هل تمكّن الرئيس الاميركي بيل كلينتون من انتشال نفسه من المأزق الحرج الذي ما زال يتخبّط فيه منذ مطلع هذا العام؟ لا شك ان الإجابة عن هذا السؤال تتطلب انتظار الانتخابات النصفية في تشرين الثاني نوفمبر المقبل، الا ان الخطة التي اعتمدها طاقم الرئيس لاخراجه من ورطته ربما بدأت تُظهر ثمارها. وربما لم يسنح ظرف مؤاتٍ امام كلينتون لمحاولة الخروج من الورطة التي يعاني منها منذ مطع هذا العام بالقدر الذي تحقق له في مطلع هذا الاسبوع. فمع اندلاع المأزق الذي جعل من حياة الرئيس الشخصية مادة للاستهلاك الاعلامي والسياسي اليومي، اصبح موضوع الانهماك الاول لكلينتون وطاقمه ادارة الازمة بشكل يحدّ من الضرر الناتج عنها في قدرته على العمل بل وفي مكانته في التاريخ. يذكر هنا انه على الرغم من الانقسام الاسمي في الساحة السياسية الاميركية وفق الانتماء الحزبي ازاء مصاب كلينتون، حيث الموالاة "ديموقراطية" والمعارضة "جمهورية" فان الحزب "الديموقراطي" نفسه شهد ارتفاع اصوات من داخله تطالب بحلول جذرية للوضع الذي وصل اليه كلينتون، بما في ذلك تنحيه عن السلطة لمصلحة نائبه آل غور. فمن ابرز الشخصيات "الديموقراطية" التي طرحت هذه الخطوة كصيغة للخروج من المأزق ليون بانيتا الذي سبق ان شغل منصباً وزارياً في حكومة الرئيس كلينتون وآخر ادارياً في البيت الابيض. فالرأي الذي يتداوله بانيتا وبعض "الديموقراطيين" النافذين هو ان كلينتون أعطبته هذه الفضيحة وسابقاتها، فصدقيته وهنت شعبياً، ونفوذه تراجع ضمن مؤسسات الحكم، وقدرته بالتالي على تنفيذ برنامج "ديموقراطي" يرسخ احتفاظ الحزب بموقع الرئاسة تضاءلت. فإما ان يبقى كلينتون في الحكم ويبقى عرضة للتراشق السياسي المنهك، فيثخن نفسه وحزبه بجراح تطيحه في الانتخابات الرئاسية القادمة عام 2000، او ان يتنازل لغور، متيحاً الفرصة امام هذا الاخير للظهور بمظهر المخلص، ولإبراز نهج سياسي نشط خلال العامين المقبلين يكرس حضوره في سدة الرئاسة ويصون استمرارية الحزب "الديموقراطي" في الحكم. وحاجة غور الى هذين العاملين ملحّة ليس فقط لتجنيبه عبء وراثة سمعة كلينتون، حيث ان اسميهما ارتبطا طوال الاعوام الماضية، بل لأنه ثمة اتهامات ومسائل يعاني منها غور نفسه، لا سيما في موضوع الاموال الانتخابية، فيستحسن بالتالي العمل على استئصالها، في اطار بروز ايجابي اعلامياً وشعبياً، قبل الشروع في الانتخابات الرئاسية. أما آل غور نفسه، فموقفه ازاء الامرين، ورطة كلينتون وموقف بانيتا، يبقى متسماً بالحذر والحرج. فبقدر ما يحتاج الى التأكيد على الاختلاف في المسلك عن كلينتون، فانه عرضة للتأذي الفائق اذا ظهر بمظهر من خان ولاءه للرئيس او من تنصّل منه في ساعة الضيق. لذلك، فقد انتهج غور خطة يقتصر معها في الظهور على المواقف المؤيدة لكلينتون، انما بندرة مدروسة تستفيد من مقدار التعاطف الشعبي مع الرئيس وفق تطورات مسلسل الورطة. وتجتهد اوساط نائب الرئيس ومعها قسم واسع في القطاع الاعلامي بالحديث عن الانطباع الشعبي الراسخ حول نزاهة غور ونقاء سلوكه. ولا يخفى ان هذا الحديث يصبّ في حد ذاته في اطار جهود تنزيه غور وتنقية