البديوي: إحراق مستشفى كمال عدوان في غزة جريمة إسرائيلية جديدة في حق الشعب الفلسطيني    منع تهريب 1.3 طن حشيش و1.3 مليون قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    جمعية(عازم) بعسير تحتفل بجائزة التميّز الوطنية بعد غدٍ الإثنين    مراكز العمليات الأمنية الموحدة (911) نموذج مثالي لتعزيز الأمن والخدمات الإنسانية    الهلال يُعلن مدة غياب ياسر الشهراني    جوائز الجلوب سوكر: رونالدو وجيسوس ونيمار والعين الأفضل    الفريق الفتحاوي يواصل تدريباته بمعسكر قطر ويستعد لمواجهة الخليج الودية    ضبط 23194 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود.. وترحيل 9904    بلدية محافظة الاسياح تطرح فرصتين استثمارية في مجال الصناعية والتجارية    حاويات شحن مزودة بنظام GPS    الأونروا : تضرر 88 % من المباني المدرسية في قطاع غزة    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب الفلبين    مهرجان الحمضيات التاسع يستقبل زوّاره لتسويق منتجاته في مطلع يناير بمحافظة الحريق    سديم "رأس الحصان" من سماء أبوظبي    أمانة القصيم توقع عقد تشغيل وصيانة شبكات ومباشرة مواقع تجمعات السيول    «سوليوود» يُطلق استفتاءً لاختيار «الأفضل» في السينما محليًا وعربيًا خلال 2024    الصين تخفض الرسوم الجمركية على الإيثان والمعادن المعاد تدويرها    المكسيك.. 8 قتلى و27 جريحاً إثر تصادم حافلة وشاحنة    بعد وصوله لأقرب نقطة للشمس.. ماذا حدث للمسبار «باركر» ؟    الفرصة مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    انخفاض سعر صرف الروبل أمام الدولار واليورو    أدبي جازان يشارك بمعرض للتصوير والكتب على الشارع الثقافي    دبي.. تفكيك شبكة دولية خططت ل«غسل» 641 مليون درهم !    «الجوير».. موهبة الأخضر تهدد «جلال»    ابتسامة ووعيد «يطل».. من يفرح الليلة    رينارد وكاساس.. من يسعد كل الناس    رئيس الشورى اليمني: نثمن الدعم السعودي المستمر لليمن    مكي آل سالم يشعل ليل مكة بأمسية أدبية استثنائية    جازان تتوج بطلات المملكة في اختراق الضاحية ضمن فعاليات الشتاء    الرويلي يرأس اجتماع اللجنة العسكرية السعودية التركية المشتركة    مدرب ليفربول لا يهتم بالتوقعات العالية لفريقه في الدوري الإنجليزي    رئيس هيئة الأركان العامة يلتقي وزير دفاع تركيا    لخدمة أكثر من (28) مليون هوية رقمية.. منصة «أبشر» حلول رقمية تسابق الزمن    السعودية تقدم دعمًا اقتصاديًا جديدًا بقيمة 500 مليون دولار للجمهورية اليمنية    ضبط 3 مواطنين في نجران لترويجهم (53) كجم "حشيش"    وزير «الشؤون الإسلامية»: المملكة تواصل نشر قيم الإسلام السمحة    خطيب الحرم: التعصب مرض كريه يزدري المخالف    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    رفاهية الاختيار    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    حلاوةُ ولاةِ الأمر    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشرق "الخارجي": بلاد ما بين النهرين في الزمان والمكان
نشر في الحياة يوم 13 - 08 - 1998

