كانت النتيجة السياسية المباشرة للدعوة الإدريسية هي دعوته من طرف اسحاق عبدالحميد الأوربي زعيم قبيلة أوربة، ويقول بعض المؤرخين ان المولى إدريس هو الذي سعى الى الاتصال بالزعيم الأوربي في اطار خطة لربط الصلات مع زعماء القبائل المغربية النافذة، وسواء دعي المولى إدريس أو سعى هو برغبته، فإن المكان الذي ذهبت إليه، وهو أوربة كان منطقة لها نفوذ قوي، وزعيمها من أشهر زعماء القبائل المغربية، وكان الإسلام بها مستتباً، وموقعها يتحكم في قلب المغرب البربري، وكان للمنطقة تاريخ مشهود مع الرومان حيث كانت توجد مدينة وليلي أحد أشهر وأبقى المواقع التي خلفها الحكم الروماني للمغرب. ويقيم المولى إدريس ضيفاً على زعيم أوربة مدة ستة أشهر، كان فيها الرجلان يختليان ويتحدثان. كان الأورابي على مذهب المعتزلة ويدعو بالولاء السياسي للعباسيين وتدعو المنابر في أوربة للخليفة العباسي. ولكن ستة أشهر من الحوار والمعاشرة غيرت كل شيء. فقد عرف اسحاق عبدالحميد الأوربي كل شيء من ضيفه، وخبره عن قرب، واستمع الى قصته والى معاناته والى ما جرى له ولأهله على يد العباسيين. ولاشك أن المولى إدريس كان صريحاً واضحاً مع مضيفه. فقد أفضى اليه بمشروعه واستماله إليه ورغبه في أن يكون عوناً له على تحقيق هذا المشروع لما فيه الخير للمغرب وشعبه، كما لاشك أن زعيم أوربة كان وطنياً غيوراً ومسلماً مؤمناً متشبثاً بشيم النزاهة والاستقامة، مدركاً للحالة التي توجد عليها بلاده، شاعراً بتطلعات شعبه الى الوحدة والاستقلال في ظل دولة الشرع، عارفاً بما ارتكب من أخطاء وتجاوزات، خاصة وان منطقة أوربة بالذات هي موطن ذلك الزعيم الأوربي مسيرة - أو كسيلة الذي لاقى معاملة سيئة من طرف عقبة بن نافع، فثار انتقاماً لكرامته وقتل مع جماعة من قومه في معركة فاصلة. لقد كانت ستة أشهر كافية ليتدبر زعيم أوربة أمر ضيفه وما أتى به من دعوة، وليقرر في النهاية أن يقف ذلك الموقف العظيم المثالي الشجاع الذي سجله له التاريخ، موقف الإيثار الذي لا يقدم عليه إلا الرجال الصالحون المؤمنون المجاهدون في سبيل الله. وجاء شهر رمضان من عام 172، وكان اليوم يوم جمعة. ودعا اسحاق عبدالحميد الأوربي قومه بعد الصلاة الى اجتماع حاسم فقام فيهم خطيباً فعرفهم بنسب إدريس وبفضله ومكانته وعلمه وتقواه، ثم توقف ليرى أثر ما قاله عليهم ويجس رد انفعالهم لقوله، فقام الجميع يعربون عن تقديرهم ومحبتهم لآل البيت وقالوا بلسان أحدهم: وإنه سيدنا ونحن عبيده، فما يريده منا؟ فقال عبدالحميد الأوربي "تبايعونه". فقال من نطق باسمهم "ما منا من يتوقف عن بيعته" وطفق الناس يتهافتون عليه مبايعين مظهرين محبتهم وعميق ولائهم. وصعد المولى إدريس المنبر وخطب في الناس خطبة أورد منها المؤرخ الناصري الجملة التالية "أيها الناس لاتمدن الأعناق الى غيرنا، فإن الذي تجدونه من الحق عندنا لاتجدونه عند غيرنا". وكان أول المبايعين اسحق عبدالحميد الأوربي زعيم أوربة الذي خلع ببيعته للمولى إدريس طاعته لبني العباس. وكان ذلك يوم الجمعة 14 من شهر رمضان 172 الموافق 6 شباط فبراير سنة 789 ميلادية. ميلاد الدولة المغربية المستقلة لقد تم إذاً ميلاد الدولة المغربية الإسلامية المستقلة عن الخلافة العباسية، وكان ذلك حدثاً على أكبر