انتهت الحرب في لبنان وعادت بيروت، التي تؤوي نحو ثُلث سكان البلاد المقدر عددهم بأربعة ملايين نسمة، إلى سابق عهدها تقريباً. وتمت إعادة تأهيل معظم مناطق الطبقتين العليا والمتوسطة، التي استعادت رونقها فبدت كأنها جزء من مدينة أوروبية. ويرى المراقب في الشوارع وأماكن التبضع اعداداً متساوية تقريباً من الاناث والذكور. ولكن في بعض المناطق الراقية، مثل شارع الحمراء التجاري غرب بيروت، تزيد نسبة الاناث اللواتي يرتدين ألبسة انيقة ويمشين بخطى واثقة سواء كن متبضعات او عاملات في المكاتب والمخازن التجارية. ولم تعد شوارع العاصمة تشهد المسلحين بزيهم العسكري وبنادق الكلاشنيكوف، وباتت الاناقة المتوسطية تظهر في حاملي الحقائب، لا البنادق. وتعج الشوارع بالناس والسيارات التي يغلب عليها طراز المرسيدس. وتمتلئ المخازن بالبضائع المعروضة على نحو ينم عن ذوق رفيع. ولكن على رغم ذلك كله، لم تعد بيروت الى ما كانت عليه. فعدا المقاهي والمطاعم التي يرتادها عدد كبير من الزبائن، يسود السكون المخيف المخازن المليئة بالبضائع. ويقف البائع المتأنق في لباسه وحده من دون مشترين. ويقول صاحب مكتبة ممتازة مليئة بالكتب والمجلات العربية والانكليزية والفرنسية: "منذ عامين وأنا عاجز عن تغطية نفقاتي ناهيك عن عدم استطاعتي تسجيل ارباح". ولدى سؤال بائعة في مخزن راق يبيع ملابس نسائية عن عدد ما باعته في يومها، قالت بابتسامة عريضة خلت من اي مرارة: "ثوبان. ولكنني ربما افلح غداً في بيع ثلاثة". لكن اهل بيروت في حركة دائمة، ويتنافس البيروتيون والسيارات على احتلال الشوارع والارصفة. وبعدما اعاد اللبنانيون اعمار معظم ما تهدم من بلادهم واعدوا انفسهم للنشاط الاقتصادي، باتوا ينتظرون بفارغ الصبر وبأمل كبير في المستقبل وبحب يحسدون عليه للحياة، ان يعود الرفاه القديم. والاسعار في بيروت مثلها مثل الاسعار في اي عاصمة اوروبية. ففنجان من القهوة او الشاي يكلف دولاراً اميركياً واحداً في احد المقاهي المنتشرة على الارصفة. اما الشطائر السندويش فتكلف اربعة دولارات. ويتقاضي سائق التاكسي، مقابل اقصر مسافة يقطعها وزبونه في سيارته، خمسة دولارات. اما اسعار الاحذية والالبسة فهي ضعفا ما هي عليه في الولاياتالمتحدة. وليست هذه اسعاراً سياحية بل تعكس اسعار الغذاء واللباس والايجارات التي تزيد في بيروت على ما هي عليه في نيويورك. وليس في لبنان الا القليل من الصناعة. كما ان المحاصيل الزراعية قليلة اذ ان الدولة تهمل هذا القطاع الى حد بعيد. اما الصادرات فهي متدنية في مقابل ارتفاع الواردات. والاهم من ذلك كله ان اهل الخليج الميسورين، الذين عوّلت الحكومة اللبنانية كثيراً على استثماراتهم وانفاقهم لتمويل اعادة اعمار البلاد، لم يعودوا الى لبنان. ولكن على رغم ذلك يمكن وصف الطبقة المتوسطة بأنها كبيرة، كما يمكن القول ان الطبقة العاملة تنعم بغذاء ولباس كافيين، وان العملة اللبنانية مستقرة، وان التضخم تحت السيطرة. ويجب ان أقر بأنني وجدت الاقتصاد اللبناني محيراً. وبغية حل اللغز وازالة الحيرة لجأت الى خبير اقتصادي لبناني تلقى علومه في بريطانيا، وهو واحد من الشباب الموهوبين الذين وظفتهم الحكومة وجندتهم في سبيل