بحلول القرن الحالي لم تعد أهمية انتاج المعرفة بالنسبة للمشروع الكولونيالي البريطاني في الشرق أمراً مفترضاً ضمناً، كما تجاوز التعبير عن تلك الأهمية طور التلميح والمواربة. اي ان الحاجة الى تطوير حقل "الدراسات الشرقية" لم تعد أمراً علمياً يخص العلماء وحدهم، بل اصبحت، حسب تعبير اللورد كرزون حاكم الهند: "واجباً امبراطورياً... من ضرورات الامبراطورية". وجرى التركيز على الحاجة الى هذه المعرفة كجزء لا يتجزأ من العملية الكولونيالية وواحد من السبل لادامة السيطرة الأوروبية على الشرق. من هنا لا يمكن فصل تطور علم الآثار لبلاد ما بين النهرين عن المشروع الكولونيالي. كما لا يمكن عزله عن السرد التاريخي الغربي العام، القائم على التقدم الحضاري، وهو ما يبرر بالتالي "المهمة التحضيرية" التي ادعتها الامبريالية لنفسها. اعتمد السرد الى حد كبير على خطاب في "الآخرية" طرح "ما بين النهرين" كماض للانسانية، كما يشكل اصطناع واستحضار "ما بين النهرين" من خلال هذا الخطاب الامبريالي الأرضية التي لا نزال نحدد عليها ما نعتبره "حقيقة تاريخية" والطريقة المقبولة لاستيعابها. لتحديد موقع ما بين النهرين في التقليد التاريخي الأوروبي - الأميركي، سأتناول أولا بُعدي الزمان والمكان التاريخيين في ابتنائهما لآفاق الاطار الذي تطرح ضمنه "ما بين النهرين". ثانياً، سأقدم برهاناً مختصراً على عدم امكان فصل هذا الاطار، وهو حسب تعبير هايديغر "يعمل كمعيار لتفريق مجالات الوجود"، عن التجريد الفكري الذي يستعمل في غالب الأحيان لتمييز ما بين النهرين، أي الاستبداد.
يبين النقد الما بعد كولونيالي والما بعد البنيوي ان عمل الكولونيالية لم يقتصر على النشاطات الاقتصادية والسياسية. فقد كان من الضروري لنجاح المشروع الامبريالي في الشرق وأفريقيا اقامة نظام كامل للتصنيف في مجالات العلوم والفنون. علينا النظر الى ممارسات علم الآثار لما بين النهرين ضمن هذا النظام، ليس فقط لأن هذا الحقل يتناول منطقة ذات اهمية سياسية جغرافية للغرب، بل ايضاً لموقعه الحاسم من الرواية الغربية الشمولية عن الحضارة الانسانية. وسمح علم الآثار، مثل غيره من العلوم الانسانية مثل الانثروبولوجيا والتاريخ، برسم خارطة أوروبية لأرض "الآخر" التي وقعت تحت السيطرة. واذا كان علم الاثنوغرافيا صور الانسان الواقع تحت سيطرة الكولونيالية على انه "بدائي" يحتاج الى التعليم الأوروبي فان علم الآثار يقدم طريقة لرسم خارطة ماضي البلاد المستعمَرة.
يعتني علم الآثار لما بين النهرين بتحديد ماض معين، وحضارة معينة في ذلك الماضي. من بين العناصر الرئيسية في تشكيل ممارساته النظرية، مثلما في العلوم التاريخية الاخرى، الزمن والمكان. لكن هذين القياسين "البديهيين" اونتولوجياً ليسا محايدين في الممارسة الأثرية. بل الواقع، اذا اخذنا باعتبارات هايديغير، ان "ما بين النهرين" تنكشف ضمن هذه البنية من الزمن والمكان على انها "وجود في العالم". من هنا، فهي كظاهرة موجودة، تجيء مُستبقة من قبل البنية الزمنية للسردية الشاملة للتاريخ. بكلمة اخرى ان "ما بين النهرين" كما نفهمها اليوم تشكيل فكري.