سمعته. ويلاحظ انه بالاضافة الى هذه الجهود التي تنطلق من مفاضلة ضمنية على الصعيد الاخلاقي بين الرئيس ونائبه، فإن غور يكاد يقتطع لنفسه مجموعة من قضايا يجعل منها برنامجاً سياسياً له تعزيز التربية، تنفيذ الحوسبة والتقنية، حماية البيئة، انهاض الاقليات العرقية. فهذه القضايا التي كانت بالامس شعاراً لعهد كلينتون - غور، تميل الى ان تفرز عملياً اليوم لمصلحة غور انتخابياً ودعائياً. فقد يكون ثمن ورطة كلينتون الذي أراد ان يكون صاحب طرح "الجسر الى القرن الحادي والعشرين" انكماش دوره كرئيس ذي رؤية ورؤيا. والتداعي الطارئ على دور كلينتون لا يقتصر على عناوين البرنامج التطوير. فوصول كلينتون الى سدة الرئاسة كان مؤشراً الى تبديل داخلي في توجهات الحزب "الديموقراطي" جنح معه هذا الحزب الى التقليل من الاعتماد على الكتل الاجتماعية والاقتصادية التي شكلت اساس التأييد له في الماضي كالحرية النقابية وبعض المجموعات العرقية لتوسيع الاقبال عليه في صفوف "الطبقة الوسطى" الاميركية التي يغلب عليها عرقياً العنصر الابيض واقتصادياً طابع الاعمال الحرة الصغيرة والمتوسطة. الا ان ازمة الرئيس تشكل عامل تبديد خطيراً لما حققه الحزب "الديموقراطي" من تحفيز للطبقة الوسطى. وعلى الرغم من أفول النجوم "الجمهورية" التي تمكنت في الاعوام الماضية من انتزاع العديد من المناصب من "الديموقراطيين" لا بد لهؤلاء من العودة الى تعبئة الكتل التقليدية المؤيدة لهم للاحتفاظ بما تبقى لهم من مواقع على المستويات الاتحادية والمحلية. وهذه الضرورة تلزم اعادة ترتيب البيت "الديموقراطي" بما يفسح المجال امام ريتشارد غيبهارت وغيره من اصحاب الخطاب الشعبوي الموجه الى الاوساط النقابية ، الى العودة الى البروز، وربما حتى الى منافسة آل غور على ترشيح الحزب "الديموقراطي" للانتخابات الرئاسية المقبلة. فهذا ما فرّط به الرئيس كلينتون في لحظات ضعف: برنامج تطوير مستقبلي وتحول حزبي، ومكانة في التاريخ وسمعة في الولاياتالمتحدة وخارجها، بالاضافة الى أبعاد شخصية ليست في متناول الصحافة على رغم تطفلها، فقد أساء كلينتون تقدير عمق التمحيص الذي كان خصومه مستعدين للغوص به توصلاً الى ما يدينه، ومدى الشغف والقابلية لدى الشعب الاميركي لاستهلاك تفاصيله، الا انه لم يستنفد قدرته على معالجة الازمات. فعلى الرغم من الاستهجان النفاقي الذي حاول البعض اشهاره ازاء انكشاف امر كلينتون، فان القناعة التي تنم عنها الخطة التي انتهجها طاقم الرئيس مفادها ان عامة الاميركيين مستعدون في نهاية المطاف للصفح عن العلاقة التي تورط بها رئيس بلادهم، على رغم الأذى اللاحق بمقامه من جراء الكشف عنها. وجاءت استطلاعات الرأي العام لتؤكد بالفعل هذه القناعة. وكان على كلينتون الموازنة بين الهمّ القضائي، حيث ان الطوق الذي أراد المحقق المستقل كينيث ستار احكامه حوله يزداد احكاماً مع مرور الزمن واتساع التحقيق، وبين المواقف الشعبية التي تشكل له اي لكلينتون خط دفاع اخيراً في حال اضطر الى مواجهة الكونغرس نتيجة لتحقيقات ستار. اذن وخلال الاشهر الماضية، كان على كلينتون الاجتهاد في اختيار الفرص