذا الكتاب أيام ازدهار، وكنا ننعم بسعادة غامرة وحياة هنيئة، وكان والدي سعيدا بعمله وباستقلاله في ادارة مؤسسته الصغيرة، واقبلت الدنيا على أسرتنا، لم تكن وضعية عائلتنا قبل ذلك عسيرة كل العسر، ولكنها لم تكن يسيرة كل اليسر، ولكن والدتي كان لها مطمح آخر هو أن يصبح زوجها عدلا كأخيه ووالدها وابناء عمها... واخيرا كأخيه عبدالهادي، ولم لا، وهو فقيه وسليل أسرة الفقهاء والعلماء وشيوخ الاسلام، ولم تكن ترى في تحقيق هذا المطمح منفعة مادية أو سلما ترتقيه الأسرة في مدارج الغنى، بل كانت مؤمنة أن زوجها يستحق أن يكون عدلا ثم إن "خطة العدول" منصب مرموق في المجتمع لا يرقى اليه إلا "الراسخون في العلم" والاصالة والصدارة الاجتماعية، وهو منصب يؤمن الاستقرار ويجنب صاحبه نوائب الدهر، وظلت رحمها الله تبذل كل جهد لاقناع زوجها برجاحة رأيها وتفكيرها، وتحثه بالرقة واللطافة والمحبة، كان يضمر لها محبة غامرة، ويشركها في كل شأن من شؤون حياته وتفكيره واهتماماته، يسعى إلى نصيحتها ويأخذ برأيها فيرجحه في كثير من شؤونه. وأخيرا اصبح والدي الفقيه يحيى بن سودة عدلا في سماط2 العدول، وترك المسيد، وتكلف بتسييره الفقيه الجاي الطويل. وفي الوقت الذي تحقق فيه حلم والدتي، وسعد والدي بعمله الجديد، كان الحزن يخيم على نفسي، وأظلمت الدنيا في عيني، ولم يدرك أحد من أهلي أو زملائي بالمسيد حجم تلك النكبة التي حلت بي، ذلك أني لم أعد "ابن الفقيه"، وأصبحت تلميذا من تلاميذ الكتاب، وقد أتعرض للملامة أو قسوة التنبيه من طرف الفقيه، وقد يرى يوما ما يستوجب جلدي "بفلقة3" في صباح بارد. قرأت عليه بضعة أسابيع، ولكنه لم يلبث أن مرض لايام قليلة ومات، فسرت في جنازته ينتابني شعور عميق بالارتياح، كنت أظن أن وفاته ستحل عقدة الحزن في نفسي، ولكن وبعد يومين فقط حل مكانه فقيه آخر، هو الفقيه الراشدي، وحينما جلسنا تجاهه في أول يوم أشاعت نظراته القاسية فينا الخوف والرعب، لقد كان حقا مخيفا، قويا قاسيا، كيف لي أن أتحمل هذا الرعب اليومي بعد تلك الأيام الزاهرة في كنف والدي ووداعته ودماثة خلقه وسماحة محياه؟ شكوت لأمي باكيا، وقد أكون اصطنعت اظهار ارتعابي بقدر غير قليل من الدموع والنحيب، فقد كنت مطمئنا إلى العاطفة الجياشة لوالدتي تجاهي، وكنت أعرف أن السلاح الأمضى الذي يمكنني استعماله لتحقيق رغباتي هو اللجوء إلى النحيب وإظهار الفزع والخوف، وهكذا اشفقت أمي لحال ولدها والتمست من أبي أن ينقلني إلى كتَّاب آخر، وانتقلت فعلا إلى مسيد الفقيه المراكشي بباب درب الشيخ، وسعدت لذلك، ولكن والدتي كانت أكثر سعادة مني، فالمسيد الجديد لصيق ببيتنا، وسأكون قريبا منها إذا احتاجت إلي ويكفي أن تصعد الخادمة زهراء لسطح منزلنا وتطل فوق سور السطح لتنادي الفقيه فيأذن لي بالخروج. كان الفقيه المراكشي شيخا وقورا رزينا هادىء النبرات ذا لحية بيضاء تكسو صدغيه وتتدلى قليلا من ذقنه، نظيف الثياب، وفوقه منصورية بيضاء ناصعة ويتمنطق بالحزام العريض المضمة تتدلى منها حمالة بها كتاب دليل الخيرات، وحينما يستوي بمجلسه يقضي وقتا آخر