قدر من الأهمية على مستوى المغرب، ذلك ان قيام الدولة على رأسها أمير للمسلمين يستمد سلطته الدينية والدنيوية من بيعة السكان، لا من تفويض سلطة خارجية بالإنابة أو التمثيل أو الاستشارة، كان أملاً تعلقت به قلوب المغاربة وانحاز إليه تفكيرهم وعزمت عليه إرادة نبهائهم، وقد تم تأسيس هذه الدولة بالطريقة التي تتفق، من جهة، والطبيعة المغربية الميالة الى التروي والتبصر قبل اتخاذ القرار والإقدام على تنفيذه، ومن جهة ثانية، تتفق مع حرص المغاربة وقد انخرطوا في أمة الإسلام وتشبعوا بالمثل العليا لدين العدالة والحرية والمساواة، على تحقيق مطمحهم في الاستقلال السياسي عن الخلافة العباسية دونما نزوع الى التمرد أو العصيان أو شق عصا الطاعة بلا مبرر، ودون التسبب في إراقة دماء المسلمين وإحداث الفتنة بين صفوفهم. وهكذا فقد بايعوا المولى إدريس الذي هو بدوره لم يعمد طوال سنتين ونصف السنة من إقامته بين ظهراني المغاربة في إثارتهم أو تحريضهم أو استغلال الهفوات والأخطاء التي وقعت بحقهم، أو استفزاز مشاعرهم الوطنية أو نزعاتهم القبلية أو العصبية، بل إنه تسامى حتى على مشاعره المكلومة مما لقيه أهله من بني العباس، ولم يتخذ من الظلم لذي لحق به، وهو سبط الرسول صلى الله عليه وسلم، ذريعة لإثارة البغضاء على خصومه، بل اكتفى بالإشارة الى ما حل بأهله في اطار الدعوة الى حق اغتصبه خصومه بقوة السيف، وهو ما يبغضه الشرع. وتمت بيعة المولى إدريس أيضاً في ظروف كانت فيها سلطة الخلافة العباسية واهية على مجموع بلدان المغرب العربي، وتكاد تكون منعدمة في المغرب الأقصى، فكان هناك فراغ سياسي حقيقي يتنافى ووجود شعب مسلم قوي متطلع إلى أن يلعب دوره في نشر الدعوة الإسلامية وإشعاع نورها، خاصة وان هذا الدور كان قد برز مدى تأثيره وفعاليته حينما أسندت لقائد مغربي مهمة فتح الأندلس فحقق نصراً عظيماً كان انطلاقة إشعاع دولة الإسلام ورسالته في الغرب المسيحي، ولو استمرا لوضع في المغرب بما يؤهله للقيام بدوره لحقق انتصارات أخرى لصالح الإسلام ورسالته. ولاشك أن الفرحة كانت عارمة في قبائل أوربة التي كانت السباقة الى فتح هذا العهد الجديد للمغرب، وهو شرف يليق بهذه القبائل التي كان لها شأن عظيم في المغرب، وكان لها دور بارز في نصرة الإسلام ونشر دعوته، وهي القبائل التي منحت المولى إدريس خالص محبتها وعرفته عن قرب، كما لاشك أن خبر البيعة قد ذاع في مجموع أنحاء المغرب وكان له الأثر القوي في النفوس والصدى الواسع في جميع الأوساط والقيادات المحلية هنا وهناك، وقد رأى فيه الجميع حدثاً بالغ الدلالة على التحول الحاسم في حياة المغرب والمغاربة في ظل الإسلام، لقد كانت البيعة بحق فتحاً ثانياً للاسلام بعد الفتح لدولة المغرب الإسلامية بعد فتح المغرب الإسلامي. ولم تكن بيعة قبائل أوربة للمولى إدريس بيعة لزعيم ينطق باسمهم أو أمير يتولى أمورهم دون غيرهم، بل كانت بيعتهم للمولى إدريس بيعة أمة لملك ورعايا لراع، كذلك كانت نيتهم وكان عزمهم، وكذلك تلقى منهم المولى إدريس البيعة، فكان عقد البيعة عقداً تاماً، والالتزام بها التزاماً جماعياً روعيت فيه مصلحة الأمة المغربية وليس مصالح جماعة أو قبلية أو أشخاص، وكذلك فهم المغاربة في جميع الأماكن الأخرى مدلول هذه