لا اهدف في هذه المقالة الى تحرير ماض "حقيقي" لما بين النهرين من سيطرة التصور الغربي. بل آمل ان اُظهر، من خلال تحليل ما بين النهرين كظاهرة في الخطاب الغربي، كيف كانت هناك حاجة في السرد الغربي لتقدم الحضارة، كحدث عضوي شمولي، لمفهوم محدد ل"ما بين النهرين". أهدف بعد ذلك الى ان اطرح على التساؤل مفهوم "ما بين النهرين" كما حدده الخطاب، والنظر في العناصر الايديولوجية المكونة لهذه الظاهرة. بكلمة اخرى، اريد ان اتناول البعد السياسي في علم الآثار لتناول ما بين النهرين ليس ككيان جغرافي تاريخي ينتظر الدرس والتنقيب والتفسير حسب هذا التقليد العلمي او ذاك، بل كمنتوج لشعرية السرد الغربي التاريخي.
لا نطرح، نحن العاملين في حقل أثريات ما بين النهرين، على التساؤل طبيعة حقلنا العلمي وحدوده واستراتيجياته التفسيرية. كما لا نتساءل، عندما نعتبره من النشاطات "الثقافية العليا" وعلماً انسانياً، عن طبيعته المؤسساتية او هويته. ذلك ان هذا العلم، اذ يدرك انه برز من ضمن السياق الكولونيالي، لا يرى ان ذلك لا يعني الكثير، بل أنه لا يعدو ان يكون واقعاً تاريخياً دون تأثر مباشر عليه. لا يقتصر هذا الموقف على الأثريين من أصل غربي، بل يشمل الأثريين الشرقيين أنا باحثة آثار شرق أوسطية تلقت التعليم في الغرب، لأن العلم لم يظهر في بلدان الشرق الأوسط الا بعد وقوعها تحت حكم الأوروبيين. من هنا فان أثريي ما بين النهرين، مهما كانت جنسيتهم، لم يتحمسوا للتمعن في الظروف التي نشأ فيها علمهم والكيفية التي صاغت فيها ممارساته مفهوم بلاد "ما بين النهرين" القديمة كحيز معرفي حديث.
علم التاريخ القديم وعلم الأثريات كانا بالتأكيد حيزين للصراع، كما نجد مثلاً في حال فلسطين / اسرائيل وقبرص. لكن هذه ليست الأمكنة الجغرافية والتواريخ الوحيدة التي يمكن الصراع حولها. في هذه المقالة اريد أن احدد وأتحدى موقعاً آخر، هو الأرضية الفكرية التي تعمل على انتاج الحضارة الغربية على انها سرد.
المكان والزمن المستبد
ترسخت في التقليد الانساني الغربي خلال النصف الثاني من القرن الماضي الاسطورة القائلة ان ما بين النهرين شكلت أصل الحضارة الغربية. وكان هذا الحقل المعرفي الجديد خطابا "ما فوق تاريخي" يقوم على مفهوم للحضارة يعتبرها كلاً طبيعياً عضوياً يشمل العالم بأسره. وتصور هذا السرد الزمن حسب هذه البنية العضوية وامكانات تطورها، ناظراً الى الماضي على انه جزء ضروري من الهوية الغربية الحالية، وان لموقعه في سلسلة التطور وصولاً الى الحاضر أهمية حاسمة.
عرّف ميشال سيرتو كتابة التاريخ على انها عملية للفصل والتقطيب الدائمين للماضي والحاضر. وفي حال ما بين النهرين لم يقتصر الفصل والتقطيب على الماضي والحاضر باعتبارهما مفهومين فينومينولوجيين مجردين. فقد عزلت اعادة التكوين التاريخي هذه "ما بين النهرين" عن اي مكان جغرافي لكي تضعه ضمن نسيج السرد التاريخي الغربي. اذ لا نجد في المؤلفات المعتمدة عن تاريخ الشرق الأوسط اية علاقة مهما كانت بين الحضارات السومرية والبابلية والآشورية وحضارة العراق بعد القرن السابع للميلاد، بل ان تلك الحضارات تندمج في منظور "تقدم الحضارة" وصولاً الى الغرب، التقدم الذي عليه بالتعريف ان يستبعد الشرق، لأن مفهومية تلك الحضارة تعتمد على مقارنتها بذلك "الآخر".