في ترتيب جلسته وتسوية أطراف لباسه الجميل، ثم يشرع في تلقيننا. كان الفقيه المراكشي يخصني بعناية ملحوظة، فقد كان التحاقي بكتابه مدعاة لافتخاره. كان يقول مزهوا للناس "هذا ابن الفقيه سيدي يحيى معلم المدرسة، وعندما قضى الله فأقفلت لم يجد الفقيه سيدي يحىى مسيدا أفضل من مسيدي هذا"! وقد أثمرت هذه الدعاية الذكية ثمارها فالتحق بكتاب الفقيه المراكشي عدد كبير ممن كانوا بمدرسة والدي، اطمأنت نفسي قليلا إلى المسيد وإلى الفقيه، وأقبلت على تلقي الآيات وكتابتها، وحفظها وأظهرت تفوقا ملحوظا وسرعة كبيرة، وماهي إلا أيام حتى كنت قد حفظت إلى سورة "قد سمع". ولكن سرعان ما ساورني السأم، ولعلني كنت أشعر بحريتي محدودة بسبب وجود الكتاب جنبا لجنب مع بيتنا. وهذا ما يحد من الرغبة في أن أكون في مكان بعيد عن عيون العائلة، ووجدت الحجة المناسبة لاقناع والدتي باقتراحي الجديد، وهو أن انتقل مع أبناء اخوالي عند الفقيه اليعقوبي الذي كان له كتاب بباب رحبة الزرع بالصفاح، اي انه كان بعيدا عن بيتنا، كان ابناء اخوالي حماد وعبدالواحد وسيدي الوافي في مثل سني، وافقت الأم على اقتراحي وقدمته بطريقتها الخاصة إلى والدي الذي نفذ الطلب راضيا، ولاحظ والدي بعد مرور عدة أيام انني تراخيت وبدا عليّ الاهمال، فقد كان حريصا كل يوم على متابعة سيرتي الدراسية ومعرفة مستوى تقدمي، وكان بمستطاعه معرفة درجة تقدمي أو تأخري في التحصيل، فالامر ببساطة يتعلق بحفظ القرآن الكريم حزبا بعد حزب، فلابد أن يكون لكل يوم حصيلة من الحفظ. فإذا تعثرت الحصيلة أو ضعفت فإن في الأمر ما يستوجب التصرف الذي يعيد الأمور إلى نصابها. وهذا ما فعله والدي. ففي تلك الأثناء أصبح اسم الفقيه السيد العربي الدرقاوي ابن عم السيد رشيد الدرقاوي معروفا ومشهورا كفقيه حازم يؤدي مهمته بأمانة وانضباط.ذاع صيت الفقيه الدرقاوي فأخذني والدي إليه، ولم يصدر مني أي اعتراض، فذهبت منصاعا شاعرا بالذنب حاملا نفسي على أن أبذل الجهد الذي يعيد لوالدي ثقته في نباهتي. موعد مع الرعب كل صباح كان الفقيه الدرقاوي طويل القامة فارعها، ذا لحية شديدة السواد كثيفة تغطي وجها عبوسا مخيفا، لا يبتسم، لقد اتخذ من مسجد سيدي المخفي كتابا ومسكنا لا يبرحه، وكان الاقبال عليه كبيرا، وسرت الروايات بذكر حزمه واستقامته، ولكن قسوته وغلظة معاملاته للأطفال لم تؤت ثمارا طيبة، فكل الذين عرفتهم بكتابه غادروه قبل اكمال حفظهم للقرآن الكريم. لقد أخذت كل حذري حتى لا أقع فريسة قسوته، فكنت منضبطا هادئا ومسالما ومجتهدا، كنت أخافه بالرغم من انه لم يمسني بقضيبه الطويل المدبب في أي يوم من الأيام، ولكن صورته المرعبة لم تكن تفارقني لدرجة أنني كنت أصحو مذعورا من نومي وأسأل: "هل طلع الصبح أما مازال.." فلي كل صباح موعد مع الرعب. هذه المرة لم أجأر بالشكوى، ولا عمدت إلى استغلال عاطفة والدتي علي، انطويت على الرعب الذي تملكني من الفقيه الدرقاوي وبذلت كل جهدي في التحصيل، ولكن والدي قد سمع الكثير عن قسوة الفقيه ولاحظ آثار تلك القسوة في عيوني الزائغة ومعنوياتي المضطربة، خاف