البيعة وأهميتها وما ترمز إليه كالتزام من الأمة تجاه أمير المؤمنين، أمير الأمة وراعيها والمؤتمن على حقوقها والقائم على تنفيذ شريعة الله بين أفرادها. وكانت البيعة من جهة أخرى على أكبر قدر من الخطورة بالنسبة لدولة الخلافة العباسية من جهة، وبالنسبة لزعماء الدويلات الضيقة التي قامت هنا وهناك بالمغرب من جهة أخرى، فبالنسبة للخلافة العباسية فإن هذه البيعة كان معناها نقض الولاء السياسي والروحي بين المغاربة ودولة الخلافة، أي فصم عرى تلك العلاقة التي كانت ضعيفة وفاترة، ولكنها على أية حال كانت من الوجهة الشرعية والإدارية قائمة لانعدام بديل لها. وكان هذا بالنسبة للعباسيين أكبر تحد يواجهونه بعد أن استتب بهم الأمر في مناطق الخلافة المشرقية بالقضاء نهائياً على الأمويين وبإسكات صوت أبناء عمومتهم العلويين، وكان معنى هذا أن السحابة المحملة بالمطر يمكنها أن تمطر في بقعة لايعود ريع زرعها ونباتها وثمار أشجارها الى هارون الرشيد! وهذا أمر يخدش تلك الهيبة المحيطة بعظمة بغداد وقوتها ونفوذها، ويقصر حدود الخلافة في رقعة جغرافية ذات ذراع ونصف ذراع في المغرب العربي، ويبقى المغرب حاجزاً دون نفوذ الخلافة الى المغرب الإسلامي، لذلك كان رد فعل الرشيد غاضباً قوياً، ولكنه محسوب بحكمة لاينبغي التغاضي عنها، وإن كان الغضب قد ترجم الى فعلة شنعاء مشينة تمثلت في تلك المؤامرة المحبوكة لاغتيال المولى إدريس، أما الحكمة فتتجلى في أن هارون الرشيد لم يبطر به الغضب الى درجة أن يعلنها حرباً على المولى إدريس وعلى المغرب، لقد قدر هارون الرشيد الموقف تقديراً دقيقاً ولم يغامر بحرب تغرق هذه المنطقة في بحر من دماء المسلمين، ولعله كان مقتنعاً في قرارة نفسه وبحسابات سياسية وعسكرية واستراتيجية ان من المستحيل عليه، وهو القوي والمالك لسلطة سياسية وعسكرية عظيمة، أن يكسب حرباً يريد بها اخضاع المغرب لسلطته، واكتفى بالانتقام الشخصي بديلاً عن شن حرب خاسرة مسبقاً، وهو انتقام شخصي له مبرراته من تاريخ الصراع بين العباسيين والعلويين، ذلك أن هذا العلوي المتمرد الذي نجا من مذبحة التصفية في فخ، واستطاع الإفلات من قبضة بني العباس، وبرز فجأة في هذه المنطقة ليؤسس دولة تفصم عرى كل علاقة مع دولة العباسيين، لابد أن ينال "جزاءه" على فعلته، وأن يؤدي الثمن من حياته الشخصية لعملته. وهذا ماحدث بالفعل. وقصة ذلك معروفة لا أحتاج الى سردها، ولكن تستوقفني منها نقطتان: الأولى: تتعلق بالمولى إدريس كإنسان، فقد وثق بالشماخ وقربه منه دون أن يخالجه أدنى شك في طويته، أو ينقص حقيقة هويته، وهذا يعكس جانباً مهماً من شخصية المولى إدريس، فهذا الرجل المؤمن المجاهد الصالح هو رجل قضية ورسالة وليس رجل سياسة بالمعنى المكيافيلي لهذه الكلمة، فالرسالة هي التي تحدد وترسم معالم أخلاقه وطبيعته، فمن خلالها يرى العالم والناس، ولو كان رجل سياسة لكان الحذر من قواعد تعامله وتحركاته لأحاط نفسه بما يحيط به الزعماء والحكام أنفسهم من مظاهر ورجال وتشريفات وحرس يحيطون بها أنفسهم من المتطفلين أو المتآمرين، ويرسمون تلك الهالة التي تضع حدوداً معلومة ومطلوبة بينهم وبين كل من يقصد رحابهم أو يسعى الى مطلب عندهم، لهذا فإن الشماخ لم يجد أية صعوبة في التقرب الى المولى