اعادة اعمار لبنان. وينبغي بداية ان احذر من ان الارقام التي سأذكرها تقريبية. اذ ان الحكومة اللبنانية "تمتعض" من اعطاء ارقام دقيقة او تتجنب ارقاماً من هذا القبيل. ويوجد مكتب احصاءات لكنه لا يعمل ولا يوجد مكتب او نظام محاسبة وطني. ويعطي مصرف لبنان المركزي افضل التقديرات اذ انه ينعم باستقلال ذاتي ويضمن مقداراً لا بأس به من الانضباط الاقتصادي. لكن هذه التقديرات تعطي صورة قاتمة عن الاقتصاد اللبناني وعن اهمال الدولة اللبنانية للمتطلبات البنيوية. يمثل القطاع غير الرسمي، الذي ينتمي اليه عدد كبير من سكان لبنان بما في ذلك الفلسطينيون الذين يقطنون في المخيمات، والذين لا يحق لهم العمل في البلد، 70 في المئة من الاقتصاد. وتراجعت الضرائب المفروضة على الارباح من 37 في المئة في 74/1975 الى نحو عشرة في المئة. وباتت الضرائب المجمّعة تقريباً خاملة وغير تصاعدية. وتشكل الضرائب غير المباشرة 80 في المئة من عائدات الحكومة. ولا توجد ضريبة تصاعدية حتى على الكماليات او السلع الفخمة. كما يعاني القطاع الزراعي من الاهمال ومن اصحاب الاراضي الواسعة، اذ ان ثلاثة او اربعة في المئة من العائلات الاقطاعية تملك 70 في المئة من الاراضي الزراعية. ولا يذهب الا 5.0 في المئة من القروض المصرفية الى القطاع الزراعي. ويضطر المزارعون الى الاقتراض من موردي البذار الزراعي والسمادات والمعدات الزراعية، الذين يتقاضون فائدة تصل الى 100 في المئة. ولهذا تشكل الزراعة 10 الى 12 في المئة من اجمالي الناتج المحلي على رغم ان الارض اللبنانية خصبة وعلى رغم ان في لبنان صناعة غذائية متطورة، وعلى رغم رغبة العرب المهاجرين الى سائر انحاء العالم في شراء المواد الغذائية اللبنانية المصنّعة. اما الفائدة على القروض الصناعية فهي اقل قليلاً من الفائدة على القروض الزراعية. وتساهم الصناعة بنحو 20 الى 35 في المئة من اجمالي الناتج المحلي، فيما تساهم الخدمات بنسبة تراوح بين 55 و70 في المئة. وتشكل قيمة الصادرات بين 10 و15 في المئة من قيمة الواردات، ولهذا يعاني البلد عجزاً مزمناً في ميزانه التجاري. هذه الصورة ربما بدت نموذجية تقريباً بالنسبة الى دول العالم الثالث. ولكن على رغم ذلك يبدو لبنان وكأنه احدى دول اوروبا الجنوبية قبل نحو 20 عاماً. فدخل الفرد السنوي يقترب من اربعة آلاف دولار. وعلى رغم توزع الثروة الوطنية على نحو غير سوي، يفوق مستوى العيش اللبناني مثيله في الدول العربية غير النفطية على نحو واضح. وعلى رغم ان البطالة ليست متدنية، يعمل في لبنان آلاف السوريين والسري لانكيين والفيليبينيين لانهم يقبلون بأجور ادنى مما يتقاضاه اللبناني، ولأن اصحاب الاعمال غير مجبرين على المساهمة في صندوق الضمان الاجتماعي الخاص بهؤلاء العمال. وتدنى مستوى العيش اثناء الحرب ولم يعد الى ما كان عليه قبلها حتى الآن. ففي عام 1974 كانت الاسرة اللبنانية المتوسطة تنفق 40 في المئة من دخلها على الغذاء، لكن هذه النسبة ارتفعت الى 60 في المئة عام 1996 ما يشير الى مقدار الارتفاع في الاسعار والى ازدياد الفقر ايضاً. ومع ذلك يبقى لبنان بلداً مزدهراً ومستتباً بمقاييس العالم الثالث، ما يدعو الى التساؤل عن سر هذا