تمتدُّ جذور الشعر الكازاخي عميقاً في تربة القرون الغابرة. فعبر السهوب الشاسعة، والقمم المعمَّمة بالثلوج الأبدية، وعلى هدير مياه الينابيع المتفجرّة أنهاراً وشلاّلات تغتسل فيها الأيائل والفهود، والأغنام والماعز البرّي، وتحلّق فوقها النسور والعقبان مكمّلة على خفق الأجنحة والصياح الحاد أصوات المزامير والشبّابات المشبوبة، تُصعّدها لواعج الرعاة حاملةً الشجو والشجن... كان الشعر يتوالد شفاهياً، ويتوارث بالإسناد، منشغلاً من جيل الى جيل، وقد ظلَّ مزدهراً في الذاكرة الشعبية، حتى إذا جاء عصر التدوين، تفتّحت القصائد عن التأليف تفتّحاً كبيراً، أتاح للتراث الشعبي أن يختمر ويحمل العلاقات الداخلية للأشياء وللظاهرات، وأن ينقل الحياة في كل تداخلاتها وتناقضاتها. وكان الشاعر الكازاخي في كل اطوار الحياة، يغنيّ شظف العيش، واصرار الإنسان على اعتلائه، ورغبته بالتالي في ترويض الأنهار الهادرة في السهوب، توقظها وتُفتّح في أرحامها الخصب الهاجع. ولم يكن هذا الشعر يقتصر على وصف الطبيعة، بما هي مصدر بقاء الإنسان في حالتي: الشقاء والهناء، بل كان يضع النقاط على الحروف في عالم الإنسان الروحي والأخلاقي، ويعي العلاقة التي تنفضح عُراها فتوحّد مصير الأفراد بمصائر المجتمع بحيث يصبح الشعر متوجّهاً مباشرة الى الإنسان بإجلال، وواقفاً أمام الفكر مُعبّراً عن مآثيه. ولقد تطور الشعر الشعبي، وواكب الشعر المكتوب، يكفي ان نذكر في هذا الصدد الشاعر الشهير جمبول دجاباييف 1846-1945 الذي استطاع أن يجدّد اللغة الشعرية باستخدامه أدوات تعبير تقليدية، لكي يُغنيّ الحياة المعاصرة. وقد تتبَّعه شعراء آخرون أمثال: قاسم أمانجولوف، وعبدالله جوماغليف، وحميد ايرغالييف، فغنّوا جميعاً الإنسان والعشب والبراعم والجبال التي تتوالى مثل قطعان الأيائل وقوافل الجمال. وثمة ملاحظة في الشعر الكازاخي جديرة بالانتباه، ألا وهي المرأة الشاعرة، فقد طلعت في النصف الثاني من هذا القرن شاعرات مرموقات أمثال: مريم حكيمنجانوفا، وأمية شالا باييغا، وفريدة اونغرسينوفا اللَّواتي قدّمن شعراً يتسلسل من القلب عامراً بالحب للوطن وللإنسان. وقد انطبع الشعر الكازاخي بالغنائية الملحمية التي جعلته مرهفاً لاهتزازات العصر، فينبجس من الألم، لكي يتداخل بالأمل والحب، ويساعد على الازدهار والانتصار. اشراق أُحبُّ السماء الزرقاء التي بلا حدود والسهوبَ التي صَهَّبَها الربيع أحبُّ الغصنَ يحرِّك في البراعم الانخطافَ الأبيض أحبُّ نشيد الفجر الساطع أحبُّ سقسَقة الساقية الخالدة أحبُّ صياح النسر الأَجَش وأحبُّ الإِصغاءَ الى ندائك المذهل الرنّان يا ساحر ليالينا... أيها البلبل! الجهد المتجدّد تذهلني مظاهرهُ البهيَّة. وأحبُّ أن يكون لكل انسان في الوجود شمساً تملأُ عينيه وأن يُسهم كل فردٍ في دائرته حراً ممراحاً وتبزغ أصباحٌ قرمزية من المغيب على وطني. تورسين خان عبدالرحمنوفا - 1921 * اللحظة المذهلة الأمر حقاً بالغ السذاجة... أيها السهب! أن أُبارحك في أَشهر الإزهار دون أن أأخذَ بالاعتبار الهضابَ والأَعراف... القمَم... السماءُ تُجلّل بالفرح خطَّ الأُفق ونحن كالأطفال نؤمن بالحكايا ونفضّلُ اللحظة على الدهور هكذا الإنسان يمحق الأفق فيما يعبرُ المدارات، ولا يألو جهداً قدير مورزالييف - 1935 * أَعرف...! أعرفُ لماذا فتنة النجوم ولماذا الصقرُ بطل أناشيدنا أعرفُ لماذا هذه الأشياء الجميلة المتفتحة في يد الإنسان ويُسَمّيها: قصيَّة، عاليه هي ذي أحواض الماء تُرَوِّي التُرب هيَ ذي المدنُ الطالعة بجوارها في عظمة الفجر هوذا القلبُ... هيَ ذي الأرض وشبكةُ عروقها: الأنهار. من الذي زعمَ أنه كان مرتاحاً لِشَقِّ الطريق الى سُدومِ الأمس؟ ومن الذي زعمَ أنه أقلّ ارتياحاً من أن يجدَ على المجرَّةِ الطريقَ الذي يمرُّ بقلبه وينساحَ نهراً في السهول. من الذي عقد الحواضر للقرون العتيده وجعلَ الظلام حزمةً ساطعة لإنارة حياته، ... مُتعبُ أنت أيها الإنسان، ولكن عليك أن تكدَّ لتكتشفَ الدربَ الذي بخطِّ قلبك المائل قادكَ حتى السماء أولجاس سوليمانوف - 1936 * سريرنا أيها الكوكب الترابي... يا سريرنا الذهبي أيها المَوْئل المليء بالفتون أيها النجم العجوز، الباهظ الجبين، الرصين العصافير حين تطير نحو الجنوب تنسكبُ عليك كالدموع وهي تطلق صياحها المتحسِّر الإنسان المأخوذ بك منذ ولادته لا يستطيع وهو الموَلَّهُ بك أن يراك في حوزة سواه وأنت الذي يقيتُ الجنس البشري بأسره. * * * الحياة تُزهر وتزدهر برغم الرياح التي تكْنسُك أيها الكوكب الأرضي حيث العرَق يسيلُ بلا انقطاع حتى الموت القدير القديم أَن يقتلع الإنسان من أحشائك خيرت جوماغالييف - 1937 * صيد شقّ الفجر الريحُ تُعْوِلُ والبحر يشبُّ ويُزبد وعاصفة الأمواج البيضاء تُهرْول نحوك أيها الصياد في هذا الاعصار الأعمى ينبجسُ البرق والنورس الواحد تلوَ الآخر... انها المعركة بين البحر والسماء تمزِّق شباك الصيّاد ويبدو كلُ ذلك مألوفاً عند الذين يعيشون في البحر انهم فتيان وفتيات ذوو قلوب تعشق الجهدَ الصابر وفجأة تخفت الأمواج يلتفت أحدهم نحو الأفق اللاَّزوردي ويقول: أعاصير أخرى عبرت مثل شجن الأرملة! وللأقوياء الحق بالتندّر فالبحر بذاته ليس شريراً ويطيبُ له أن يمتحن الصيّاد الشاب وهذا كل شيء... والصياد منذ مطلع النهار كمثل إله يظهرُ في الشاطىء فيأتيهِ البحرُ زَاحفاً وينامُ طائعاً عند قدميه فريدة أونغارسينوفا - 1939 * التقديم والترجمة: ميشال سليمان