إدريس والتسرب الى دائرته الشخصية وحياته الخاصة ولم يكلف نفسه عناء كبيراً لامتلاك ثقته والتمكن من مودته. وأكاد أقول ان نجاح الشماخ في الوصول الى المولى إدريس وتنفيذ الخطة التي كلفه بها هارون الرشيد بتسميمه وقتله لاتعزى الى دهاء الرجل ومكره بقدر ما تعزى الى طيبة وسماحة وبراءة المولى إدريس رضي الله عنه وخلو قلبه الطاهر من الغل وسرعة وثوقه وتصديقه لما يبثه الناس على شفاههم من طيب الكلام، لا مما تنطوي عليه القلوب من مكر وخديعة دفينة تحجبها مظاهر الود الكاذبة، إن هذه الصفات التي تحلى بها المولى إدريس هي صفات سلالة البيت النبوي الشريف، وهي قبس من نور التربية المحمدية والسيرة النبوية، وظلت هذه الصفات، والحمد الله، سمة بيوت وأسر وسيرة الشرفاء في المغرب جيلاً بعد جيل وبيتاً بعد بيت وأسرة بعد أخرى. والنقطة الثانية: وهي ان الاغتيال كأسلوب طبع التاريخ السياسي في أكثر من بلد، واتخذه البعض مطية لتصفية الحسابات السياسية وحسم الصراعات، الصراعات المذهبية أو السلطوية، إن هذا الأسلوب المستهجن كان وبقي ضد الطبيعة المغربية، ولأنه حدث وطبق لأول مرة في حق المولى إدريس الذي اجتمعت على محبته قلوب المغاربة، فقد ترك جرحاً غائراً في المشاعر واقترن في ذاكرة المغاربة بالغدر والخيانة. الفتح المبين أربع سنوات هي المدة التي عاشها المولى إدريس ولياً وأميراً للمؤمنين بعد بيعة وليلي، ولكن المؤرخين حينما يستعرضون ما حققه المولى إدريس خلال هذه الفترة القصيرة، وما بناه وأنجزه، والتحول البعيد المدى الذي عرفه المغرب على المستويين الوطني: بوحدة المغاربة حول بيعتهم وعرشهم وكيانهم الجديد، والسياسي ببزوغ هذه الدولة الجديدة وإشعاع واتساع سلطتها، حينما يستعرض المؤرخون ذلك يقولون: ان المولى إدريس لما اشتدت شوكته وعظمت قوته "زحف" "يغزو" و"يفتح" النواحي والجهات التي كانت "خارجة" عن سلطته، يحكم قبضته عليها ويخضع أهلها لسلطانه. ويضيفون أنه قد تم له ذلك بسهولة ملحوظة. ويتحتم علي أن أوضح ان المؤرخين لهم لغتهم ومصطلحاتهم حينما يؤرخون لحدث ما، ولكن هذه اللغة وتلك المصطلحات غالباً ما تتجافى وجوهر الحقيقة التي هي المحرك لذلك الحدث، وحينما يتعلق الأمر هنا بما حققه المولى إدريس من فتح فإنه ينبغي في نظري تجاوز المصطلحات ووضعها جانباً لأنه من التعسف استعمالها في حق هذا الرجل العظيم، الظاهرة، فما حققه المولى إدريس كان فتحاً بالمعنى الجميل والمشرق لهذه الكلمة، هذا الفتح لم يصنعه المولى إدريس بحد السيف ولا باستعمال القوة واستخدام السلطة السياسية، لقد كان ذلك الفتح بداية المسيرة، مسيرة المغرب الموحد المسلم الملتف حول عرش وقيادة ورسالة. ولكن ماهو هذا الفتح الذي نتكلم عنه هنا؟ إنه مجرد إعلان وإظهار البيعة للمولى إدريس في وليلي تسارعت الجهات والقبائل خارج نطاق قبائل أوربة لتقدم البيعة، وقد تم ذلك بطواعية وبعيداً عن أي ضغط أو تخوف أو حسابات سياسية أو قبلية، ودل ذلك بكل وضوح على الحقيقة التي تغاضى عنها بعض المؤرخين، وهي ان المغاربة جميعاً كانوا يتطلعون الى رجل يوحدهم ويقودهم تحت راية الرسالة الإسلامية ويحققون به ومعه وجودهم ويثبتون كيانهم ويلعبون دورهم كأمة أصيلة وعريقة حررها الإسلام وهيأها لرسالة كانت مقدرة