كم هو مؤلم لنا حقاً أن تسرع إسرائيل إلى ارسال "فرق انقاذ" بعد التفجيرات الارهابية في سفارتي الولاياتالمتحدة في كينيا وتنزانيا. ويزداد الألم رسوخاً عندما يتزامن هذا العدوان في الدولتين الافريقيتين مع التبجح الذي يسود الكثير من الذين يدعون أنهم ينتمون إلى "جماعات إسلامية" بأن الشعور بالاحباط يدفعنا لأن نجتنب مواجهة هذه النتوءات في جسم الأمة العربية المريض وإلى حد ما في عالمنا الإسلامي. الألم عميق ويكاد يقعدنا عن التفكير وعن العمل الايجابي البناء. لماذا يوجد في الوسط العربي والإسلامي ارهابيون؟ صحيح انهم قلة ولا يمثلون أي تيار عام في الإسلام ولا يعبرون عن الدور الحضاري المنير لإنسانية الإسلام. لكن الارهاب في معظم الحالات هو انفجار الكبت والغضب وبالتالي فهو يأخذ من التزمت سلاحاً لإثبات الذات. الارهاب ليس فقط نقيض المقاومة، بل هو تزوير فاقع لها. بمعنى آخر، من يلجأ إلى ممارسة الارهاب يكون قد استسلم لليأس، فانفجر حاقداً، بينما من التزم المقاومة للاحتلال، للظلم، للفساد، للعدوان يعي أن دوره يكمن في المقاومة من أجل التحرير من الآفات المشار إليها. المقاومة دليل تفاؤل بمستقبل التحرير للوطن والحرية والكرامة للمواطن، لذلك تعمل إسرائيل ومعها أنصار الصهيونية في الولاياتالمتحدة على تصوير المقاومات المشروعة مثل "حزب الله" في جنوبلبنان و"حماس" وجبهات أخرى في الحال الفلسطينية، على أنها منظمات "ارهابية". يقصد من هذا الخلط ربط عمليات المقاومة المشروعة ضد الاحتلال الإسرائيلي وكأنها والارهاب صنوان. وما يدفع إسرائيل إلى الاعلان المتواصل عن هذا الربط كونها تريد أن تحول الإدانة الصارخة لأعمال الارهاب لتشمل استعداء دولياً ضد المقاومة المطلوبة لاحتلالها وعدوانها. استطراداً تتبين لنا صحة ما نشعر به من وجع ومعاناة عندما ترضخ الإدارات الأميركية المتعاقبة، ومعها الكونغرس، لهذا المنطق ولهذا التزوير الصهيوني للحقائق. هذا الخلط الذي تستمر إسرائيل وأنصارها في نشره يستهدف دفع المقاومة نحو اليأس حتى يتحول مخزون الاستقامة في النضال المقاوم إلى إحباط كامل وبالتالي إلى انفجارات عبثية توظف، كما هو حاصل الآن في نيروبي ودار السلام، من ربط "إسرائيل" بعمليات انقاذ تتسم بالطابع الإنساني. كما أنه من المتوقع أن تعزف الولاياتالمتحدة عن تلبية طلب "المفاوض" الفلسطيني، خصوصاً الرئيس عرفات، بأن تعلن إدارة الرئيس كلينتون من المسؤول عن فشل "المفاوضات". وعن رفض "المبادرة الأميركية". استطيع أن أتصور، إذا لبت الإدارة الأميركية طلب السلطة الفلسطينية بأن تعلن موقفها، كيف تكون ردود الفعل على مختلف الأصعدة، ما يمعن في تمرير من الانحياز لإسرائيل "التي تقود حملة الانقاذ للضحايا الأميركيين وغيرهم" في نيروبي! إن التصدي لحملة إسرائيل في تعميم الخلط بين الارهاب والمقاومة بغية دفع المقاومة إلى الاستقالة من التزاماتها المناقبية وعملياتها المكلفة للاحتلال وعمليات التهويد التي تقوم بها في القدس وغيرها تتطلب إعادة نظر في وضع المقاومة بكل شرائحها في الدول العربية. إذا ألقينا نظرة سريعة على الواقع العربي بمجمله - كذلك واقع العالم الإسلامي - نجد أن الارهاب ينمو عندما تكون المقاومة غير مرتبطة برؤيا مستقبلية وببرنامج سياسي واضح. إذا لم يتوافر الارتباط عندئذ تقع المقاومة المشروعة بين فكي كماشة: قمع السلطات لها أو المزايدة عليها كي تتحول عن أهدافها التحررية وتصبح سجينة الانفعال وأداة لتفجير الكبت. إن المقاومة تجعل المستحيل ممكناً، في حين ان الارهاب يجعل - بشكل اجمالي - الممكن المدروس والمبرمج مستحيلاً. يتبين لنا في الظروف الراهنة أن المقاومة وحركات التغيير هي بمثابة قوة ثالثة بين الاحتلال وأنظمة قمع وتبعية مذلة من جهة، وبين