يستيقظ الفلسطينيون هذه الأيام على كابوس جديد يحرمهم من غسل آثار كوابيسهم الليلية من على وجوههم. انه النقص الحاد في المياه الذي بات الشغل اليومي لمئات الآلاف من الفلسطينيين الذين يحاولون توفير مقادير قليلة منها بأساليب بدائية بعد أن أصبح قطعها عن البيوت يمتد أياماً في بعض مناطق الضفة الغربية وأسابيع وأشهراً في البعض الآخر منها. وأصبحت حمولات صهاريج المياه تباع في السوق السوداء بأسعار خيالية لمن يستطيع الدفع فيما لجأت الغالبية العظمى من الفلسطينيين الى البحث عن ينابيع المياه البعيدة عن أماكن سكناهم لسد حاجاتهم الأساسية من المياه، بعضهم مستخدماً الاقدام، والآخر الجمال أو المركبات لمن تيسرت لهم. والفلسطينيون الذين يدفعون ثمن مياههم المستنبطة من جوف أرضهم الى شركة المياه الاسرائيلية ميكروت لا يتم تزويدهم إلا ب 17 في المئة من مخزون مياههم الجوفية الذي يزيد على 660 مليون متر مكعب سنوياً يستخدم الاسرائيليون معظمها داخل الخط الأخضر أو في المستوطنات اليهودية المزروعة في ارجاء الضفة الغربية. وشح المياه عند الفلسطينيين مزمن منذ بداية الاحتلال الاسرائيلي لاراضيهم الذي استولى على مصادر المياه أيضاً، إلا أنه زاد حدة في السنوات الأخيرة بعد اتفاق أوسلو الفلسطيني - الاسرائيلي، وتفاقم في صيف هذا العام الذي صحب معه موجة حر هي الأشد منذ بداية القرن. وتؤكد دائرة المياه الفلسطينية ان اسرائيل التي تسيطر على كل مصادر المياه وترفض منذ العام 1995 زيادة متر مكعب واحد على 4.5 مليون متر مكعب التي تبيعها للفلسطينيين من المياه التي تعهدت بتزويدها بعد الاتفاق المذكور على رغم زيادة عدد السكان وتحسن الظروف المعيشية للمواطنين التي تتطلب استهلاكاً أكبر للمياه. ووفقاً لاتفاق أوسلو يحظر على الفلسطينيين حفر آبار للمياه في الأراضي الفلسطينية من دون موافقة لجنة المياه الاسرائيلية - الفلسطينية المشتركة. وفي حين سمحت الدولة العبرية للسلطة الفلسطينية بحفر بئرين في منطقة الخليل جنوب الضفة، فإن الاتفاق ذاته يمنع بشكل قاطع أي عمليات حفر للآبار في الحوضين الغربي والشمال الشرقي للضفة الغربية وهما الحوضان الزاخران بالمياه الجوفية التي تقوم اسرائيل باستنباطها عبر آبار جوفية شديدة العمق حفرتها داخل الخط الأخضر. ويقول المدير العام لدائرة المياه في الضفة الغربية المهندس طاهر ناصر الدين ان شركة مياه ميكروت الاسرائيلية تتحكم منذ العام 1982 في 13 بئراً للمياه من أصل 40 في الضفة الغربية بناء على أمر وزير البنية التحتية الاسرائيلي الحالي ووزير الدفاع في حينه ارييل شارون فيما تقوم الشركة ذاتها بوصل أنابيب مياه يزيد قطر الواحد منها عن أربعة أمتار بأنابيب المياه العربية الضيقة لتوصيل أكبر قدر من المياه الى المستوطنات اليهودية. ويؤكد الفلسطينيون ان شركة المياه الاسرائيلية لا تزودهم إلا بنصف الكمية التي تعهدت بتوفيرها لهم فيما يتم ضخ المياه بدون حدود للمستوطنين اليهود القاطنين في المستعمرات المقامة على أراضيهم لري الزهور المحيطة بها وتعبئة المسابح التي يلهو فيها أطفالهم. وتبلغ حصة المستوطن اليهودي في الضفة الغربية من المياه خمسة أضعاف ما يحصل عليه الفرد الفلسطيني حيث يستخدم 120 ألف مستوطن على 50 مليون متر مكعب من المياه سنوياً. وحفر المستوطنون اليهود خلال السنوات الماضية 43 بئراً عميقة داخل مستوطناتهم التي تشيد عادة في المناطق الغنية بالمياه. وليس بعيداً عن مستوطنة "افرات" اليهودية المقامة على أراضي قرية الخضر الفلسطينية، تنظر النساء الفلسطينيات بتحسر وغضب الى برك المياه الكبيرة المخصصة للسباحة وهن في طريقهن الى نبع مياه صغير في بلدة ارطاس لملء جرارهن بالمياه قبل استيقاظ أبنائهن لتوفير المياه لغسل وجوههم وإعداد الطعام وجلي صحون طعام العشاء التي تعذر غسلها بسبب انقطاع المياه الذي مر عليه نحو شهر، وذلك في مخيم الدهيشة للاجئين الفلسطينيين القريب من بيت لحم. وتقول احدى الفلسطينيات ام زياد: "كانت جداتنا وأمهاتنا في بداية القرن يحفظن عصائر الفاكهة والخضار الصيفية في زجاجات، اما نحن وعلى اعتاب القرن الواحد والعشرين، فنحفظ مياه الشرب التي نجلبها كل صباح على أقدامنا نزولاً وطلوعاً على الجبل حتى نجد قطرة ماء لأطفالنا حين يعطشون". وتعاني منطقتا بيت لحم والخليل أكثر من مثيلاتهما في باقي الضفة الغربية من النقص الحاد في المياه على رغم غناهما بالآبار المائية تحت ترابهما الأحمر المائل للسواد. وتقول دائرة المياه الفلسطينية ان منطقة الخليل التي يحتاج مواطنوها الى 30 ألف متر مكعب من المياه يومياً لا يصلها سوى 4500 متر مكعب في أشد أيام السنة حاجة الى المياه بينما تزود المستوطنات الحيطة بها ب 8000 متر مكعب من المياه. وتقول أم زياد وحبات من العرق الندي تملأ جبينها تعباً من الجرة التي تحملها فوق رأسها وهي تشير الى المستوطنة الجاثمة والآخذة في التوسع: "يسلبون الأرض التي نأكل منها والمياه التي نشرب منها. لم يتبق سوى أن يمنعوا الهواء الذي نتنفسه... وأعلم انهم لو كانوا يستطيعون ذلك لفعلوا".