علي، فالحزم محمود في التربية والتعليم ولكن ليس إلى درجة إشاعة الرعب والذعر في نفوس الاطفال، إن النتيجة تكون حينئذ عكسية، وهكذا نقلني من كتاب الفقيه الدرقاوي إلى كتاب آخر للفقيه ادريس المكناسي وكان يعرف بلقب "فجيلة". أصل هذا الفقيه من مكناس، وكان قد استقدمه إلى فاس لتعليم ابنائه عم جدنا سيدي أحمد بن سودة شيخ الاسلام وقاضي الجماعة بمكناس. قدمني إليه والدي في يوم عيد، فهتف الفقيه فرحا "مرحبا.. مرحبا" وقص علي والدي ذكريات له مع جدنا وولي نعمته سيدي أحمد بن سودة. المؤذن ابن سودة أشاع الفقيه المكناسي في نفسي الطمأنينة، فقد شملني بعطف خاص ومحضني ثقته، وماهي إلا أيام حتى صرت زعيما من زعماء المسيد، أكلف من طرف الفقيه بمهام لا يكلف بها من التلاميذ إلا المقربون والنابهون والمتقدمون، وصرت أساهم في تنظيم حفلات عاشوراء وهي مناسبة فريدة لفقهاء الكتاتيب لجلب قدر وفير من المال والهدايا من اولياء التلاميذ والميسورين، وكذا حفلات سابع المولد النبوي. بل إن الفقيه المكناسي أصبح يكلفني أحيانا بالآذان في الصومعة وهو شيء عظيم وجليل. أذكر أول مرة أذنت فيها، صعدت الصومعة وأشرفت منها على سطوح منازل الحومة، وتجولت بنظراتي في ذهول وهيبة إلى كل مكان يتراءى لي من مدينة فاس، صوامع بارزة هنا وهناك، وفي الوسط تبدو صومعة القرويين، أمعنت النظر فيها، تملكتني الرهبة، إني أتطلع إلى صومعة القرويين فمنها سآخذ الاشارة للآذان حينما أرى العلم يرتفع فوقها. هاهو العلم يرتفع وينطلق صوتي مرددا: الله أكبر الله أكبر. أكملت الآذان، وعدت أتفحص بعيني السطوح والمنازل والأفق الممتد، كانت اصوات الآذان من الصوامع الاخرى تتجاوب وتتموج بامتدادات وبنبرات مختلفة، تمنيت لحظتها لو كانت لي حنجرة رجل قوي عريض ليغطي صوتي على سائر الأصوات، ليخترق جدران البيوت والسطوح، ولكن صوتي كان صوت طفل، لقد بذلت كل قوة لاقتلاع آخر ذرة في جسدي وكياني ليعلو صوتي إلى آخر مدى، تخيلت ان والدي ووالدتي قد سمعا صوتي وميزاه، ولابد أن السعادة قد غمرتهما لو سمعاني، قفلت هابطا ادراج الصومعة وحينما أشرفت من بابها المفتوح على داخل المسجد أحسست بكبرباء! ثقة الفقيه المكناسي في وتكليفي بهذه المهمات والمسؤوليات فتحت عيني على اشياء كثيرة، فلم يعد الكتاب مجرد مكان لتلقي الآيات وامتثال التعليمات والنواهي، ها أنا أحس بشخصيتي وأمارس قدراتي، ولكن مقابل هذه التجربة على مستوى الاحساس بشخصيتي نسيت واجباتي "كمحضري"، وكاد ينمحي من ذاكرتي ما حفظته في الكتاتيب الأخرى، وأحسب أن الفقيه المكناسي لم يكن مهتما بذلك كثيرا، وكانت عنايته متجهة إلى خلق المزيد من الفرص لامتاعنا واضفاء البهجة على نشاطنا، وهكذا فقد كان يشجعنا على القيام برحلات ترفيهية، ولا يبدي أية معارضة أو انزعاج إذا علم انني رافقت جملة من أصدقائي إلى عرصة4 الطاهريين، أو عرصة الشاميين. كانت هاتان العرصتان عبارة عن حدائق غناء مليئة بأشجار الفواكه وكنت أجد متعة لا وصف لها في ارتياد العرصتين مع ابناء الطاهريين والشاميين، نتسلق الأشجار ونقطف الفواكه. كما