خالد محمد باطرفي .. تقوم الأمم في نشأتها على جيل من الرواد يصنعون البدايات ويضعون الأساسات. الشيخ عبدالرحمن فقيه أحد أولئك الرواد الذين بدأوا في الزمن الصعب وانطلقوا من المساحة اليباب، ليبنوا للوطن ويخدموا مواطنيه. تميزت رحلته منذ البداية بشغف العلم ورغبة التعلم، فسعى للمعلومة رغم شحها أينما وجدها أو أوجدها. ولأن الحاجة أم الاختراع، فقد وظف كل ما توصل اليه في اكتشاف الغائب والمستور والمجهول، واستخراج درره لخدمة مجتمعه. فمن محاولاته الأولى لتصنيع الصابون الى براءات الاختراع الأخيرة في مجال التكييف وتوفير المياه والطاقة، عكف الباحث والمخترع على البحث عن حلول لمشاكل وطنه من بيئته وبإمكاناته الذاتية. وتميز أداؤه بطلب المثالية في كل منتج، والدقة في كل عمل، والإضافة في كل إنجاز، والخدمة المجتمعية في مجمل العطاء. هكذا كانت سمات مشاريع فقيه من السمن النباتي للدواجن، ومن مشاريع تعمير مكةالمكرمة الى زراعة وتبريد أجواء المشاعر، ومن مصانع الأعلاف الى المشاريع السياحية على كورنيش جدة، ومن مركز فقيه للأبحاث والتطوير الى مدارس فقيه النموذجية. لم يكن فقيه تاجرا يبحث عن المنتج المضمون، بل غامر في كل مرة بتعريف المستهلك على سلع مجدية لم يعتدها، كالسمن النباتي والدواجن. وغامر أكثر في مشاريع شركة مكة للإنشاء والتعمير بإدخال مفاهيم جديدة كجمع شتات الأملاك الصغيرة والأوقاف في مشاريع كبرى تخدم أطهر البقاع واعز الضيوف، ضيوف الرحمن. وهاجس المعلومة الذي طاردها في شبابه لم يغادره يوما فحرص في كل مشروع على إيجادها وتوظيفها، فكانت دراسات الجدوى التي يقدمها لولاة الأمر مثالا على جودة الدراسة ودقة المعلومات وكفاءة التوظيف. كما بدا ذلك في حرصه على تأسيس المختبرات ومراكز المعلومات في كل مشاريعه. ضيفنا الكبير لديه الكثير في عمره الطويل بإذن الله من الإنجاز والعطاء، تلخصها هذه فصول هذا الكتاب لعلها توفر النموذج والفائدة للجيل الحالي والأجيال القادمة، والذكريات الجميلة والأثيرة لمن سبق من الأجيال. مذكراتي .. لماذا؟ سألني حفيدي ببراءة الأطفال عما اذا كان "بابا"، أي والدي يرحمه الله، قد أخذني الى "يورو ديزني "في باريس وما اذا كنت أحب "ميكي ماوس"وعن برامج وأفلام الكرتون التي كنت أتابعها على التلفزيون . لم أتمالك نفسي من الضحك ، وأخذني السؤال البريء لحفيدي وقد فرغ لتوه من مباراة مع صديقه على "البلاي ستيشن"، الى البحث عن إجابة تلخص ثمانين عاما من عمري بدأت بالطفولة التي كان حفيدي يقارنها بحياته اليوم، دون أن يعلم أنها كانت تختلف عن طفولته كاختلاف صيف مكة اللاهب وبرود الهدا، فلا مجال للمقارنه بين رفاهية اليوم وقسوة الأمس البعيد. النعم لا تدوم! لقد اختصرت إجابتي لحفيدي بأن حياتي مع "بابا وماما"لم يكن فيها كهرباء ولا سيارات ولا "ميكي ماوس"ولا كمبيوتر، بل ولا حتى مدارس مثل مدرسته اليوم .. وكان يمكن أن أزيد في هذه ال "لا"دون أتوقف، لولا إدراكي بأنه وأبنائي الذين عايشوا بداياتي وأقرانهم لا يدركون أن العالم الذي عشناه لا يكاد يشبه العالم الذي يعيشونه. لم يعرف جيل اليوم حياة الحفر في الصخر لاستخراج قوته، فقد أنعم الله على بلادنا برخاء لم نعهده من قبل. ولكن علينا ونحن نتمتع بهذه النعم أن لاننسى ماجاء في