الموقف الذي تواجهه الولاياتالمتحدة في تعاملها مع موضوع الارهاب يشبه تماماً موقف اسرائيل من الموضوع الأمني، فكما ان الثانية تتخذ من الشأن الامني ذريعة لصرف الأنظار عن استمرار احتلالها للأراضي العربية، وكذلك ممارساتها العدوانية وسياساتها التوسعية وانتهاكاتها الواسعة لحقوق الانسان، فإن الأولى تضخم موضوع الارهاب لصرف الأنظار عن سياسات الهيمنة التي تمارسها إزاء العالم كله، وعن المعايير المزدوجة التي تطبقها في تعاملها مع دول العالم ومع بعض القضايا العالمية المطروحة. وكنتيجة لهذا السلوك لا تتحدث الولاياتالمتحدة عن أسباب الظاهرة الارهابية ودوافعها، بل تحصر كلامها واهتمامها بالاجراءات الأمنية الرامية الى التصدي لأعمال العنف الموجهة ضدها. وحديث الردع الاميركي في هذه الحال يصبح كحديث الردع الاسرائيلي ويتساوى معه الى حد بعيد. فالمقارنة هنا تبدو طبيعية ومنطقية وذات اساس موضوعي. ذلك ان اسرائيل تعمل دائماً على تحويل نفسها الى قلعة حصينة مدججة بأحدث الاسلحة وأشدها فتكاً، وفي مقدمها الاسلحة النووية، لا لمنع الاخطار التي تتهددها، كما تدعي، بل لفرض واقعها العدواني التوسعي على دول المنطقة كلها. كذلك فإن الولاياتالمتحدة تحاول ان تفعل شيئاً مماثلاً من خلال اجراءات أمنية استثنائية، ساحتها العالم كله، وعنوانها حماية المصالح الاميركية، ووسائلها مطاردة أو فرض العقاب المباشر على كل من يخالف ارادتها. هذا المنطق الأمني، حصراً، الذي يتجاهل الاسباب الحقيقية لأعمال العنف التي تتعرض لها بعض مصالح الولاياتالمتحدة ومؤسساتها، وآخرها كان تفجير سفارتيها في نيروبي ودار السلام، تريده واشنطن ان يكون وسيلة التعامل الوحيدة مع القوى التي تناصبها العداء، أو تناصب هي هذه القوى العداء. وهذا يؤكد ما يذهب اليه العديد من المحللين من ان الولاياتالمتحدة تريد خلق عدو رئيسي لها بعد سقوط عدوها التقليدي، وهو الاتحاد السوفياتي. وفي حين يجعل بعض مفكريها من الاسلام هذا العدو البديل، المطلوب، فإن السياسة الاميركية تحاول ان تجعل من موضوع الارهاب الوحش الاسطوري الذي يجب عليها ان تواجهه، بما يحقق اصطفافاً داخلياً وخارجياً خلفها، الأمر الذي يعني فرض المزيد من حضورها العسكري والأمني، وبالتالي المزيد من هيمنتها العالمية. ومع ان هذا الهدف يستوعب ضمنه كل التفاصيل التي تخدم السياسات ذات المواصفات "العولمية" بحسب المصطلح السائد، إلا ان المعايير المزدوجة التي تطبقها اميركا في مواقفها وسياساتها العامة، لا سيما في ما يتعلق بالصراع العربي - الاسرائيلي وبالمصالح العربية والاسلامية في صورة عامة، تعتبر في نظر المحللين أبرز الأسباب الدافعة للمواجهة القائمة بينها وبين بعض الدول والقوى والجماعات المناهضة لسياساتها. فكما تسعى الولاياتالمتحدة الى فرض مفهومها الأمني، والموازي لوحدانية زعامتها العالمية، فهي تريد ان تفرض معاييرها المزدوجة ايضاً، بحيث يصبح كل ما يصدر عنها بمثابة شرعة عالمية ينبغي التقيد بها وعدم الاعتراض عليها. وها أننا نرى ان شرعة اميركا هذه اصبحت بديلاً من شرعة الاممالمتحدة، التي يتقلص اثرها يوماً بعد يوم، مع الفارق الكبير في أهداف كل من الاثنتين. إن الأمثلة لا تعد ولا تحصى حول سياسة المعايير المزدوجة التي تطبقها الولاياتالمتحدة. بيد ان ما يتعلق منها باسرائيل يعتبر الأكثر تحدياً للقوانين والشرائع الدولية، والأكثر استفزازاً للمشاعر العربية والاسلامية. من المؤكد انه لا يوجد في العالم كله، ما يماثل اسرائيل في ممارستها للارهاب. ذلك ان اسرائيل نفسها تأسست بوسائل ارهابية، واستمرت في استخدام الارهاب لأنه يشكل مقوماً رئيسياً من مقوماتها، واساساً من أسس استراتيجيتها العسكرية والسياسية. وما من مسؤول اسرائيلي إلا وكان ارهابياً، في الفكر عندما كانت الحركة الصهيونية تخطط لإقامة دولتها في فلسطين، وفي الممارسة عندما تحولت تلك المخططات الى اعمال تنفيذية، ثم في كليهما معاً بعدما أصبحت الدولة أمراً واقعاً. ومن يراجع تاريخ الارهاب الصهيوني - الاسرائيلي يجد ان معظم القادة والمسؤولين الاسرائيليين هم قادة للمنظمات الارهابية، السرية