لهذا الدين العظيم. لقد كان الشعب المغربي ظاهرة أيضاً في تاريخ الرسالة الإسلامية، مثلما كان المولى إدريس ظاهرة في تاريخ الرجال الذين هيأهم الله لنشر هذه الرسالة، ولاتستطيع الأسباب والمبررات والتحليلات السياسية وحدها أن تشفي غليل الباحثين عن الحقيقة، وإن كانت تلك الأسباب والتحليلات تسند وتؤكد أن ما حققه المولى إدريس ومعه الشعب المؤمن الملتف حوله كان هائلاً وعظيماً وكان تطوراً حاسماً في تاريخ المغرب المسلم. بل كان البداية الحقيقية لذلك التاريخ الذي استمر وتواصل على خط مستقيم. نعم، ان المولى إدريس، وقد اجتمع الشعب المؤمن حوله، ومنحه حبه وولاءه، قاد حملة توحيد وتطهير، لا حملة غزو وفتوحات لينشر دين الله في جميع أنحاء المغرب وليوحد هذه الأمة تحت راية الإسلام، فقد كان مايزل في المغرب يهود ونصارى.. بل ومجوس، فقام بالمهمة التي لم يقم بها غيره من قبل، وهي توحيد المغاربة تحت راية الإسلام ليصبح هذا البلد بلداً مسلماً ليمكنه بعد ذلك أن يصبح دولة أو بلداً اسلامياً. ولم تكن هذه المهمة ذات طابع سياسي، أي أن المولى إدريس لم يكن يهدف من ورائها إلى بسط سلطانه وإخضاع الناس جميعهم الى حكمه، بل كانت المهمة بالنسبة له مهمة دينية مقدسة، ولايمكنه وهو سبط الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرضى بالولاء السياسي لشعب عاهده على الجهاد في سبيل الله، وقد كان بإمكانه أن يبسط سلطته السياسية دون حاجة الى حمل الجميع على اعتناق دين واحد. ولكنه لم يكن رجل سلطة، بل كان قائد رسالة، وتلك هي سر خلوده وسر نجاحه، وسر ما حققه في فترة وجيزة من حكمه. نعم، ان البعد السياسي الوحيد للمهمة التي جرد نفسه لها، هو تأمين سلامة الدولة الجديدة ضد تهديد العباسيين من الشرق بعد أن أقر تأمين كيان الدولة الروحي في الجنوب والشمال في زمرة الإسلام، وهذا هو التفسير الذي أعطيه لحملة المولى إدريس في اتجاه تلمسان وما جاورها من قبائل مغراوة حيث دخلت هذه المنطقة في ظل الولاء للدولة الجديدة، وشكلت حزاماً أمنياً استراتيجياً وبشرياً في مواجهة سلطة العباسيين الذين لم تفتر محاولاتهم لاستعادة نفوذهم الضائع سواء في المغرب الأقصى أو في الأندلس. لقد كان المولى إدريس واعياً بهذا الخطر، ومصمماً العزم ليس على الدخول معه في مواجهة، بل لاقتناعه بأن الوضع الجديد القائم في المغرب لم يكن مجرد فلتة أو حالة عابرة، بل واقعاً ثابتاً ومسلحاً ومستعداً للدفاع عن نفسه. وهذا ما فهمه العباسيون وأذعنوا له وتعاملوا على أساسه. إن أربع سنوات من حكم المولى إدريس كانت حافلة بالأحداث، وشهدت بداية التحول الأكبر لتاريخ المغرب المستقل عن الخلافة المشرقية، هذا الاستقلال الذي تدرج من الاستقلال السياسي الاداري في عهد الأدارسة، الى الاستقلال المذهبي في ذلك العهد والذي تكرس بصفة نهائية في عهد المرابطين حيث أصبح المذهب المالكي هو المذهب الواحد الموحد في المغرب ولجميع المغاربة، الى الاستقلال الكامل حينما بدأت المنابر تدعو لأمير المؤمنين في المغرب بعد أن ظلت تدعو لفترات طويلة لأمير المؤمنين العباسي أحياناً والفاطمي أحيانا والأموي أحياناً أخرى. وهذا التدرج في اثبات وتثبيت السلطة الكاملة الشاملة للدولة المغربية، رمزاً ومذهباً وسلطة