الحاجة الماسة للتصدي لمحاولات الاختراق الساعية إلى تيئيس المقاومين والصامدين ودفع الحيوية الكامنة في التزامهم للإسهام في عمليات ثأرية وعبثية تستنزف قدرة وفعالية ومصداقية المقاومة المشروعة. فالمقاومة الأصيلة تتخذ أشكالاً عدة كي تصل إلى أهدافها من خلال استنفاد كل الوسائل التي تنطوي عليها من الاقناع والمطالبة الملحة بالحق وتوسيع رقعة التحالف وطنياً ودولياً والعصيان المدني، ومن ثم المجابهة الشاملة، أو بوسائل متعددة في وقت واحد. أما العمليات المسماة "ارهابية" فهي تستنزف موقفها بمجرد الاعلان عن عملية ما. المقاومة تعتبر الكلمة مسؤولة، في حين ان الارهاب يوظف الكلمة للتخويف وتبرير العمل الذي يقوم به. صحيح أن ما حصل في نيروبي ودار السلام يستحق الإدانة الفورية لأن التفجيرات التي حصلت وإن كان استهدافها واضحاً، إلا أن من قاموا بهذه العمليات لم يحسبوا احتمالات الضحايا المدنية التي تنشأ من أعمال عشوائية غير منضبطة بقيم حضارية تتجنب إلحاق أي ضرر بالمدنيين، بينما تصرّ القيم ذاتها على إحقاق الحق وتأمين الحقوق. كما أن استهداف الممثليات الديبلوماسية في الخارج وفي دول صديقة أو غير صديقة، ليس له مبرر اخلاقي أو سياسي، بل بالعكس، يوفر للمستهدف تعاطفاً. كما أن المردود يكون عكسياً ومضاداً لثقافات وحضارات وأديان الشعوب، ويمكننا بالتالي أن نقول إنه في حين أن المقاومة هي من صلب حضارة الشعوب الأصيلة، فإن الارهاب هو خروج على القيم الإنسانية التي تميز معظم الحضارات والثقافات وفي طليعتها الحضارة الإسلامية والثقافة العربية. قد يتساءل المحبطون لماذا علينا أن ننضبط بفرامل مناقبية، في حين ان العدو وأنصاره لا يتورعون من ممارسات "ارهاب" الدولة والضرب العشوائي على مخيمات اللاجئين وتدمير البيوت واقتلاع المواطنين وتشريد الشعوب وغيرها من الأعمال التعسفية وخرق حقوق الإنسان والممارسات الهمجية التي تقوم بها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وأنصار إسرائيل؟ الجواب بسيط، وعلينا فهمه واستيعاب معانيه. الجواب هو ان الارهاب المنظم الذي تمارسه إسرائيل لا يواجه بارهاب مماثل فاقد الانضباط. ارهاب إسرائيل يواجه فقط بمقاومة سليمة بكل عناصرها، من التعبئة العامة إلى العصيان إلى المواجهة. الارهاب ينفّر حتى الذين قد يشاركون في إحباط الارهابيين لكنهم كصامدين ومقاومين، فإنهم يعتبرون الاحباط موقتاً ويصنفونه كمرحلة، فيما تتصرف العمليات الارهابية كأن الاحباط سمة دائمة وأن لا مجال لتصحيح الأوضاع، لذا يصبح اللجوء الى الارهاب للتعبير عن الغضب خياراً وحيداً. لكن عندما ينفجر الغضب يندثر وبالتالي يفقد الاحتضان الذي تمنحه الأمة للغاضبين بحق. ان الاحتضان الدافئ للغضب هو دليل للقناعة كون غضب اليوم يعني الاستقلال والتحرر في الغد. فالهدر الذي يلحق بالغضب بعد عمليات ارهابية يفقد الغضب فاعليته ومشروعيته. أما الغضب الذي تبلوره المقاومة يعيد المشروعية والمضمون الانساني للقضية التي أملت على الشعوب الالتزام بها والعمل من أجلها. إن المجتمعات العربية والاسلامية بصورة عامة مطالبة اليوم باجراء عملية فرز بين الاحباط الدائم وبين مرحليته، كما ان عليها تعبئة المجتمعات للتفريق بين العنف كخيار أول ووحيد والعنف المقاوم الذي ينتج عن استنفاد الخيارات الأخرى. هذا التفريق ضروري حتى لا نقع في الخلط التي يدمج المقاومة بالارهاب والذي من شأنه افقادنا فرص التحرر للوطن والحرية للمواطن. من هذا المنظور يتبين لنا كيف كانت الانتفاضة الفلسطينية بمثابة مقاومة ألهمت المتطلعين الى المستقبل ليس في ارجاء الوطن العربي والعالم الاسلامي فحسب بل في معظم بقاعات العالم. صحيح ان اتفاقات أوسلو وما تبعها كادت ان تهدر النتائج الايجابية التي حققتها