بعض الروايات مثل الماء الزلال، لابد أن تعود إليها، كلما أضناك العطش، ومن هذه الروايات: الغريب، حرير، المعطف، الشيخ والبحر، جسر على نهر درينا، وغيرها كثير. وقد انتهيت للتو، من قراءة ثانية للرواية القصيرة والمؤثرة "حرير" من تأليف "اليساندرو باريكو" والتي تدور أحداثها، في القرن التاسع عشر، وبطلها ضابط سابق، وجد قدره، يدفعه دفعا، لجلب يرقات دودة القز من أقصى دول الشرق، يوم لم تكن هناك طائرات، ويوم كانت اليابان، تفرض العزلة، على نفسها! كان "هيرفي جونكور" الضابط الذي كان والده، ينتظر له مستقبلا زاهرا في الجيش، قد أصبح يحقق دخله، من عمل لم يكن يخطر له على بال، ومن دواعي السخرية، بالنسبة لعسكري في الجيش، أن يكون ذلك العمل، بصفات فاتنة، خلعت عليه، طابعا أنثويا، ويربط الكاتب الفترة التي انخرط فيها "جونكور" بتجارة الحرير، بالفترة التي أصدر فيها الكاتب الفرنسي "فلوبير"، روايته "سالمبو" وبالفترة التي كان فيها "ابراهام لنكولن"، يخوض حربا وراء المحيط، لايرى لها نهاية في الأفق، في ذلك الوقت كان "هيرفي جونكور" في الثانية والثلاثين، شابا ينتظره كل شيء، إلا قطع آلاف الكيلومترات، كل عام وفي موعد محدد، لجلب يرقات الحرير، ومن بلد لا يربطها بجيرانها أي رابط، حتى تم إجبارها على السماح بفتح فجوة، يدخل منها الجيران وغير الجيران، لكن "جونكور" مازال عاشقا للالتفاف، عبر عديد من الدول والصحاري والبحار، حتى يصل إلى هدفه، حيث في كل مرة يجد بغيته، حتى في المرة الأولى، يوم بيعت عليه، يرقات مضروبة، قال لمن نبهه، بأنه دفع قيمة ما أخذ، وهو على إدراك كامل، بما أخذ! كان التعبير عن العودة الخائبة مؤثرا، مع أنه في المرة الأخيرة، ذهب وعاد من نفس الطريق، الذي كان يسلكه، في المرات السابقة، في المرة الأخيرة، كان ذهابه، بحثا عن حصاد القلب، القلب الغامض، ابن الأرض الغامضة، الأرض التي تعطيك البذور، لكنها لا تعطيك النبض، النبض الذي تريد تهجينه، مثلما تهجن يرقات الحرير: (عندما انعطف الطريق، ليخفي منظر القرية وراءه إلى الأبد، خلف كتف الجبل، وقف "جونكور" غير مبال بالرجلين، اللذين كانا يرافقانه، نزل من على الحصان وتوانى قليلا، عيناه على تلك البيوت، التي تتسلق جانب التل. بعد ستة أيام، كان على ظهر سفينة تهريب هولندية، حملته إلى "سابيرك". ثم التف حول الحدود الصينية، حتى "بحيرة بايكال". قطع أربعة آلاف كيلومتر، عبر "الأورال". واصل عائدا إلى "كييف" وعبر كل أوروبا بالقطار، من شرقها إلى غربها، حتى كان بعد ثلاثة شهور، في فرنسا. يوم الأحد الأول من أبريل، في وقت القداس الكبير، وصل إلى أبواب "لافيل ديو". رأى زوجته "هيلينا" تجري نحوه، شم عطر جسدها وهو يعانقها، وسمع المخمل في صوتها، وهي تقول له بنعومة "ها قد عدت!" يعود "جونكور" من آخر رحلة، لجلب يرقات الحرير، خائبا، فقد تأخرت عودته، كان موعد التخصيب قد انتهى، وجدت كافة اليرقات فاسدة، كانت النصيحة واضحة بعدم الذهاب، لنشوب الحرب هناك، لكنه أصر، فقد أصبح حبله السري هناك، ولم يقصر أحد من صناع الحرير في تقديم الدعم له، رغم علمهم بالمخاطر، التي تنتظره هناك، ورغم عرضهم دعمه بشكل أفضل، في رحلات لدول بديلة، لكن حب الشرق الغامض، ونساؤه الأكثر غموضا، كانا قد تغلغلا في قلبه، وهو حب من طرف واحد، لقد عاد من هناك بلاشيء! ليجد في انتظاره زوجته، المدركة بحس الأنثى، بالحبل الذي ربط زوجها قلبه به هناك ، في اليرقات والنساء والجزر والصمت والانغلاق والكبرياء، بلد لا تعطي للغرباء قلبها بيسر، قالت له "هيلينا" بنعومة، وهو يعانقها "ها قد عدت!"