الأثر (أخشوشنو فإن النعم لا تدوم). كما علينا أن نتذكر دائما قول الحق تبارك وتعالى (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)، وهو التوجيه الإلهي الذي طبقه الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما نهر أولئك النفر الذين جلسوا في المسجد منقطعين للعبادة، متكلين على رزق يأتيهم به آخرون، وقال لهم (أخرجوا واطلبوا الرزق فإن السماء لاتمطر ذهبا ولافضه). نعم إن الحياة لا تبتسم إلا لمن يجتهد ويتعب ويتوكل على الله في البحث عن الأفضل بكل الطرق الأخلاقية والشريفة المتاحة أمامه . بعض مشوار .. بعض حياة! ولإيصال هذه الرسالة لجيل الحاضر والمستقبل، سلمت أخيرا واستجبت لمطالبة أبنائي والخُلّص من أصدقائي بكتابة لمحات من مسيرة حياتي بعد أن كنت ولفترات طويلة رافضاً لهذا التوجه قناعة مني بأن لكل حياة خصوصيتها . أردت لأبنائي من هذا الجيل الذي أنعم الله عليه بحياة الدعة والرفاهية وتيسر التعليم لهم أن يدركوا أن أبائهم قد ناضلوا من أجل كل كتاب ودرس، وكافحوا من أجل كل قطرة حبر، حتى أختلط الحبر بالعرق. كنت في السابعة عشر من عمري، ولا زلت أستقطر العلم .. قطرة من هنا وقطرة من هناك، لإشباع نهمي للتعليم وللأرتقاء بسلّمه إلى حياة أفضل .. ورغم أني لم أحصّل من ذلك العلم إلا القليل إلا أن ما حصّلته مكنني من التطور بالمهنة وتجارة الوالد ومضاعفة أرباحها. لاحاضر بدون ماض ولا مستقبل بدون حاضر، وبتوفيق الله وبالكد والمثابرة في البحث عما هو أفضل يفتح الله الأبواب والطرق التي توصل المرء الى مايتمناه لحياته. فالسكون والدعة والتسليم بالأمر الواقع في حياة الإنسان دون تطويرها لن تغير من حياة ذلك الإنسان شيئا. ومن هنا فإني سأحاول أن أسطر بين دفتي هذا الكتاب بعض مشوار حياتي ليس لأني أريد أن أستعرض أمجاداً أو بطولاتا، ولكن لأ فيد أبنائي وأحفادي، ولأبرهن أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، وهو المبدأ الذي شكل هوية وقناعة مشواري، ما مضى منه وما سيأتي، بإذن الله. شاكرا لأبنائي وأصدقائي حسن ظنهم بي، وحرصهم على الإستفادة من تجربتي.اللهم اجعلني خيرا مما يظنون، ولا تؤاخذني بما يقولون، وأغفر لي مالا يعلمون . ولادتي ب"شعب عامر" ولدت بمكةالمكرمة في عائلة متوسطة الحال في عام 1343ه تسكن منزلا متواضعا في "شعب عامر"، وهو من أحياء مكةالمكرمة المعروفة والمشهورة .. وهناك مثل دارج يقول (أهل مكة أدرى بشعابها). وينسب شعب عامر، كما جاء في الموسوعة الحرة (الأشهر والأكبر بالإنترنت)، "ويكبيديا"، إلى عبدالله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس. نزل به مضاض بن عمرو بنو نابت بن إسماعيل عليه السلام، بعد أن قتل (السميدع) ملك من ملوك اليمن كان يحكم مكة وصار الأمر إلى مضاض بن عمرو وعقد صلحا مع خصومه في شعب عامر، وكان ينحر كل يوم مئة بدنة. ثم كسا البيت العتيق كسوة كاملة. وكان بفوهة شعب عامر دار يقال لها دار (قيس بن مخرمة) كانت لبني عبد المطلب بن عبد مناف. ولا يزال شعب عامر اسم يعبر التاريخ إلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله عز وجل. ويقع هذا الحي الشهير بجوار الحرم، وهو من الأحياء العتيقة. يرتبط بحي الملاوي بطريق جبلي يسمي "طلعة خندمه"ويحتوي على فنادق