بدا أن الوقت سبقنا، ولم يعد بوسعه إمهالنا أكثر مما فعل، وترتب علينا النهوض من غفوتنا، التي استغرقت دورتي زمن من الخيبات، وواحدة للعبور الجديد، بينهما سَكْبة دموع، فوق ذراعي ومرةً على كتفي الممتَن، لغسل الأعماق من أحزانها المقيمة. في ذلك المساء الجليل، عندما أرسلتْ العاطفة العتيقة ملاكها الشاحب، يتعثر ويتلفت بحذر، ليحمينا، يسبغ رعايته الخائفة، يجعلنا بمنأى من الغبار الخبيث، الذي كلّل حياتهم في السابق، ويتبعنا، الآن، مثل سياف أرعن، إلى مداخل البيوت، خارج المحطات، على أرصفة الموانئ، تعيّنَ أن نهلع ونضطرب، نفزّ بقوة الماضي، نصبح، على الرغم من الفرح الذي أشرق في نفوسنا، أسرى العاطفة القاتلة التي يشهرها الحبّ الكئيب، حبّ الأهل الذي يرضع من غبار القيل والقال، لنبحث في مواعيد السفر عن الوقت الذي يلائم، وقبل ذلك يريح، خواطر المنتظرين في شارع Hillside Cave داخل الرقم 23، أو أمام بابه. قالت: أسرع، لقد داهمنا الوقت. كيف أطلّوا، يا إله الرحمة، من الكهف ذاته، ليُفزعوا، قبل أن يحطّ على أقدامه، الأمل الذي قايضناه بكل الجروح المهدورة؟. كنتُ أغمغمُ، بين الصمت والهلوسة، وأنا أختطفُ اللحظة، من انهماكي بوجودها، لأسأل، ثم أنسى ما يقول الجواب، ونهرع، من عربات القطار إلى باحة السفر، نخرج إلى الليل، مسرعين ونسرع، لتفادي المزيد من التأخر، فقد أذعنّا، يمكن القول بضعة قرون، إلى همهمات أنفاسنا، تعِدُ وتأمل، تخاف ثم تُقدِم، بعدها تغفو، ملتذّةً، لا يجوز الإفصاح كم من الوقت، بأعراس نجوانا الأولى، اعترافات قلبينا الطائشين، لنصحو، مستسلمين لخدر ذاك الغياب الجميل، على نداءات الأشواق، تؤجج شعلات الحنان في أطراف ملامسنا، ثم اكتشفنا، بلا رغبة في النهوض، أن الوقت كان يسرقنا، في الماضي، والآن يطمع فينا!. كنا نمشي، أنا وقلبي، إلى جانبها، كلٌ يسبق الآخر، بينما سماء لندن تسقط نديفَها الليلي، قطراتها الهشة، الناعمة، مزيجاً أثيرياً من النسيم والرقة، وأشجار الطرق، الناردين والمغنوليا والكستناء، تركض معنا، واقفة،ٌ بَيدَ أن فرحاً ما يحملها على الإسراع لمرافقتنا، وعلى مبعدة، يتبعنا جنونُنا، يحاذي سيرنا، مرّةً من اليمين ومرّة من اليسار، إلى الخلف ثم يصبح في الأمام، يتقافز حولنا، مرتبكاً، ويغار من مضاء خطواتنا. وكانت، أيها القلب الذي لواه اليباس، تضئ في داخلك آلاف الشموس الصغيرة، وتمسح، بيد من الحرير، كل أحزانك القديمة، حين تقول نعم، أو تجيب بلا، على تيارات الأفكار، وهي تخرج، لاهثة، من أنهاركَ الضامئة. كيف غبنا، كيف انشغلنا، فنسينا الطريق والمواعيد، ثم أصبحنا، بغتةً أصبحنا، أنفسنا التي لم نتعرف عليها من قبل. ذاك المساء الكريم في العطاء، والنداوة العذبة ترشق عيوننا، كنا نسرع، فتتمرد أقدامنا، تأخذنا إلى أماكن غريبة، أرصفة ودروب لا يقصدها البال الشارد، بينما القلب المخادع يطرب لكل تيهٍ جديد، يقدم ساقاً ويضلّل أخرى، مأخوذاً ما زالَ، منتشياً بألق اللحظات السعيدة، مثل طفل في الثالثة يركض إلى جانبكِ، وإلى الخلف منكما أزنُ قراراتي، لكن بلا طائل، لأن الآمال التي عكفتُ عليها، البهاء الجميل الذي أضرم النار في حطام أزماني، يأمرني باللحاق، يأخذني إلى سحر ينابيعكِ، إلى ألغاز روحكِ الكئيبة، وقوانين رغباتك الصامتة، وكنتُ، كلما عرَتني الظلال، أسرق زيتكِ لأوقد شموسي. ماذا يقولون، وماذا قالوا، الذين انتظروا، أو ينتظرون منذ آلاف السنين، من تأخرَ في الوصول، سوى أنه في الطريق إليهم، رشفة الأمل المريرة، بينما نسرع، كل منا في الطريق إلى الآخر، نزداد التحاماً، نذوب في مطر لندن الخفيف، نُثار الفرح الذي تذرفه السماء فوق شعركِ، وينحدر على جبهتي، وأنا غير آبهٍ لما أبقاه العمر من مسافات ، لأن الأحداث والأحلام وجميع الأفعال ناقصةً كانت من قبلكِ. دعيهم ينتظرون. تتوسل نظراتي الهائمة، فتجثم علامات الأسى على فمها، معذِّبة، مثل ابتسامة شهيد، ويلطمني الأذى، أن البناء الفيروزي الذي شيدناه منذ حين، ينهار فجأة، تأخذه لعنة الغبار بين أحضانها. سوف نصلُ في الوقت المناسب أقول، إذا اهتدينا إلى الطريق تردّين في هذه الشوارع التي لم أسلكها قبلاً في الليل. ولكن تهمس دواخلي المحتدمة ما دام خطوكِ الناعم، الخفيف، يضرب تحت جلدي، وهسهسة صوتكِ تأتي، هادئة وفاتنة كعادتها، فتطيب آمالي بنفح عطورك، لِمَ لا يكون التجوال مُلهمَنا، هدفنا القائم خلف البيوت والأماكن وهواجس المنتظرين، بعيداً عن سياط الحبّ الملومة والمعاتبة، المتربصة بعيون مقلوبة إلى الداخل، النازفة حرصاً مسنوناً من الجانبين، يغذي مرارتها إرهاف السمع الدائم إلى وشوشة القضبان؟ في القاطرات أو على متن السفن، أنفض فتات الخبز والشوكولاته عن بنطالك الجِنز، فلا يقرب الملل، أو الخوف، مملكتنا، إلى أن ينفد زيتك، فأنطفئ. قالت: أسرع! **