المؤاتية ازاء الرأي العام للاقدام على ما يؤدي الى خروجه من ورطته. ولم يقتصر الامر على تحيّن الفرص طبعاً، بل انصبّت الجهود على خلقها. وهكذا، في حين كان رد الفعل الاول على اندلاع الفضيحة النفي القاطع، بدلت الاوساط المؤيدة للرئيس خلال الاشهر الماضية الصيغة الخطابية التي تستعملها، فراحت هذه الصيغة تركز على سفاهة الاهتمام بهذا الموضوع بدلاً من التأكيد على براءة الرئيس، واجتهدت بنقل كلينتون من موقع الجاني الذي اقترف اساءة اخلاقية وربما قضائية، الى موقع الضحية التي ينكر عليها حق ارتكاب الهفوات، وما كلينتون الا بشر. وبالاضافة الى جهد اعلاء شأن الرئيس، انشغل طاقمه كذلك في محاولة ارباك المحقق ستار ادارياً وقضائياً والتشهير به اعلامياً. فكثر الحديث عن اهدار الوقت والمال في تحقيقاته، وعن المخالفات التي يرتكبها فريق العمل المرتبط به، وصولاً الى وجوب اخضاعه للتحقيق. وهذا بالفعل ما تحقق. وكان في إمكان الرئيس اللجوء الى خطوات عدة للمماطلة والامتناع عن الادلاء بشهادة امام لجنة المحلفين الاتحادية. فقراره الخضوع لهذه الشهادة في منتصف شهر آب اغسطس قبل ثلاثة اشهر من الانتخابات النصفية، دليل إلى اقتناعه بأنه تم تحضير الرأي العام للكي الذي يريده لهذه القضية التي تؤرقه منذ مطلع السنة: فالتأييد له في اقصى ارتفاعه اي انه يستطيع تعريض نفسه للنكسة المؤقتة التي لا بد ان تلي الاعتراف، والاقتناع الشعبي بأنه تورط فعلاً بعلاقة ما في أقصى ارتفاعه اي ان الاعتراف لن يشكل صدمة وان أدى الى امتعاض، والاستياء من المحقق والتحقيق الذي طال في اوجه، وفترة الاشهر الثلاثة قد تكون اقصر من ان يتمكن خصومه من الرهان على اسقاطه قبل الانتخابات، في حين ان جهودهم قد تنعكس سلباً عليهم. وبكلمة مدروسة خلال اربع دقائق، حاول الرئيس الاميركي تثمير التحضير الذي بذل طاقمه الجهد لاتمامه. دقائق قليلة أرادها كلينتون خاتمة للمأساة الملهاة التي سوف تلازم ذكر عهده. فجاء الالقاء ضمن اخراج مسرحي وضع الرئيس لا خلف المكتب تعزيزاً لهيبة المنصب بل امامه تأكيداً لضعفه وانسانيته وتقرّباً من الجمهور الاميركي التماساً لعطفه. والمسألة، كما اكد كلينتون بعد اقراره بالذنب هي، في نهاية الامر، بينه وبين زوجته وابنته، من دون ان ينسى ذكر الله. وهذا الفصل، كما يتمنى طاقم الرئيس، قد يكون بالفعل آخر الفصول شعبية. فالجمهور في نظره قد حصل على الاقرار الذي كان يتوقعه ويطلبه، وهو قادر على التمييز بين الهفوة الشخصية وبين سوء ادارة شؤون البلاد، وكلينتون متهم بالاولى لا الثانية، بل ان الرضا عن أدائه لم يتراجع قط خلال هذه الازمة. الا ان تحقيقات ستار لن تتوقف، والكونغرس ملزم بالنظر في ما يتمخض عنها. فاذا لم يتمكن ستار من اكتشاف دلائل تورط جديدة للرئيس فإن طاقم كلينتون يتوقع ان يميل الجمهور الى اعتبار عمل ستار والكونغرس مضايقة تهدف الى الكسب السياسي وتنعكس سلباً علىهما. وبالتالي فإن مأزق كلينتون يكون قد أنتهى أو في طريقه الى الانتهاء. أما إذا تمكن ستار من اكتشاف الجديد، فلكل حادث حديث. * كاتب لبناني مقيم في الولاياتالمتحدة الاميركية