روحية، يدل على الثبات والأناة والحكمة، مثلما يدل على ما اتسمت به الطبيعة والسياسة المغربية من تسامح وانفتاح، وتؤكد ما أصبح اليوم في عهد مجدد المغرب وباني مستقبله جلالة الملك الحسن الثاني من قبيل المسلمات وهي أن المغرب أرض الحوار على المستوى الحضاري الانساني، وأرض اللقاء والتسامح على المستوى الإسلامي، وان المغرب، وهو سيد نفسه ومالك أمره وسياسته، هو بلد اسلامي وأمة تنتمي الى أمة الإسلام. كذلك فإن ذلك التدرج الهادىء الرزين ينم عن أصالة ثابتة، فالمغاربة المعتزون بأنفسهم لايميلون الى اظهار ذلك الاعتزاز عن طريق الثورة أو التمرد أو العصيان أو التحدي، فهم معتزون بأنفسهم لأنهم واثقون بذاتهم ومؤهلاتهم وبقدرتهم على الاختيار الذي يناسب ويتفق مع مزاجهم وطبيعتهم ومصالحهم التي لاتتناقض مع الأهداف السامية لهم كدولة وكأمة. وانطلاقاً من فلسفة هذا التدرج ومنهجيته كأسلوب مغربي في التعامل مع الأحداث والتحديات والمهام الكبرى نجد التفسير الواقعي للمهام التي لم يستطع انجازها المولى إدريس في تلك الفترة القصيرة لحكمه والتي تهيأ لبعضها وأنجزها خلفه المولى إدريس الثاني، ثم من بعده خلفه من أبنائه ومن بعدهم دولة المرابطين. إن تلك المهام كانت جسيمة وتتطلب الوقت والصبر والإعداد، وقبل كل شيء تتطلب النضج، أي تطرح نفسها كأولية تسبق غيرها من الأوليات. وهكذا بقيت في عهد المولى إدريس الأول دويلات كانت موجودة قبله، وظلت خارجة عن نطاق سلطته ونفوذه الروحي أو السياسي، مثل البرغواطيين وبني مدرار، وبني صالح، وبني عصام، وقد توزعت هذه "الدويلات" على مناطق في الشمال وفي الجنوب، وكان لها حكامها ونفوذها المحلي، ولكن يجب القول هنا ان هذه "الدويلات" لم تكن تشكل كيانات منفصلة جغرافياً ومذهبياً وقومياً عن الوطن، والأصح أن توصف بأنها أقرب الى اقطاعيات محلية من كونها "دويلات" منفصلة، فهي جميعاً كانت تحت مظلة وسلطة الانتماء الى الوطن الواحد، وكان وجودها تعبيراً عن حالة أو مذهب أو عصبية طارئة لاتتوفر على وسائل مقومات الاستمرار، وكانت "حدودها" مرسومة لحكم نفوذ تلك الحالة أو المذهب أو العصبية، وليست حدودا "للسيادة" أو السلطة السياسية، وأحسب أن جميع قادة وزعماء تلك الاقطاعيات "الدويلات" كانوا يتوقون الى بسط تجربتهم أو نفوذهم أو مذهبهم ليشمل باقي أجزاء التراب الوطني، وبصرف النظر على الحكم الذي يصدره في حق أولئك الزعماء ودويلاتهم المؤرخون فإن هؤلاء جميعاً قد اتفقوا على أن تلك الحالة من التشرذم الروحي والسياسي والقومي كانت نتيجة غياب سلطة روحية سياسية مستقرة في المغرب، سلطة نابعة من اختيار المغاربة مجسدة لإرادتهم معبرة عن طموحاتهم موحدة لأفكارهم ومشاعرهم في ظل الدين الإسلامي الذي وحد قلوبهم وفتح عيونهم على آفاق الرسالة التي يسمون بها الى ذروة العطاء والإشعاع كأمة عظيمة. إن حالة التشرذم تلك كانت حلقة فراغ تاريخي، كانت الوحدة الوطنية المغربية قبل الإسلام وحدة مواجهة وتصد للقوى الخارجية، وبعد دخول الإسلام كانت تلك الوحدة تبحث عن وجهها الجديد لتنبعث وتعلن عن نفسها في ظل الدين الحنيف كعقيدة روحية ونظام سياسي وتنظيم مدني اجتماعي. وجاء تأسيس الدولة المغربية على يد المولى إدريس ليعلن عن الميلاد الجديد للوحدة الوطنية المغربية وليضع حداً لذلك الفراغ التاريخي، ولهذا كان محكوماً على حالة التشرذم الروحي والسياسي والقومي أن تأفل وتضمحل وتنتهي.