كنت أذهب مع رفاقي إلى وادي الزيتون، وكل ذلك فتح آفاقا فسيحة لمخيلتي، وأذكر انني كنت أسير شغف ساحر بالألوان، ألوان الزهور والنباتات، هاهي الطبيعة تكشف لي عن مفاتنها الساحرة في مدينة فاس. أول مظاهرة خرجنا من الكتّاب وتوجهنا إلى القرويين، وطفنا بالمساجد، ودلفنا كل الأزقة والدروب، كان الوجوم يخيم على الوجوه، والناس يتهامسون فيما بينهم والاكتئاب باد على وجوههم. رجعت إلى البيت فوجدت والدي يقرأ بصوت خفيض القرآن الكريم، ووالدتي تكر حبات سبحتها وهي تتمتم بالدعوات. فاس تصلي وتقرأ اللطيف. والفقيه المكناسي يأمرنا كل صباح ومساء بقراءة اللطيف. وذات صباح انتشر في فاس العسس والمقدمون يعلقون المناشير بمنع قراءة اللطيف ويقرعون أبواب البيوت يطلبون من الناس الكف عن قراءة اللطيف ويهددون الجميع بالعقاب. وقف المقدم بباب كتابنا، فساد الصمت، وتوجهنا إليه بأنظارنا متطلعين، في عيوننا خوف وكراهية. وقال المقدم للفقيه المكناسي بلهجة الأمر والوعيد: ممنوع قراءة اللطيف.. ومن يقرأه سينال عقابا شديدا! وانصرف دون أن يجيبه الفقيه بكلمة، ولكنه توقف عن قراءة اللطيف. شعرت بغيظ شديد من اذعان الفقيه المكناسي ومن العنجهية التي أظهرها المقدم أمامنا. كانت هذه هي المرة الثانية التي أجد نفسي فيها وجها لوجه أمام المقدم، المرة الأولى بسبب النشيد الذي كنت أردده مع اصحابي على عبدالكريم الخطابي، وهذه المرة بسبب اللطيف. لم ادرك وقتها كنه ذلك الشعور الذي اجتاحني تجاه المقدم، وهو شعور الكراهية، فهذا المقدم لا يفعل شيئا سوى أن يضطهدنا، ويمنعنا، ويطاردنا، وامتزج الخوف منه بالحقد عليه... وبكراهيته، ولكن هذه المرة يتعين عليّ أن اواجه سلطته وأن أتحدى اضطهاده. وهكذا قررنا نحن جماعة صغيرة من أطفال الكتاب أن نؤسس جمعية أو جماعة منا وممن نثق في ثباتهم وشجاعتهم وكتمانهم للسر، وأسسنا الجمعية بالفعل. وكانت مهمتنا الوحيدة أن نجتمع ونقرأ اللطيف خفية عن الأنظار، وهكذا فعلنا، وتحدينا سلطة المقدم والمناشير. وبقي عليّ أن أبحث عن الوطنيين. أريد الاتصال بهم، ولكن، كيف؟ وأين؟ كانت حادثة اللطيف بالنسبة لي كالشرارة التي اشعلت في نفسي الأفكار والتساؤلات، ولكني لم أجد من يدلني على الوطنيين أو يتقصى حقيقة انفعالاتي الداخلية ويترجمها لي في كلمات، أو مواقف، أو تصرفات..! مرت ثلاث سنوات بعد ذلك. وكنت قد التحقت بالقرويين، ففي سنة 1933 كنت من المسيرين النشيطين لجمعيات التلاميذ السرية التابعة لكتلة العمل الوطني. وبعد ذلك بثلاث سنوات في سنة 1936 كنت من خطباء المظاهرات التي اجتاحت فاس ومن المشاركين فيها بسهم وافر. إن لهذه الاحداث في حياتي وفي مسيرة الكفاح الوطني مكانا آخر في هذه المذكرات. كان والدي يراقبني ويتابعني بعين يقظة، لا أذكر انه عنفني أو حاول صدي عما كان يلحظه من تصرفاتي وانشغالاتي بأمور لم يكن يرغب في أن تؤثر على سير دراستي. ذات يوم، ووقبل العشاء دعاني للجلوس أمامه وأخذ يمتحنني فوجد اني قد ضيعت الكثير من السور التي كنت حفظتها، وهنا قر رأيه على أن يخرجني من كتاب الفقيه المكناسي