والعلنية، او عملوا فيها على الاقل. ولأن الارهاب كان، على مدى عقود من الزمن، احد المقومات الفكرية الاساسية للحركة الصهيونية، وأحد الاساليب التي طبقتها الصهيونية لتحقيق غرضها الاول، وهو اقامة دولة اسرائيل، فقد اقترن انشاء هذا الكيان بأبشع اشكال الارهاب وأفظع انواعه، الامر الذي يجسّد حقيقة معاناة الشعب الفلسطيني، ومعاناة الشعوب العربية الاخرى التي طالها الارهاب الاسرائيلي في اشكال وصور مختلفة. مع كل ذلك، تظل اسرائيل وحدها، وفقاً لشرعة "العدالة الاميركية"، خارج التصنيف الارهابي، بينما توصف اية اعمال مضادة لحركتها العدوانية التوسعية بأنها ارهاب من الدرجة الاولى. هذا الواقع هو الذي حال حتى الآن، دون تحديد مفهوم عالمي موحد للارهاب، بحيث تصبح عملية مكافحة اعمال العنف، التي تحدث في اجزاء مختلفة من العالم، مستندة الى قاعدة واضحة، والى اساس موضوعي، لا الى اجتهادات اميركية واسرائيلية صرفة. ويذكر ان هذا الموضوع طرح مرات عدة على الاممالمتحدة، لكن بسبب التباين في الآراء حول تحديد مفهوم الارهاب تعذّر على المنظمة الدولية اتخاذ موقف حاسم من الظاهرة الارهابية. ومن الامثلة الدالة على هذا التناقض المعرقل لمكافحة الارهاب، ان الولاياتالمتحدة كانت قدمت الى الجمعية العامة للامم المتحدة مشروع اتفاق دولي، جوهره اقامة "نظام امني دولي مشترك" يهدف الى مكافحة الارهاب من طريق الحيلولة دون حصول الارهابيين على اي مأوى او مكان آمن لا تطاله الملاحقة او العقاب، في اية منطقة من العالم. ويعتبر المشروع اي هجوم ارهابي على اية دولة طرف في الاتفاق هجوماً على كل الدول الاطراف. الا ان المشروع اهمل اية اشارة الى اسباب ودوافع الارهاب، كما لم يميّز بين الاعمال الارهابية العادية، وبين نشاطات حركات التحرر الوطني من اجل الاستقلال. ولهذا لم تأخذ به اللجنة المختصة في الاممالمتحدة ولم تناقشه، بل اهملته كلياً. كما ان الولاياتالمتحدة لم تصرّ على مشروعها، آنذاك، بعدما تبين لها ان الاتجاه العام لدى الدول الاعضاء معاكس لتوجهاتها وللأسس التي بنت عليها تصوراتها. وبدلاً من ان تقترب واشنطن من الموقف الدولي الذي يرغب في تحديد مفهوم موحد للارهاب تتم مكافحة هذه الظاهرة على اساسه، انطلقت تعمل وحدها مستندة الى ما توصلت اليه من اجتهادات شخصية في هذا الشأن. وبذلك اصبح كل ما يتعارض مع المصلحة الاميركية والاسرائيلية ارهاباً، وكل ما يخدم هذه المصلحة من نوع مكافحة الارهاب. واستناداً الى هذه القاعدة الاميركية - الاسرائيلية المشتركة اضحت كل الاعمال العدوانية الاسرائيلية مشروعة، باعتبارها اعمالاً ضد "الارهاب"، إما "وقائية" لمنع حدوثه، او "انتقامية" رداً عليه. كذلك اصبح لارهاب الدولة الاميركي مشروعية ايضاً، بما في ذلك تنفيذ اعمال تفجير موصوفة كما حدث في لبنان، او خطف اشخاص او طائرات بذريعة ملاحقة متهمين بتنفيذ اعمال ارهابية والامثلة على ذلك كثيرة. كما جرى تطويع نصوص ميثاق الاممالمتحدة لتخدم هذه السياسات ايضاً. ففي حين جرى تنفيذ البند السابع من ميثاق المنظمة الدولية الذي يتعلق بتهديد الامن والسلام الدوليين في قضية تفجير طائرة مدنية لم تثبت مسؤولية اي طرف فيها حتى الآن طائرة بانام الاميركية، وتم فرض الحصار على دولة عضو في الاممالمتحدة، هي ليبيا، في شأن هذه القضية، فقد رفضت الولاياتالمتحدة، وما تزال ترفض، الى الآن، تطبيق البند السابع على اسرائيل في اي من الحروب والاعتداءات التي شنتها الدولة العبرية على الدول العربية طوال العقود الماضية. من المؤكد ان الارهاب لا يخدم اية قضية عادلة، بيد ان معالجة هذه الظاهرة الخطيرة لا تتم بأسلوب امني صرف، اي باسلوب الانتقام، او الارهاب المضاد، وانما بتقصي اسباب المشكلة والتعامل معها بمنطق من يريد حلها لا الانتقام من المتورطين فيها فحسب. ذلك ان سياسة الانتقام المتبادل تجعل الجميع متساوين في المسؤولية: مسؤولية المشكلة من جهة، ومسؤولية عدم حلّها من جهة اخرى. فهل ينجح امين عام الاممالمتحدة كوفي أنان، حيث فشل غيره، في معالجة هذه الظاهرة، عبر المؤتمر الدولي الذي دعا اليه؟ * كاتب وصحافي لبناني مقيم في فرنسا