وكان ذلك يحتاج الى وقت لا من أجل استكمال أو توفير القوة المادية لمحو الظاهرة - الحالة، بل من أجل أن يأخذ التغيير مجاله في العمق ليكتسح الظاهرة - الحالة بقوة الدفع التاريخي للأحداث، والانسان، والتنظيم، والاستيعاب، والأفكار حتى يكون القضاء على الظاهرة - الحالة قضاء حتمياً وكاملاً لتتمكن الأمة من وسائل اندفاعها في بناء حضارتها الجديدة، ولتبقى الحالة مجرد ظاهرة خارجة عن نطاق التاريخ السياسي والقومي للأمة، ظاهرة لايملك أحد وسائل تبريرها أو يجد ما يبرر به التساؤل عن امكانية تكرارها بشكل أو بآخر. ولقد ساعد وجود تلك الحالة في فترة بناء دولة المغرب الجديدة، على بلورة الوعي الوطني بالوحدة السياسية والترابية والروحية للوطن والأمة، ونعني بهذا أن وجود تلك الدويلات المتناثرة قد أذكى طموح وتطلع القوتين المجاورتين للمغرب: الأمويين من الشمال، والعباسيون والفاطميون من الشرق، لبسط نفوذهم على المغرب واستغلال هذه الدويلات للاستئثار بالسلطة في هذا الجزء أو ذاك من المغرب، وتجلى هذا التطلع وذاك الطموح في تلك العلاقات التي تراوحت بين التحالف التكتيكي وبين المواجهة والتصدي، واستمر هذا الوضع مدة طويلة نسبياً، ولكنه أسهم مساهمة أكيدة من جهة أخرى في إذكاء الوعي الوطني لدى المغاربة قيادة وشعباً لوضع حد لمراكز الكذب السياسي، وتمتين الوحدة الوطنية، ودعم وترسيخ مقومات الدولة المغربية والدفاع عن شخصيتها ونفوذها واستقلالها الوطني عن القوتين المجاورتين ولقد تطلب ذلك جهداً كبيراً ومتواصلاً بنى قواعده وحدد أهدافه المولى إدريس الأكبر موحد الأمة المغربية وباني دولتها. إن المولى إدريس ما كان له أن يجابه تلك التحديات الداخلية والخارجية بالاعتماد على قوة أو جيش، فلو كان هدفه هو تأسيس دولة تمتلك قوة ضاربة يبسط بها نفوذه ويواجه البؤر المرشحة للتمرد داخلياً، وفي نفس الوقت قوة خارجية، لو كان هدفه ذلك لعانى الأمرين، وحتى لو كسب بتلك القوة المعارك المتعددة، فإنه كسب مؤقت لن يكتب له الدوام، ولكن المولى إدريس أسس في الواقع قواعد دولة لها رسالة، أو بالأحرى قواعد رسالة بنى عليها قوام دولة رسالة تلتف حولها القلوب، وتحتشد الصفوف، وتشحذ العزائم والهمم، فكان صاحب رسالة بنى عليها المغاربة دولتهم وحموها ونأوا بها عن الدخول في مواجهات وصراعات ومعارك تسفك فيها الدماء وتعشش الحزازات والأحقاد، فكان أن كتب لهذه الدولة - الرسالة البقاء والاستمرار والمناعة والقوة المتجددة عبر العصور والأحقاب، فلم يكن لهذه الدولة أطماع للتوسع، ولا تطلعات للهيمنة خارج اطار وحدود وجودها وحياتها وبيئتها الحضارية والبشرية، لذا فبدل أن تدخل في مواجهات تستنفد قوتها وتفرغ رسالتها من محتواها، كان لها مع الأقدار مواعد لمعارك لنصرة المسلمين والذود عن حمى الإسلام في الأندلس، وفي المغرب العربي وفي فلسطين، وعلى المستوى الوطني فإن الدولة المغربية التي أسسها إدريس على تقوى من الله ورضوان كانت دولة الوحدة والتآلف والتضامن والعدل والمساواة، فليس في بنيانها الشامخ قطرة دم سفكت غدراً أو انتقاماً أو عنتاً من مواطن، وإنما