ماضي ما بين النهرين بحسب التاريخ المتعارف هو المكان الذي اتخذت فيه الحضارة العالمية خطواتها الطفولية الأولى: اللغة المكتوبة، القوانين، العمارة، وكل تلك الانجازات "الأولى" التي تحفل بها الكتب المتداولة عن ما بين النهرين - الانجازات التي تشكل "شعلة الحضارة" التي انتقلت لاحقاً الى العالم الاغريقي الروماني. واذا كانت بلاد ما بين النهرين مهد الحضارة، واعتبرت الحضارة على انها كلية شمولية، فان حضارة ما بين النهرين هي طفولة الحضارة الانسانية. وحتى في ثلاثينات القرن الماضي، قبل بداية التنقيبات العلمية في الشرق الأدنى، كانت فلسفة هيغل للتاريخ حددت هذه المنطقة بأنها المكان الذي شهدت فيه الانسانية طفولتها. وقدمت الكتابة التاريخية الأوروبية اطاراً تفسيرياً يشبّه تطور التاريخ بنمو الانسان، ويحدد الشرق مهداً لذلك الانسان. وعندما اكتُشفت آثار ما بين النهرين فعلاً بعد ذلك بسنين، كان هذا المنظور راسخاً تماماً وتم تفسير هذه المكتشفات على أساسه. هكذا استعملت كل الأدلة، النصية والبصرية وغيرها، لتأكيد منظور للتقدم توطد قبل اكتشاف آثار تلك الحضارات.
يضع هذا التنظيم الزمني للتطور حضارة "ما بين النهرين" في ماض غابر للانسانية، ماض هو من جهة "ماضينا" كغربيين لكنه من الجهة الثاني يتسم بالبربرية، أو انه حضارة لم تتحضر بعد. هذا التحديد الزمني ل"ما بين النهرين" يحدد أيضاً الموقع المكاني اللازم لعمل النظام. ونجد هنا، على صعيد الجغرافيا، ان حضارة "ما بين النهرين" لا ترتبط بالعراق، لأنها تسكن الحيز الزمني وليس الأرضي. من هنا، في هذه الحال، فان ارادة القوة التي استعملت في حالات كثيرة لانتاج التاريخ أرست كحقيقة تاريخية تطور الحضارة وكأنه "سباق تتابع" أولمبي يبدأ في مكان لا بد له ان يكون، مهما يبقى "وحشياً" وبربرياً، ضمن حيز "الغرب".
بتعبير أبسط، اذا كانت "علامات الحضارة" الأبكر وجدت في اقليم عثماني غالبية ساكنيه من العرب والأكراد، كيف يمكن التوفيق بين ذلك والفكرة الأوروبية عن تقدم الحضارة ككل عضوي؟ كان على الحضارة ان تعبر من ما بين النهرين ومصر الى اليونان. لهذا يجب عزل سكان هذه المنطقة المعاصرين عن ذلك الماضي، في الوقت الذي يجري فيه ادراج تلك الفترة الغابرة في مراحل تطور الحضارة. لكنها، باعتبارها ماض غابر لأوروبا، تعتبر مرحلة بدائية، تتسم بالاستبداد والتفسخ. المفارقة هنا ان الأفكار الاستشراقية خلال القرن الماضي عن الحضارة الشرقية ونظم الحكم والاقتصاد أُسقطت على الماضي لتشمل بابل وآشور.