وشقق لحجاج وزوار مكة. ومن أهالي شعب عامر: الأشراف العبادلة، آل المصري، اشراف آل الجمل، آل المحياني، آل البطحي، آل الخليفي، آل البديوي، آل النويصر(عائلة الشيخ ناصر بن علي بن سعد النويصر )، آل المعتق، آل الحليس، آل الطيار، آل الطويرقى، آل النقيطى، آل أبو الريش، آل مجاهد، آل الجحا، آل الحريرى (وهم غير آل الحريرى بالمسفلة وسوق الليل)، آل البحا، آل الباتى، آل السجينى، آل الصعيدى، آل الشتيوى، آل المحلاوى، آل القرشى، آل الخراشى، آل الكدوان، آل القفاص، آل عيد، آل الرشيدى، آل السروجى، آل سرور، آل زارع، آل المددين، آل باقازي، آل برجيسي، آل الدمنهوري، آل العليان، آل التونسي، آل فقيه. أما مكان بيتنا الذي ولدت فيه فلا أستطيع تحديد موقعه الآن، فقد تغيرت معالم الحي كثيرا بعد انتقالنا منه الى القسم السكني من "المدعى"، وهو حي تجاري. أسرتي واخوتي والدي عبدالقادر بن محمد فقيه ، يرحمه الله، كان من أولئك الذين حفروا الصخر في سعيهم للحصول على لقمة العيش. عمل عند الشيخ قاسم حريري، الذي توسم فيه الخير فزوجه ابنته التي أنجبت منه خمسة من الأبناء أكبرهم محمد الذي يكبرني بخمس سنوات، وهو شاعر وأديب ، بدأ حياته في سلك الدولة فكان آخر منصب تولاه هو مدير عام المطبوعات بمكةالمكرمة .ثم جئت إلى الدنيا بعده، ولحق بي عمر والذي كان آخر منصب له هو "وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء ورئيس ديوان المراقبة العامة"، ثم الدكتور سليمان، وهو طبيب باطني تدرج في عدة وظائف قيادية بوزارة الصحة ثم تفرغ لعيادته الخاصة حتى أنشأ مستشفاه والذي يعد من أهم وأكبر المستشفيات الخاصة في المملكة. وكان آخر أشقائي صالح، رحمه الله، أنشأ مصنعا للبلاستيك، وهو الابن الخامس .. وثلاثة من البنات . ألعاب زمان وقد كان والدي صارما في تربية أبنائه .. وكانت حياتنا متقشفة، فلم نعرف في طفولتنا الحدائق ولا الملاعب ولا وسائل الترفيه التي يتمتع بها أطفال اليوم . كانت معظم الألعاب التي كنا نمارسها في ذلك الوقت من البيئة المكية، مثل الكبُّوش، البرجوه، الكبت، البربر، عسكر وحرامية. وهذه الألعاب لا تحتاج إلى استيراد أو شراء، فقد كانت كما يلي: 1. البرجوه: تصنع من الحجر "شبيكي". 2. الكبوش: تصنع من مفاصل الخرفان . 3. الكبت: وهي لعبة ترسم على الأرض . 4. والبربر:وهي أيضا ترسم على الأرض . ولكل لعبة من هذه الألعاب قواعدها وقوانينها وحكامها الذين هم عادة من الأطفال، وكان الوالد رحمه الله لا يسمح لنا بممارسة كل هذه الألعاب إلا الألعاب الخفيفة مثل (الكبوش وعسكر وحرامية).وعندما أقول أن ألعابنا من وحي البيئة المحيطة بنا فإني سأستدل بلعبة "الكبوش "هذه والتي كانت من أشهر ألعابنا .فالكبوش "جمع كبش"و هو على وجه التحديد عظمة صغيرة في مفصل القدم "العرقوب"في الأغنام والتي تؤخذ عند ذبحها ويتم تنظيفها بحكها بحجر خشن مما لصق بها من اللحم او الشحوم حتى تصبح ناعمة . أما طريقة لعبها فتتم عن طريق تجميع تلك الكبوش بالأعداد الموجودة مع كل لاعب في وسط دائرة مرسومة على التراب. ويبلغ عدد الكبوش من عشرة الى ثلاثين توضع في صف واحد. ويبدأ اللعب بأن يرمي كل لاعب بكبش ثقيل تلك الكبوش من على بعد ثلاثة أو أربعة أمتار فإذا أصاب إحداها وخرج من الدائرة أخذها، وهكذا حتى تنتهي اللعبة بفوز من يخرج أكبر عدد من الكبوش. الدراسة في الكتاتيب عندما بلغت السابعة أدخلني والدي في كُتَّاب قريب من دكانه، وهو عبارة عن مسجد فيه "فقيه"هو إمام المسجد، واسمه الشيخ "حزّين". وكان، يرحمه الله، رجلا فاضلا قدم الى مكة من مصر واستوطن فيها. وأكاد أراه الآن أمامي وهو يرتدي جبته ويجلس في طرف من المسجد خصص لتعليم الأولاد في غير أوقات الصلاة، بأسلوب جدي وصارم.