ويلحقني بالمدرسة الخضراء التي عاد إليها الفقيه الجاي رفيق والدي في نفس المدرسة سابقا. ها أنا في نفس الزاوية التي حملني إليها والدي ذات صباح بين يديه واجلسني إلى جانبه على الكرسي المستطيل. وها أنا اجد بالزاوية بعض الرفقاء الذين كانوا معي، ولكنني هذه المرة أدخل الزاوية شخصا آخر... وشخصية أخرى. فبعد تلك الرحلة الطويلة من كتاب إلى آخر انمحت من ذاكرتي أنني كنت ذات يوم "ابن الفقيه المدلل" وحتى رفاقي عاملوني كواحد منهم دونما مجاملة أو تزلف. وأذكر اني عدت من عند الفقيه الجاي وفي لوحتي الآية الكريمة الآتية: "إذا ناديتهم إلى الصلاة اتخذوها هزؤا ولعبا". دخلت على الفقيه الجاي فأجلسني امامه وقال لي بنبرة أسى: ياسيدي أحمد أعرف انك قوي الحافظة سريعها، لقد اضعت وقتا طويلا دون أن تحصل على شيء جديد، لو بقيت هنا لكنت جمعت السلكة، والآن لابد أن تبذل جهدا كبيرا لتعويض مافات، أنت ابن الفقيه سيدي يحيى وهو فقيه بصري أي يقرأ القرآن سبع قراءات وهو من عائلة كلها علماء، إنك تحمل اسم هذا الرجل المدفون هنا.. أنظر واقرأ ماهو مكتوب على ضريحه، وإلى جواره ضريح عم والدك علي بن عبدالقادر بن سودة العلامة ايضا، فاحزم رأسك وتوكل على الله واجتهد. كانت كلمته شحنة قوية مست مكامن نفسي، وأشعرتني بالمسؤولية وشحنتني بالحماس، وأقبلت على الحفظ والتحصيل وكانت معاملة الفقيه الجاي لي معاملة الاحترام، فلم يرفع عليّ القضيب في يوم من الأيام، وكانت طريقته في التعليم والتربية طريقة مثالية، كان ودودا إلى التلاميذ يقربهم إليه ويسدي إليهم النصح في رفق، ويتمازح معهم في أدب وتخلق، يصلح اخطاءهم بطريقة لا تشعرهم بالنقص بقدر ما تحثهم على التركيز. وأذكر في هذا الصدد قصتي معه... أو قصتي مع الصاد والدال، فكان يملي علي من سورة "اقترب للناس حسابهم" وكانت أصوات التلاميذ مرتفعة كل يتلقى منه آية تختلف عن الأخرى، فأملى علي "وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة" فكتبت الصاد سينا عملا بالقاعدة التي تعلمتها وهي أن كل ما ورد في القرآن الكريم من قسم فهو بالسين، فقست هاته على تلك، فلما سلمته اللوحة ليصححها حول بقلم غليظ السين صادا، وكتب الصاد على هيأة ضخمة تشبه سنام الجمل، وناولني اللوحة دون أن يعقب بشيء. إن ذلك الصاد، وشكله المثير، لازال ماثلا أمامي لحد الآن، وفي السطر الثالث من اللوحة بالضبط. ومرة اخرى أملى علي قوله تعالى "منهم أمة مقتصدة" فكتبت الدال صادا فأصلحه أيضا بنفس الطريقة المثيرة للانتباه، ولايزال أمام عيني ذلك الدال على شكل كماشة ضخمة. كان يقص علينا حكايات وأخبارا ينتقي موضوعاتها بعناية ويضمنها توجيهات غير مباشرة ليحبب إلى نفوسنا حفظ القرآن الكريم والتعلق به والاقبال عليه بقلوبنا وعواطفنا. 1 التلميذ التي يتابع تعليمه بالكتّاب 2 مكان يجلس فيه العدول في حوانيت متلاحقة 3 أي علقة.. حيث يضرب التلميذ في اسفل قدميه بسوط 4 الحديقة * تنشر المذكرات بالاشتراك مع صحيفة "الاتحاد" الظبيانية على حلقات، اربع مرات في الاسبوع: الاثنين، الثلثاء، الخميس والسبت.