تركيب الزمن التاريخي ليس فقط اداة غائية. لأن هذا الاطار الزمني ضروري ايضاً لعمليات التصنيف الجوهرية بالنسبة للمشروع الامبريالي. ما يقال دوماً هو ان "الغاية" التي يستهدفها تطور التاريخ تتطابق مع الغرب. وهناك عدد لا حصر له من المؤلفات في التقليد التاريخي الغربي تصف نقل الحضارة من الشرق الأدنى الى اليونان وروما ومن ثم الى الغرب الحديث، وهو منظور شائع لا يكاد يكون هناك من خلاف حوله. لكنني أرى ان هذا الزمن اللا تواصلي يعمل ايضاً كنظام لتصنيف الأنظمة السياسية، التي يجري عند ذاك ربطها عرقياً بحضارات غابرة معينة لكي تبدو على انها مراحل في تطور الحضارة الانسانية.
يرى مونتسكيو، الذي يعتبرونه مؤسس علم السياسة، ان أنظمة الحكم تقع في ثلاثة أصناف: الجمهوري والملكي والاستبدادي. وكانت الجمهورية النظام المثالي بالنسبة للعصر الكلاسيكي، فيما كان النظام الملكي مثال للغرب. اما الاستبداد فقد كان الشكل الذي اتخذته معظم بلدان آسيا، وكما أشار لوي التوسير فان السمة الأولى للاستبداد حسب تعريف مونتسكيو هي انه عهد سياسي يفتقر الى البنية والقوانين، وكذلك الى المساحة الاجتماعية. ويصور مونتسكيو الاستبداد على انه "تنازل السياسة نفسها"، ومن هنا تناقضه كنظام غير موجود كنظام، بل انه يمثل للنظامين الآخرين الاغراء والخطر. الاستبداد هو: "المساحة دون أمكنة، والزمن دون ديمومة".
صفة الخلود المعطاة للاستبداد تفسر كيف امكنت المماثلة بين المستبدين الشرق أوسطيين اللاحقين وعالم الماضي الغابر. هكذا فان "ما بين النهرين" توجد في زمن استبدادي، كالزمن الاسطوري للاستبداد، او ماضي الحضارة النافر والمشوه. عملية تسمية المنطقة التاريخية المعنية كانت ضرورية لإدراجها في ذلك السرد الحضاري. لأن الشيء، كما علّمنا سكان ما بين النهرين، لا يكون موجوداً الا بعد تسميته.
بدأت اولى بعثات التنقيب عن الآثار عملها في العراق في منتصف القرن التاسع عشر. تزامن ذلك مع استخدام عدد من التسميات لهذه المنطقة: بلاد ما بين النهرين، والشرق الادنى، والشرق الاوسط. وفي الوقت الذي كان فيه الاسمان الاخيران قابلين للتبادل اصلاً، ويشملان منطقة جغرافية اكبر، فان تسمية "بلاد ما بين النهرين" اصبحت تُطلق على حضارة ما قبل الاسلام في المنطقة التي كانت تُعرف في عهد الحكم العثماني بالعراق. وكان هذا الاسم، العراق، اصبح شائع الاستعمال بالفعل من قبل السكان المحليين في زمن كتابات الجغرافي ياقوت الرومي في القرن الثاني عشر واوصاف ابن حوقل عن المنطقة في مطلع القرن العاشر. تُظهر خريطة الادريسي التي ترجع الى القرن الثاني عشر كلمة العراق مكتوبة بوضوح على هذه المنطقة.