والدراسة كانت على (ألواح) يكتبها الفقيه وطريقة التدريس المستخدمة هي الأسلوب القديم والتي يتعلم فيها الطفل حروف الهجاءونطقها مع تشكيلها، كأن يقول (كَ فتحة كَ) و ( تَ فتحه تَ) و (بَ فتحة بَ) ليصل إلى كلمة (كتب) .. وهكذا. ويقوم الشيخ بكتابة سطر خفيف بالمرسمة ويطلب من التلاميذ أن يحبروا ذلك السطر بالحبر، وفي نفس الوقت يحفظّهم قصار السور من القرآن الكريم، ويبدأ بسورة (الفاتحة) وعندما يحفظ (يختم) الطفل (جزء عم كاملاً) يتم تشجيعه بعمل ما يسمى (إصرافة)، وهي أن يخرج زملائه الطلاب وهو أمامهم .. ويطوفون به في الشوارع المجاورة للمسجد احتفاءً به لتمكنه من قراءة وحفظ (جزء عم)، وتعمل له حلوى اسمها (بتاسا). لكن هذا الوضع الايجابي للكتَّاب يواجهه أمر سلبي وهو استخدام (العصا و الفلكة) بكل عنف على أجسامهم الرقيقة. والفلكة عبارة عن عامود خشبي طوله متر أو أكثر قليلاً ومثبت في طرفيه حبل وتوضع قدمي الطالب المقصّر لتشد بذلك الحبل قدميه الصغيرتين ويرفعها اثنان من كبار الطلاب ثم يبدأ المعلم بجلده على قدميه .. وكان هذا المظهر"مألوفاً"في الكتاتيب . دخولي المدرسة السعودية ومع بلوغي العاشرة أرسلني والدي، رحمه الله، مع صديق له لأسجل في المدرسة (السعودية الابتدائية)، والتي كان اسمها مدرسة (المعلاة التحضيرية)، ثم سميت (المعلاة الابتدائية) .. وقد تأسست في العهد التركي عام 1302ه، بأسم (المدرسة الرشدية).وكانت المدرسة تدرس باللغة التركية منذ تأسيسها حتى عام 1335ه حين استخدمت اللغة العربية في التدريس، وغير أسمها إلى مدرسة (المعلاة ) حتى عام ( 1355ه ) عندما سميت المدرسة السعودية . وتم تطويرها مع مدارس أخرى بعد دخول الملك عبدا لعزيز إلى مكةالمكرمة في العام الذي ولدت فيه ( 1343ه ) فقد كان من اولويات الملك المؤسس رحمه الله الاهتمام بالتعليم ونشره حيث أمر بإنشاء مديرية المعارف في عام 1344ه ,وهي نواة وزارة المعارف والمدرسة السعودية كانت إحدى ثلاث مدارس حكومية في ذلك الوقت وهي مدرسة حارة الباب ( الفيصلية فيما بعد ) ومدرسة الشامية ( العزيزية فيما بعد ) وكانت مدرسة المسعى أو ( الرحمانية ) هي الطليعة الاولى للمدارس الحكومية في مكةالمكرمة . كان طالب المدرسة المتخرج من "الكُتاب "يصطبغ بنفس السلوك الذي ألف عليه في الكُتاب ، وهو الطاعة العمياء للمعلم والخوف من غضبه وقسوته ، والاستذكار الدائم حتى لا يتعرض للعقوبة التي كانت تتنوع بحسب الذنب من الضرب على اليدين إلى "الفلكة "التي شرحتها عند حديثي عن الكتاتيب . قسوة التربية والتعليم اتسمت التربية والتعليم في ذلك الوقت على الكثير من القسوة، فلك أن تتصور حجم الرعب الذي يستولي على قلب الطفل عندما يسلمه والده إلى مدير المدرسة أو إلى شيخ الكتَّاب ويقول له العبارة المشهورة آنذاك (يا شيخ لكم اللحم ولنا العظم)، ويكون بذلك قد أعطى للمعلمين حرية واسعة في التعامل الشديد والقاسي مع الطلاب .