يسمع المتتبعون للعلاقات الأميركية - العراقية منذ نحو اسبوعين نغمة جديدة في مواقف واشنطن من الأزمات التي تثيرها بغداد مع مفتشي الأسلحة الدوليين، أو - من المنظور العراقي - التي يثيرها المفتشون، خصوصاً رئيسهم ريتشارد بتلر، مع بغداد. وعلى رغم اللغة القوية الحادة التي يستخدمها المسؤولون في إدارة كلينتون منذ زيارة بتلر الأخيرة لبغداد واجتماعه مع نائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز في الاسبوع الأول من الشهر الجاري، فإن مضامين هذه اللغة تختلف اختلافاً كبيراً عن مضامين اللغة، والاجراءات، التي استخدمتها واشنطن واتخذتها خلال أزمة شباط فبراير الماضي. خلال أزمة شباط التي ثارت بسبب موقف العراق من تشكيلة فرق المفتشين ونسبة الخبراء الأميركيين أو "الجواسيس" حسب قول بغداد واصرار بتلر والأميركيين على تفتيش مواقع رئاسية عراقية، كانت لهجة واشنطن عسكرية مسنودة بتحريك واستنفار قوات. وأعلنت لندن في ذلك الحين انها ستساهم في تسديد ضربة للعراق. ولم يحل في النهاية دون انفجار الوضع سوى تدخل الأمين العام للأمم المتحدة كوفي انان الذي أدت مهاراته الديبلوماسية، وحديثه عن ضرورة اعطاء العراق أملاً برؤية الضوء في آخر نفق العقوبات، الى نزع فتيل الأزمة والتوقيع على تفاهم ينظم عمل المفتشين وربما يسرع ذلك العمل بأمل اصدار لجنة الأممالمتحدة الخاصة بازالة أسلحة الدمار الشامل العراقية "شهادة براءة" للعراق من حيازة تلك الأسلحة لترفع بعدئذ العقوبات الدولية القاسية. أما في الأزمة الأخيرة التي أدت الى تقصير بتلر مدة زيارته لبغداد بعدما وجهه طارق عزيز من اتهامات اليه والى لجنته ومفتشي الأسلحة، فقد كان رد الفعل الأميركي خافتاً وخلا من أي تهديد ذي صدقية باللجوء الى استخدام القوة من جانب واحد. وقد رأت وزيرة الخارجية الأميركية هذه المرة أن الأزمة الأخيرة ليست بين العراقوالولاياتالمتحدة وانما هي بين العراقوالأممالمتحدة. وهكذا نأت بالادارة الأميركية عن مضاعفات الموقف العراقي وسبل التعاطي معه ملقية الكرة في ملعب أنان. وبدا الموقف الأميركي الجديد واضحاً حتى قبل نشر صحيفة "واشنطن بوست" تقريراً أكدت فيه "مصادر ديبلوماسية أميركية" ان اولبرايت اتصلت برئيس "اونسكوم" بتلر في الرابع من الشهر الجاري، عندما كان في المنامة بعد اختصار مدة زيارته لبغداد، وطلبت منه تجنب التسبب في أزمة جديدة مع العراق والغاء عمليات تفتيش مفاجئة بحثاً عن أسلحة محظورة. ولم ينفِ البيت الأبيض أو بتلر حدوث ذلك الاتصال وانما حاولا "ترقيع" المسألة. اذ اعلن الناطق باسم البيت الأبيض مشيراً الى "المسؤولين الدوليين" انه جرى التشاور معهم "حول أفضل طرق لتنفيذ مهمتهم"، فيما قال بتلر ان ايحاء "واشنطن بوست" بأنه تلقى أوامر من واشنطن "يشكل تشويهاً بالغاً لما حدث". أما السبب الكامن وراء هذا التغيير في موقف الولاياتالمتحدة من الأزمات مع العراق، فهو ذو جوانب متعددة أهمها بفارق كبير الشعور، لا بل اليقين، السائد في العالم العربي بأن أميركا التي طالما اتهمت باعتماد معايير مزدوجة في التعامل مع اسرائيل والعرب، قد انسحبت نهائياً من عملية السلام التي اطلقتها بعد "عاصفة الصحراء". وبهذا تكون أميركا التي بادرت الى اعلان عملية السلام لتبرئة نفسها من تهمة المعايير المزدوجة، قد ثبتت التهمة الآن واستحقت إدانة مضاعفة. ومن الأوجه الأخرى لسبب هذا التغير في الموقف الأميركي أن غالبية الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وغالبية دول العالم، قد سئمت من استمرار العقوبات وتكرار الأزمات والضربات الجوية والصاروخية والتعبئة العسكرية، وازدادت تحسساً لمحنة الشعب العراقي وبؤسه. ويبقى في النهاية ان أميركا التي لا تجرؤ الآن على ضرب بلد عربي، مهما كان معزولاً في محيطه، ادراكاً منها لعواقب جريمة الانحياز الأعمى لاسرائيل، ستظل متشبثة بتطبيق العقوبات على العراق، خصوصاً ان هذه لا تكلفها شيئاً وتساهم في قتل الأطفال والضعفاء من دون ضجة أو قرقعة بالسلاح