أجواء موسكو أواخر هذا الشهر، وليس الأجواء السياسية فقط، كثيرة التقلب. اذ تطبق الغيوم وتنهمر الأمطار، ثم تنقشع فجأة وتبزغ الشمس، التي تبالغ في الاشعاع والدفء، وكأنها تريد تعويضنا عن الخريف الذي سيأتي قريباً مبتدئاً فصل البرد. التناقض نفسه تجده عندما تتجول في قلب موسكو، بالمتاجر الفخمة ولوحات الاعلان الزاهية الألوان والسياح الذين يلتقطون الصور من جهة، ومن الثانية السكان المحليين، بنظراتهم التي تنم عن القلق والكآبة، وهم في طريقهم الى بنوكهم لسحب أرصدتهم. بعد تفاقم الأزمة المالية والهزات السياسية التي رافقتها عادت الى الروس طبيعتهم القديمة: التشكك في السلطة، من أي نوع كانت. لكن كيف يمكن لومهم بعد التقلبات التي شهدنا أخيراً، خصوصاً خفض قيمة الروبل بعد ثلاثة أيام فقط من تأكيد الرئيس بوريس يلتسن ان الوضع الاقتصادي تحت السيطرة ولا خوف أبدا من الخفض. من هنا، عندما ظهر رئيس البنك المركزي الروسي سيرغاي دوبنن على شاشة التلفزيون بعد خفض العملة، ليطمئن الجميع الى مدخراتهم وبأن الوضع لا يستدعي سحبها، كان رد الفعل معاكساً تماماً، إذ تضاعف التدفق على البنوك لسحب الأرصدة، وبالدولار إذا أمكن. تحتفظ غالبية الروس العاديين بمدخراتها في "بنك المدخرات"، الذي احتكر هذا الدور منذ أيام الاتحاد السوفياتي ولا يزال البنك الأكبر في مجال الادخار الفردي. وتغص فروع البنك في انحاء روسيا حالياً بالمواطنين، غالبيتهم من المسنين والمتقاعدين، المتلهفين لسحب ارصدتهم. ووجدت في واحد من فروع البنك في المنطقة الجنوبية الغربية من موسكو، اثناء جولتي خلال 24 و25 من الشهر الجاري، صفوفاً طويلة تنتظر في الخارج، فيما اكتظ الداخل بالزبائن في جو مشحون فاقمته حرارة الجو. وصاحت موظفة من وراء شباكها: "لم يعد لدينا نقود، عليكم الانتظار الى ان نتسلم شحنة جديدة"، فيما رد عليها الحشد بصيحات كان أخفها: "غشاشون!" و"مصاصو دماء!"، موجهة ليس فقط الى الموظفين بل ايضاً الى الحكومة وحتى الرئيس. وتمتمت عجوز بوجه امتزج فيه الكره مع القلق: "ليمت مثل كلب!"، فيما طالبت شابة لها رصيد بالدولار بسحبه بالعملة نفسها، ورد عليها موظف: "السحب بالروبل فقط". "وما هو سعر الدولار؟". الجواب: "6.90 روبل للدولار". "لكنه كان 7.14 روبل للدولار هذا الصباح"! في فرع رئيسي لبنك "اس بي اس - أغرو"، وهو بين اكبر البنوك الخاصة المتعاملة بالايداع الفردي، وجدت صفاً طويلاً من المودعين، أكثرهم كانوا من الرجال والنساء في منتصف العمر، الذين بدوا أيسر حالاً من مودعي "بنك المدخرات". لكن المسؤولين عانوا من النوع نفسه من الاحراج. وواصلت مديرة البنك أولغا، وهي شابة لا يزيد عمرها عن 25 عاماً، ابلاغ الزبائن بأن سحب الأرصدة يتطلب أولا ملء الاستمارات اللازمة. سألها واحد من المودعين: "لكن متى أحصل على مالي"؟ "خلال اسبوع تقريباً. سنتصل بك". ونصحته سيدة تقف قربه: "الأفضل ان تتصل بهم أنت، وإلا فإنك ستنتظر الى الأبد". وواصلت السيدة رغم النظرات الحادة من المديرة: "هل تعتقد انهم يحبون اعادة المال اليك"؟ أوضاع البنوك الأخرى لم تكن أفضل. ووجدت في فرع لبنك "اس بي اس - أغرو" شابة أرادت سحب رصيدها، وكان أيضا بالدولار. ورفض المدير أي سحب فوري، وقال ان عليها انتظار دورها، وانه لن يأتي قبل الاسبوع الثاني من الشهر المقبل، وسيكون بالروبل وليس بالدولار. أما نسبة التحويل فهي 6.70 روبل للدولار، فيما يباع الدولار رسمياً بسعر 7.90 روبل. على مدخل فرع لبنك "مينتاب" وجدت حارسين ضخمين يقفان امام تجمع من نحو ثلاثين من الزبائن يريدون الدخول. سألت الحرس: "هل يمكنني الدخول"؟ "عليك ان تضع اسمك على القائمة". ترتيبي في القائمة كان 192. "وماذا بعد تسجيل الاسم"؟ "لا شيء سوى الانتظار" قالت سيدة بتهكم. "يسمحون لك بالدخول بعد انتظار طويل ثم عليك الاصطفاف والانتظار مجدداً في الداخل. الى أن يأتي دورك لتسجيل طلب سحب الرصيد على كومبيوتر البنك. بعد ذلك تعود الى الانتظار"! "هل يدفعون بالدولار"؟ "كلا" قال الرجل الذي يقف في مقدمة المجموعة. "بالروبل فقط. لكن النقود نفدت مع فترة الغداء. والكل ينتظر الآن احتمال تسلم شحنة جديدة. اذا لم يتسلم البنك الشحنة اليوم فقد تأتي غداً. وقتها عليك الاصطفاف من جديد... اللعنة على كل الماليين"! لكن ماذا عن المحظوظين الذين يملكون الدولار؟ البنوك الكبيرة اشترت الدولار بما بين 6.9 و7 روبل، وباعته بما بين 7.9 و8.10 روبل أي أنها بالكاد حافظت على الفرق بنسبة 15 في المئة الذي طالب به البنك المركزي. أما مكاتب الصيرفة الأصغر فقد كان السعر أفضل: الشراء بما بين 7.20 الى 7.35 روبل للدولار الواحد، مقابل البيع بما بين 7.65 و7.90 روبل للدولار. للتعرف على الوضع في البنوك الخاصة المتوسطة الحجم، زرت فرعاً لپ"بنك ديالوغ"، وهو من بين البنوك الأربعين الأكبر في روسيا. وجدت صفاً من أربعة الى خمسة أشخاص. ولدى سؤال الموظف عن امكان سحب الحساب بالدولار كان الجواب: "بالطبع. اذا كنت لم تسحب شيئاً الاسبوع الماضي. أما هذا الاسبوع، فلا يمكن سحب اكثر من 500 دولار في اليوم الواحد". "يا للفوضى!" علّقت سيدة تنتظر دورها، "لا استطيع سحب معاشي دفعة واحدة". قلت لها انها محظوظة مقارنة بالاوضاع التي شاهدتها في البنوك الكبيرة.