كما أن هيبة المعلم كان لها تأثيرها علينا، فكنا ننظر إلى المدير أو"الأستاذ"نظرة خوف واحترام إلى درجة أن أحدنا يهرب وكأنه أرتكب جرما لو شاهد أحدهما يسير في الشارع أو يقف عند دكان. ولازلت أذكر مدير المدرسة الأستاذ حسنين رحمه الله وكان رجلا ضخم الجسم جهوري الصوت وهو ينزل إلى ساحة المدرسة حيث يصطف الطلاب في طوابير منظمة في الصباح الباكر لإلقاء نشيد الصباح، وفي يده "العصا"يضرب بها على الجدار من أعلى السلم ويصيح بأعلى صوته (يا ولد)، وعندها تكتم الأنفاس ويسود السكون ويصمت الجميع حتى لكأن على رؤوسهم الطير . ونبدأ في إلقاء أناشيد الصباح والتي كان يقوم بتحفيظها لنا بعض المعلمين ويحرصون على أن تؤدى بنغمات ولحن دون مصاحبة آلات موسيقية، ويتغنى التلاميذ بصوت واحد ليس فيه نشاز ولا يستغرق أكثر من خمس دقائق. أناشيد راقية كنا نحفظ الأناشيد دون الاهتمام بما فيها من معانٍ بالرغم مما تحتويه من قيم راقية يؤلفها بعض كبار أدباء ذلك العصر مثل الأستاذ الأديب / محمد صادق الرافعي، ولا زال عالقاً في ذهني حتى الآن شيئاً من الأناشيد مثل : في ضميري دائماً صوت النبي .. آمراً جاهد وكابد وأتعب صائحاً غالب وطالب وأدأب .. صارخاً كن أبداً حرا أبي ومن القصائد ذات الكلمات البسيطة المعنى هذه الأبيات : هذي رؤوس الروابي أمسى يواريها السحاب والشمس كالتبر مذاب فلنمشى لا نخشى الصعاب ولترتعد من أصواتنا أقطار ذي البرار والجبال مهام عريف الفصل وفي خلال دقائق معدودة يتم الانتهاء من النشيد ويصعد الطلاب كل فريق إلى فصله . ولكل فصل عريف من الطلاب ولكي يكون عريفاً يشترط أن يكون (الأول) في الفصل في مجموع الدرجات الدراسية، ومن مسئولياته ومهماته أن يكتب أسماء الطلاب المشاغبين في دفتر يسمى (دفتر الجزاءات)، يستخدمه المعلم أيضا وخاصة لكبار السن من الطلاب الذين يصعب التعامل معهم، ليعرضه في آخر اليوم على مدير المدرسة. ودور العريف في المراقبة ينحصر خلال أوقات انتظار المعلم. وما أن يدخل المعلم الفصل حتى يقوم (عريف) الفصل صارخاً بأعلى صوته (احترم) وعندها يقف جميع طلاب الفصل احتراماً لمعلمهم، ولا يجلسون حتى يأذن لهم المعلم بالجلوس .وهنا لا أريد أن أرسم لوحة سوداء للمعلم أو المدرسة ذلك أنه ورغم القسوة التي تحدثت عنها،فقد كان الجميع ينظر إلى المعلم باعتباره مربياً للجيل وليس مدرساً فقط . المسئولية الاجتماعية للمعلم وكان المعلم نفسه حريصا على الطلاب ويعاملهم كأنهم أبناؤه. ولا ننسى في هذا السياق أن مجتمع الطلاب نفسه كان يختلف في تربيته عن جيل اليوم.فقد كان معظم الطلاب من جيلي، وممن جاؤوا بعدي، جيلا مسئولا بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. وكان تأثير المعلم لاينتهي عند محيط المدرسة فقط وإنما كان يتعداه إلى خارج أسوار المدرسة . وأذكر مثالاً على ذلك أن إحدى المدارس كانت داخل حي تجاري بسيط يطل فناؤها على بعض (الدكاكين). وصادف أن رأى مدير المدرسة ابن صاحب أحد الدكاكين يتصارع داخل الدكان مع زميل له مزاحا، فاستدعاهما إلى المدرسة وقام بتوبيخهما .. موضحاً أن الدكان للعمل وليس للعب. ثم تلا ذلك التوبيخ أن طلب من (فرّاش) المدرسة