التناقض. الجواب الذي يتردد على ألسنة الجميع هو ان المغتربين اللبنانيين، الذين يقدّر عددهم بعشرين مليوناً، هم الذين يغطون العجز اللبناني. فنحو نصف هؤلاء اندمج كلياً في الدول التي هاجر اليها ولم تعد له صلة بوطن الاجداد. لكن نحو ثمانية ملايين مهاجر يواصلون دعم اسرهم ويستثمرون في لبنان. وتأخذ هذه الاستثمارات شكل ودائع مصرفية في المقام الاول. وبما ان ما يرسله المهاجرون الى ذويهم في لبنان يمر عبر قنوات خاصة، لا توجد ارقام يعول عليها عن هذه التحويلات. لكن المعروف ان استثمارات اللبنانيين الذين هاجروا من لبنان مسؤولة عن كون الودائع المصرفية تعادل بين 150 و200 في المئة من اجمالي الناتج المحلي. وتذهب نسبة عالية من هذه الودائع الى ايدي الحكومة اللبنانية. ويشكل المهاجرون اللبنانيون ايضاً العمود الفقري للقطاع السياحي اللبناني. وهذه الحقيقة لا تغيب عن بال المخططين الماليين اللبنانيين. ويقول الخبير الذي اشرت اليه اعلاه: "يعوّل اقتصادنا على تدفق المال اليه. فهذا التدفق يعوض عجزنا التجاري المزمن، ولهذا ركّزت ادارتنا الاقتصادية على ضمان استمرار نسبة سوية من هذا التدفق المالي. ويأتي المال الى لبنان، منذ فترة طويلة من ثلاثة مصادر هي تحويلات المغتربين والودائع الاجنبية والسياح. وهذه المصادر تتطلب عملة مستقرة واسعار فائدة مرتفعة وتدنياً في التضخم وبنى تحتية جيدة. ولهذا تعودت الحكومات اللبنانية على حصر اهتمامها بهذه المتطلبات فيما اهملت مسائل اساسية مثل زيادة الانتاج الزراعي والترويج للصناعة وتوفير خدمات اجتماعية كافية". وأهم ما حققته حكومة رفيق الحريري هو انها اعادت بعض مؤشرات اقتصاد ما قبل الحرب اللبنانية. فالحرب ألحقت بالليرة اللبنانية ضرراً فادحاً. اذ ان سعر الليرة اللبنانية مستقر منذ عام 1992 على 1500 ليرة للدولار بعدما وصل في احدى المراحل الى ثلاثة آلاف ليرة للدولار. ويراوح معدل التضخم بين اربعة وخمسة في المئة. وتقدم الدولة فائدة مقدارها 17 في المئة على سنداتها، ما يعني ان الاستثمار في لبنان جذاب بالنسبة الى اللبنانيين المقيمين خارج وطنهم وبالنسبة الى المستثمرين الاجانب. وعما اذا كان الاجانب سيستثمرون في لبنان، يرد الخبير بالايجاب، ولكنه يشير الى ان "الكلفة مرتفعة. اذ حققنا الاستقرار لكننا زدنا الديون التي اصبحت حالياً 2.17 بليون دولار منها 5.3 بليون دولار للاجانب. كما تخصص الحكومة نصف موازنتها السنوية لتسديد فوائد الديون". ورداً على سؤال حول السبل التي تذهب فيها باقي الموازنة، قال الخبير: "بعد النفقات الخاصة بالدولة، يقف على رأس الاولويات الاعمار والبنى التحتية، ما يزيد من عبء الديون. وهذه الطريقة قديمة لكن تكاليفها حديثة". ويهوى رفيق الحريري، مثل رئيس وزراء باكستان نواز شريف، المشاريع الكبيرة. فهو مقاول كبير واسمه مدرج في "فورتشن 400" كبار اغنياء العالم. وفي ضوء ذلك، يمكن فهم حقيقة اخرى وهي ان مطار بيروت الجديد مصمم على اساس ان يستقبل ويودع ستة ملايين مسافر في العام، وهو امر قد لا يحدث ابداً. كما ان في بيروت 120 الف شقة تنتظر من يشتريها او يستأجرها. * كاتب واستاذ جامعي باكستاني مقيم في واشنطن، زار لبنان اخيراً