بدأ استخدام مصطلحي "الشرق الاوسط" و "الشرق الادنى" بهدف اعطاء تحديد اكثر وضوحاً للمنطقة الجغرافية الشاسعة التي كان يجري الاكتفاء بتعريفها ب "الشرق"، وكانت تشمل كل آسيا وشمال افريقيا. ولتمييز ما كان اقرب الى اوروبا، في وقت اشتد فيه الاهتمام بهذه المنطقة المترامية الاطراف، اصبح تطوير تعريف اكثر دقة ضرورياً. وسرعان ما خرج عن نطاق التداول العام مصطلح "الشرق الادنى" الذي اُستخدم للمرة الاولى في نهاية القرن التاسع عشر. لكنه تمكن من البقاء حتى الوقت الحاضر كتسمية بشكل اساسي للموقع الجغرافي نفسه في عصر ما قبل الاسلام، للمكان الذي اُطلق عليه "الشرق الاوسط". اُبتكر اسم "الشرق الاوسط" في 1902 من قبل مؤرخ البحرية الاميركي ألفرد تاير ماهان الذي اعتبر، لغايات استراتيجية عسكرية، ان مركز هذه المنطقة هو الخليج. وبهذه الطريقة جرى التمييز بين المنطقة قبل ظهور الاسلام وبعده بما يعني ضمناً موت حضارة واستبدالها واستئصالها من قبل حضارة اخرى. وفي اطار هذا النظام الصارم اصبح الاسم المقبول للعراق في فترة ما قبل الاسلام هو "بلاد ما بين النهرين". واكد هذا الانبعاث لاسم اُستخدم للمنطقة في التراث الكلاسيكي مكانة حضارة اشور - بابل ضمن سرد الحضارات باعتبارها الجذور المشوهة الابعد للثقافة الغربية. هكذا، يشير مصطلح "بلاد ما بين النهرين" الى وجود زماني اكثر منه جغرافي، هو حسب تعبير ليو اوبنهايم "حضارة ميتة". لم تكن بعثات التنقيب الاولى عن الآثار تعاني اذاً اي غموض في ما يتعلق باهدافها. فبما ان الحضارة الانسانية ابتدأت اصلاً بحسب ما كان يُعتقد في بلاد ما بين النهرين، كان المبرران اللذان يُقدمان مراراً لإيفاد بعثات التنقيب هما البحث عن "جذور" الحضارة والعثور على الاماكن التي وردت في التوراة.
هذه الرغبة في فصل ماضي المنطقة عن حاضرها، وتقديمه بدلاً من ذلك كمرحلة بدائية في تطور البشرية، مهّد لمفهوم "بلاد ما بين النهرين" كمنطقة تابعة بشكل شرعي للغرب، بمعنى تاريخي وجيو - سياسي على السواء. وعبر اطلاق التسميات اُنجز بنجاح فصل هذه الحضارات القديمة وتجزئتها وعزل التاريخ اللاحق للمنطقة.
هكذا، لم يُنظر الى عملية الاستحواذ على الاثار والاعمال الفنية التي شُحنت الى اوروبا باعتبارها تمثل فقط، او حتى قبل كل شىء، الاستيلاء على الاثار الفنية التاريخية للعراق، بل انها تمثل بقايا ماضٍ خيالي لمرحلة ما قبل اوروبا. ساهمت الاثار الثقافية لبلاد ما بين النهرين اذاً في اظهار كيف تطور الغرب الحديث من تلك المرحلة في التطور، وان روايات الكتاب المقدس كانت صحيحة. مع ذلك، لم تكن هذه بالتأكيد الدوافع الوحيدة لمساعي التنقيب عن الآثار في بلاد ما بين النهرين. والاكثر اهمية ان المفاهيم التي شكّلت "بلاد ما بين النهرين" ليست مقصورة على الفترة الاولى من اعمال التنقيب عن الاثار في المنطقة. ويفوق ذلك اهمية ان ندرك ان انشاء "بلاد ما بين نهرين" ضمن خطاب القرن التاسع عشر ليس شيئاً من الماضي. فهذه البنى تستمر الى الوقت الحاضر، ولا تزال باقية من دون تفنيد تقريباً.