كان للحق الذي لاتفريط فيه جولات تنتهي بسيادته وانتشاره واستتبابه بين الناس. وبقيت هذه المثل التي بنى عليها المولى إدريس دولة المغرب، وطبعت سيرته ومواقفه وسياسته، بقيت قواعد ثابتة لاتتغير لجميع الأسر التي توارثت عرش المغرب، وأصبحت تلك المثل ملازمة لسياسة المغرب الداخلية والخارجية، إنها أحد الأسس الثابتة للاستمرار. هنا يكمن، مرة أخرى سر خفي عميق من أسرار المولى إدريس الظاهرة، المولى إدريس القبس المضيء من مصباح النبوة المشرق "كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولم تمسسه نار نور على نور" صدق الله العظيم. عرش المغاربة جاء المولى إدريس إذن للمغرب حاملاً رسالة في قلبه وتفكيره وهدفه، لم يأت طالباً لملك يسعى إليه بقوة أو جيش أو أنصار، نعم كان طالب حق، وحينما بايعه الشعب المغربي تناسى ما كان يحمله في صدره من رغبة في امتلاك ذلك الحق وإقامته في أرض بعيدة عن المكان الذي كان أهله يطالبون بإقامة حقهم فيه، وما بقي في صدره من الشرق كان هو إرادته في إقامة حكم اسلامي عادل وطاهر في المغرب، وإصلاح الوضع في العالم الإسلامي، وإقامة الحجة والبرهان على صدق وطهارة أهل البيت في قيام نظام حكم يستند على الشرعية الإسلامية وأحكام الكتاب والسنة، وحينها حقق الله هدفه ويسر له السبل، وفتح قلوب المغاربة لمحبته والالتفاف حوله شرع القواعد الثابتة لدولة اسلامية لا مشرقية ولا مغربية، لا أموية ولا عباسية، وإنما هي دولة الإسلام والمسلمين، وكان سبيله الى ذلك هو الحوار والإقناع والشورى وإيثار المصلحة العامة على ما سواها، وكأني به كان يشعر أن حياته لن تطول، فحقق في تلك المدة القصيرة أهم وأعمق انجاز لرجل رسالة سامية، ألا وهو دستور الدولة، وما ذلك الدستور إلا رسالته لنشر الإسلام وحمايته والاهتداء بأحكامه والوحدة الوطنية في ظله، وهو الدستور الذي جعل من العرش المغربي مقدسة من مقدسات هذه الأمة، عرش يتوحد حوله المغاربة يجدون فيه الحمى ويستهلمون منه الرشاد والقوة ويلتفون حوله في الشدائد وينتصرون في المعارك. ورعم أن أسراً متعددة قد توالت على العرش المغربي فإن أياً منها لم يمس قدسيته أو يستعمله لهدف غير الهدف الذي قام من أجله أو يطمس معالم رسالته، بالعكس، فقد كان العرش المغربي ملهماً لكل من توارثه حافزاً له على القيام بواجباته الدينية والدنيوية تجاه الله والأمة والوطن، وكل أسرة أضافت في سجلها للعرش المآثر والمفاخر، وحينما تضعف أسرة أو تتوانى عن الاضطلاع بأعباء رسالة العرش الإسلامية تتوارى لتعقد البيعة لأسرة أخرى تتولى مسؤولية الحفاظ والقيام بتلك الرسالة مؤيدة معززة بالتحام الشعب حول عرشه وحولها. فهو عرش واحد وهي دولة واحدة وهو شعب واحد ولقد سن المولى إدريس قيم المرونة واللين والحسنى وسعة الصدر تجاه ما يكره، والحنكة في سياسة الملك، لقد زرع البذور الأولى في سيرته وسياسته لسياسة العرش المغربي والملوك المغاربة، وجعل الإحتكام في كل موقف أو مبادرة الى تعاليم الإسلام الحنيف وحدوده المبينة، فلا مهادنة ولا تراجع حينما يتعلق الأمر بتلك التعاليم وتلك الحدود. * تنشر المذكرات، بالاشتراك مع صحيفة "الاتحاد" الظبيانية، على حلقات اربع مرات في الاسبوع: الاثنين، الثلثاء، الخميس، والسبت