الانتفاضة من خلال جعل السلطة الفلسطينية البديل للانتفاضة بدلاً من ان تكون تتويجاً لها. وعلى رغم ان الكثيرين من كوادر السلطة كانوا ولا يزالون من المناضلين في صفوف منظمة التحرير إلا أن تمكتب السلطة وخرقها للحقوق واستشراء الفساد في بعض اجهزتها بدون ان يكون لديها أي سيادة على الأرض، أربك المقاومة كونها تعتقد ان استمرار المقاومة للاحتلال ضرورة كما تعتبر السلم الأهلي ووحدة الشعب الفلسطيني أولوية مطلقة. شعور المقاومة بمسؤولية الحرص على الوحدة الوطنية وضرورة متابعة وتصعيد النضال يدفع، على ما اعتقد، المقاومة إلى أن توفق بين هاتين الأولويتين كونهما متزامنتين لا متلاحقتين. المقاومة تعمل في مجالات التعبئة والتثقيف. توضح ما يجب أن يُرفض وفي الوقت نفسه تحدد ما تريد. المقاومة في حقيقتها مدرسة والتحرر بالنسبة اليها هو حفلة التخريج. المقاومة تسعى وتطمح إلى إلغاء دورها، إذ أن هذا يتم من خلال انجاز أهدافها في التحرر والتمهيد لبناء المجتمع، أما الارهاب فيفصل بين الهدف والوسيلة وتصبح الوسيلة نقيض الهدف المعلن. الارهاب يفسر التحريض من جانب المتربصين بحقوق ومصالح الأمة وشعوبها ومصالحهما، في حين ان المقاومة السليمة توسع اطار المتعاطفين والملتزمين بها. المقاومة تؤمن ان الوسيلة هي جزء مؤسس للهدف ولا يجوز ان تكون منفصلة عنه. هذا الارتباط العضوي بين الوسيلة والهدف هو في الواقع الرد الحضاري الحاسم على ارهاب الدولة الذي تمارسه اسرائيل وعلى سياسات القمع. في المقابل يلجأ الارهاب الى الترويع والانتقام في حين ان المقاومة تلجأ الى الاقناع والتنوير والى تأكيد وتعميق الأمل بسلامة وصول الوطن المغتصب أو المحتل الى الاستقلال وصيرورة كرامة المواطن وحريته. في اعقاب الأحداث التي جرت في كل من دار السلام ونيروبي كان لا بد ان تحاول اجهزة الاعلام - خصوصاً في الغرب - تصويب اصابع الاتهام الى فئات متطرفة عربية واسلامية. لكن تجربة العملية الارهابية في اوكلاهوما عام 1995 وما تبعها من افتراءات ضد العرب والمسلمين واضطهادهم ساهم في لجم الكثير عن تكرار التجربة المرة التي ترافقت مع الاتهامات العشوائية. لو فرضنا ان الذين قاموا بهذه العمليات المتهورة تلظوا وراء شعارات دينية فيجب أن لا ينسحب هذا على الشعوب العربية والاسلامية. لذا فما نحن بصدده اليوم يكمن في تسليط الضوء على محاولات اعداء العرب والمسلمين الذين يعملون على استمرار الربط الكاذب بين المقاومة والارهاب لئلا يؤدي هذا الى مواقف عربية واسلامية متناسقة في نبذ الارهاب ودعم المقاومة المشروعة في نضالها ضد الاغتصاب والعدوان والاحتلال والتبعية. وكما ان الاحتلال لا يتردد في استعمال ارهاب الدولة كذلك الأمر بالنسبة إلى أنظمة القمع التي تستعمل الارهاب في بقاء تسلط الدولة على المجتمعات الأهلية. إنها أيام صعبة لكن لا مفر من استنفار العقل في مواجهة محاولات استنفار الغرائز الدفينة. لا بد أن نلجأ الى الأعصاب المتينة التي توفرها لنا الحضارة الاسلامية المعطاء وثقافتنا العربية. كي نردع النزوات التي تجعل منا سجناء عصبيات تكاد تفتت كياننا وتهمش دورنا وتجهض معالم تراثنا والقيم الروحية في حضارتنا. حرصنا على المقاومة هو ان نمحضها بالمناعة الكافية التي تحول دون الارهاب والقمع والاحتلال والعدوان. هذه المناعة تحمي المقاومة المشروعة من القمع ومن الاستباحة. وتتحقق هذه المناعة بواسطة ازالة الخلط الهادف الى تحقيق المشروع الصهيوني القائم على التفريق بين الأقطار العربية ومن ثم التفتيت في مجتمعاتهم. هذا الهدف يتم جزئياً من خلال وقوع قلة منا عن وعي أو لاوعي في مخالب الخلط الذي تعمل اسرائيل وأنصارها على اقناع العالم به. * مدير مركز "عالم الجنوب" في الجامعة الأميركية في واشنطن.