عصر المستبدين
حالما اُنجز تعريف "بلاد ما بين النهرين" وتثبيت هذه البلاد ضمن نسيج المعرفة الغربي باعتبارها مهد الحضارة بدأ اختزالها الى سمات معروفة لعلماء الاثار المؤهلين علمياً. واصبح عدد من الافكار التجريدية القوية، التي لا تختلف عما استند اليه علماء الانثروبولوجيا الوصفية للوصول بسرعة اكبر الى "قلب" ثقافة ما، مكرّساً كمعرفة موضوعية. واذا اجرينا تحليلاً لهذا البحث "المحايد" على مستوى الوصف المحاكي للمعلومات، يمكن ان نلمس ان التشويه الابداعي في كل انواع المحاكاة يشكل، حسب وصف ارسطو، اسلوباً مهيمناً في الخطاب. وبالاضافة الى ذلك، يعتمد هذا الاسلوب النظري لدرجة كبيرة في صورته المقلّدة المبتذلة عن آثار العصور القديمة على التصور السبقي للعبارات المجازية المسيطرة من استعارة وكناية ومجاز مرسَل.
في الاستعارة، الذي يعني حرفياً "النقل"، يستخدم اسلوب يُنقل فيه اسم او كلمة وصفية الى مفعول به او فعل، عبر تشابه جزئي او تشبيه. وتؤدي الكناية، اي "تغيير الاسم"، مفعولها عبر الاستعاضة. فيمكن الاستعاضة عن جزء من شىء بالكل، وعن السبب بالنتيجة او الفاعل بالفعل، بينما يستخدم المجاز المرسَل الذي يعتبره البعض شكلاً من الكناية الجزء ليرمز الى خاصية يُفترض انها ملازمة للكل. الفكرة التجريدية الرئيسية التي تبرز بشكل متكرر في كتابات علم الاثار الخاص ببلاد ما بين النهرين هي الحكم الاستبدادي، حيث يُثبت الطابع الاستبدادي لبلاد ما بين النهرين كحقيقة تاريخية. وتتجلى الحاجة التجريدية الملحة لبلاد ما بين النهرين ككيان استبدادي في كل انواع التفسيرات التي يقدمها علم الآثار في ما يتعلق بهذه الثقافة، من الانتاج الزراعي الى الدين، وتظهر بشكل متكرر في وصف الفنون والعمارة. الانحلال والعنف والجمود والتجاوز، وهي كلها سمات اصقاع تخضع للحكم الاستبدادي وفق تصنيف مونتيسكيو، افكار تجريدية تُجسّد عبرها ثقافة ما بين النهرين. ويمكن العثور على مثال مبكر على ذلك في كتابات جيمس فرغسون الذي عمل مع اوستن هنري ليارد في اعادة بناء القصور الاشورية:
"شكلت خورساباد عصر انحطاط في الفن الاشوري... لكن يتضح هذا بجلاء اكبر عندما نجتاز مرة اخرى ثمانية قرون من الزمن ونصل برسيبوليس التي كان تخلفها بالمقارنة مع خورساباد لا يقل عن تخلف الاخيرة بالمقارنة مع نمرود. في برسيبوليس، لا يبدو ان الفنانين كانوا قادرين على تصوير حركة، وبالكاد حتى مجموعة. وليس هناك سوى سلسلة طويلة من نقوش بارزة شكلية للطبقة المالكة".
في مثل هذه المقاطع يتبدى الانحلال والركود المتكرر كسمات لفن عمارة يُعرّف لنا بشكل مجازي، وفق صياغات مونتيسكيو، بوصفه استبدادياً. ولا ينبغي لوجهة نظر كهذه نُشرت في لندن عام 1850، خلال فترة التوسع الاستعماري البريطاني في الشرق، ان تثير الاستغراب. لكن الافكار التجريدية المجازية عن الانحلال والتكرار والركود والاستبداد تظهر كثيراً في عرض الثقافة المادية لبلاد ما بين النهرين في الوقت الحاضر. واستخدم هنري فرانكفورت الكلمات ذاتها في كتابه "فن الشرق القديم" الذي نشر بعد قرن على ذلك.