وضعهما في (الإحرام) وهو عقاب أشبه بعقاب الفلكة، ونفذ فيهما العقوبة بالرغم أنهما ليسا من طلاب مدرسته. كان مافعله مدير المدرسة مقبولاً اجتماعياً آنذاك، حيث كان معلم الأمس يعتبر نفسه مربي جيل داخل وخارج المدرسة، وكانت هذه نظرة المجتمع إليه أيضاً. حياة الدراسة حياتي في المدرسة كانت خليطا من الاهتمام بالدراسة والاستذكار والمنافسه مع الالتزام بعمل الوالد والذي كان يخطط دون أن يشعرني بدمجي معه في دكان الصباغ . وقد تشكل من هذا الخليط وضعي في المدرسة حيث كنت مع زملاء لي من الطلبة وهم : على با حمدين، هاشم دباغ، ومعتوق جاوه ومحمد صلواتي، رحمهما الله، نكوّن مجموعة من الطلاب تتصف بالجدية والألتزام فقد كنا نقضي وقت الفسحة "الكبرى"في المسجد المجاور، ولا نرتبط بأي صداقة مع أي طالب يقوم بتربية شعره ولا يحلقه تماما،ً ومع أي زميل لا يصلي مع الجماعة . وقد اثر فينا أحد المعلمين في ذلك الوقت حتى أنه أحضر لنا نسخاً من (موطأ الإمام مالك)! ولكننا كنا أطفالاً بين العاشرة والثانية عشرة عاماً ويصعب علينا قراءة هذا المؤلف الذي يفوق مستوى إدراكنا الذهني ولا يمكن استيعابه وفهمه بسهولة! ويحمي هذه المجموعة ويشد أزرها (عريف الفصل) الذي يهدد بكتابة أسماء من يسخرون منا أو يضايقونا في (دفتر الجزاءات). مشاغبات ومضاربات وقد كانت تحدث مشاغبات في المدرسة في آخر النهار بين بعض المشاكسين والمشاغبين من الطلبة .. ولكنهم لا يجرؤون على تنفيذها داخل أسوار المدرسة وإنما يتواعدون للعراك والمصارعة في زقاق صغير في الشارع الذي بجانب المدرسة ويسمى زقاق (صُبغة).وعندما يتحدد موعد ذلك النزال ينتقل خبره إلى بقية الطلاب فيتسابقون إلى هناك و يتحلقون للمشاهدة ولا يكتفون بذلك بل يقومون بإذكائها . وإذا رأى المتفرجون أن هنالك مجالاً للمصالحة بين المتخاصمين ينبري أحدهم بوضع التراب في كفه ويصيح من يقوم بكشح التراب في وجه الآخر.والشجاع من المتخاصمين يقوم بضرب يده من الأسفل ليتطاير التراب في وجه الخصم ومن ثم يبدأ الاشتباك من جديد .ولم نكن كمجموعة نحضر هذه الاشتباكات، لأننا كنا نعتبرها نوعا من المشاغبة والسلوك غير السوي. الطالب يؤمن مستلزماته الدراسية ومن الناحية المادية، لايمكن مقارنة وضع الطالب اليوم بوضعه في أيامنا .. حيث كان الطالب مسئول عن تأمين مستلزماته المدرسية من دفاتر وكتب. وكنا نجد صعوبة في الحصول عليها لزيادة تكاليفها إلى جانب شظف العيش عند جل الطلاب، أما أنا فكنت أقسط المطالب على الوالد، رحمه الله، ولا أعرضها عليه دفعة واحدة حتى لا أفاجئه وأثقل عليه . كانت الكتب تباع في المنطقة المجاورة ل(باب السلام) حيث تتجمع أهم المكتبات بجوار الحرم، ومن أشهرها مكتبة الشيخ عبدالفتاح فدا التي تهتم بالكتب العلمية والدينية، ويعتبر شيخ "الكتبية" (نسبة الى ملاك المكتبات) المنتشرة في تلك المنطقة التي كانت تموج بالعلماء والوجهاء وطلبة العلم والباحثين . ومن المكتبات الأخرى التي أشتهرت في تلك المنطقة: مكتبة الشيخ عبد العزيز مرزا المختصة بالمستلزمات المدرسية، ومكتبة الشيخ أحمد الباز، ومكتبة المعارف، التي أنشأها الأستاذ عمر عبدالجبار، وكانت تبيع الكتب المدرسية كما ألف صاحبها المربي الكبير مؤلفات درست في مكة ومن بعد ذلك في مدارس المملكة.