هذا النوع من العرض الذي يقدم الجوهر على الوجود لا يتجلى في الكتابات فقط. فمنذ منتصف القرن التاسع عشر لعبت المواد المعروضة في متاحف الغرب دور وجود مرئي مجازي لتلك الثقافة. وشكل تصنيف هذه المواد، وعرضها في متاحف شُيّدت خصيصاً لهذا الغرض، جزءاً لا يتجزأ بالتأكيد من المشروع الاستعماري الغربي في القرن التاسع عشر. ففي المتحف البريطاني جرى الاعلان عن نصب الآثار الاشورية المكتشفة وتقديمها للجمهور العام كغنيمة وطنية. وفي المعرض الذي اُقيم تحت عنوان "مدينة سوسة الملكية"، في متحف متروبوليتان للفنون في 1992، استمر هذا الشكل من التجريد، كما جرى الفصل بين الماضي والحاضر. ولم تتضمن المواد التعليمية في المعرض او الخرائط الجدارية اي اشارة الى كلمتي العراق او ايران. ولا شك ان التبرير لهذا الموقف هو ان الاسماء التاريخية وحدها هي التي ينبغي ان تُقدم في مؤسسة "ثقافية رفيعة". لكن سأغامر هنا بالقول ان ذلك ليس ممارسة مألوفة عندما يتعلق الامر بمعارض داخل المؤسسة ذاتها تمثل ثقافات غربية قديمة، او بمعارض مماثلة في الولايات المتحدة. وواضح ان المتحف وتصويره لثقافات اجنبية ليس حيزاً محايداً لأنه الميدان الذي تُبث فيه معلومات وتصورات عن ثقافات اخرى الى الجمهور العام. ولم يؤد الاغفال المتعمد لاسمي العراق وايران من هذه الخرائط والتوصيفات الاّ الى تعميق التصور العام لهذه المنطقة كانها "لا مكان"، كما عززت اكثر فصل ماضي وحاضر منطقة جغرافية معينة وهي منطقة صادف ان تكون في ذلك الوقت، سواء كان لذلك علاقة بالموضوع ام لا، في حال حرب او من دون علاقات ديبلوماسية مع الولايات المتحدة.
ويشير ما كُتب عن المعرض في الصحافة الشعبية وصحف بارزة في الولايات المتحدة الى ان هذه الرسالة نُشرت بنجاح وفُهمت. وبسبب اغفال الاسماء وطبيعة العرض، خرج الصحافيون بفكرة مبهمة عامة عن العنف والقمع طُبّقت بصورة شاملة وعنصرية على الشرق الاوسط الحديث.
كان ابتكار حكاية تاريخية يتحول فيها المكان والزمان الى افاق مبهمة ل"وجود"، بلاد ما بين النهرين، جزءاً من المشروع النظري الاكبر الذي حاولت اوروبا عبره فرض سيطرتها على المستعمَرين. كان سرد تقدم الحضارة تلفيقاً من الامبريالية الاوروبية، ووسيلة لبناء تاريخ وفق منظورها وادعاء الاسبقية للثقافة الغربية. لكن هذا السرد هو "تصور" ويقتضي بالضرورة ما يصفه الفيلسوفان ادورنو وهوركهايمر من مدرسة فرانكفورت ب"التحكم المنظم للمحاكاة". واعتمد تنظيم البنى البلاغية في نظام المحاكاة هذا بالتأكيد على اللغة المجازية، لكنه تضمن ايضاً علم خرائط تجريدي وفر ارضية مفاهيمية ضرورية لهذا السرد. وكان رسم خريطة لبلاد ما بين نهرين غير موجودة على الارض شيئاً ضرورياً لنجاح هذا المشروع التصوري. ففي تاريخ الغزو الاستعماري يكون المنتصرون دائماً اول من يرسم الخرائط لأنها ادوات للاستيلاء.
* أستاذة الفن القديم والآثار في جامعة ولاية نيويورك، ولها مؤلفات منشورة بالانكليزية عن آثار العراق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.