منذ وقت مبكر، تنبه علماء العرب لأهمية الجغرافيا في صناعة التاريخ. فقد أشار ابن المقفع إلى أثر البيئة في تكوين اللغة العربية، وإلى دورها في تطوير طباع وسجايا العرب. ووافق الفيلسوف الفارابي هذه الرؤية فأرجع الخلق والشيم الطبيعية إلى أثر البيئة والموقع الجغرافي (والفلكي) وما يتصل بذلك من مميزات في الهواء والحياة وأنواع النبات والحيوان. وقد لاحظ المسعودي أهمية العوامل الجغرافية في التاريخ فأشار إلى أن السمات الطبيعية والإمكانات الفكرية تتأثر بالأوضاع الجغرافية والظروف المناخية. وأوضح أن مقومات الأمم في التاريخ تتأثر بثلاثة أمور، هي: شيمهم (طبائعهم)، وخلقهم الطبيعية، وألسنتهم، وأعطى البيئة الجغرافية الدور الرئيس مقارنة بالميزتين الأوليين. وجاءت نظرية العلاّمة ابن خلدون متفقة مع هذه النظرية، حيث ترى وجود أكثر من عامل لتحديد أساس الأمة بضمنها أثر البيئة الطبيعية. وتتناول أثر هذه العوامل في تحديد نوع المعاش وألوان البشر وسماتهم وعوائدهم وأخلاقهم، وأن ذلك التأثير يمتد إلى الأحوال الدينية. وليس غريبا أن يتوصل المفكرون العرب القدماء إلى هذا الوعي المبكر لأهمية الجغرافيا في توجيه الصيرورة التاريخية. فقد عاش هؤلاء، في منطقة لعبت فيها البيئة والمناخ والموقع دورا حاسما في صناعة تاريخ هذا الجزء من العالم. فمنذ فجر التاريخ، كان لتلك العوامل الجغرافية أثر رئيس في الدور البارز الذي لعبه أبناء هذه المنطقة في المشاركة بفعالية في بناء الحضارات الإنسانية، بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا: إنه بسبب الجغرافيا. شهد هذا الجزء من العالم بداية السؤال عن كنه الوجود، وفيه تمكن الإنسان من قهر الطبيعة في كثير من حلقاتها، كما شهد قيام أول سلطة مركزية في التاريخ. ويأتي تفرد المنطقة باستقبال رسالات السماء، وبناء الأهرام وحدائق بابل المعلقة، والتقدم في وسائل التحنيط، واكتشاف الحرف، والانفتاح على إبداعات الحضارات وإنجازاتها إشارات واضحة على أهمية المكان. على أن أهمية الجغرافيا - التي جعلت من هذا الجزء من العالم مهدا وموطنا أولا للحضارات - كانت نفسها السبب في تكالب القوى الخارجية عليه، وفي بروز مشاكل اجتماعية وإثنية وسياسية فيه، أدت إلى تعطل دوره الحضاري. فمنذ سقوط بغداد - عاصمة العباسيين، عام 1258م - تعطل الدور الفاعل للأمة العربية، وبقي العرب يغطون في نوم طويل تحت هيمنة التتار وسلطان الاستبداد العثماني. وفي بداية هذا القرن، بدأ العرب يتململون، ويقومون بمحاولات جادة من أجل التحرر والانعتاق، لكن تلك المحاولات تعثرت ولا تزال، وكان الوطن في كل تلك المحاولات محملا بثقل جغرافيته. نحاول في هذه القراءة، إعادة تركيب مفهومي الجغرافيا والتاريخ، باعتبار ذلك من أهم العناصر اللازمة لتعضيد الأمن القومي العربي، وحمايته من الاختراقات الخارجية. وهي لذلك تتعامل مع الجغرافيا ليس بوصفها العلم الذي يدرس الاختلافات المناخية والتضاريسية فحسب، ولكن بوصفها العلم الذي يهتم بدراسة شخصية الأقاليم، وباعتبارها أيضا رابطا بين العلوم الطبيعية والاجتماعية. نناقش مفهوم التاريخ ليس باعتباره سجلا لتدوين الحوادث وتقديم شروح وصفية لها فحسب، ولكن باعتباره صيرورة، لذلك نركز على وعي مشاهد المسرح الذي تحققت وتطورت فيه الحادثة التاريخية ذاتية، أو وافدة من الخارج، لما لذلك من أهمية في صنع وتوجيه حركة التاريخ العربي قديمه وحديثه. الجغرافيا هي المفتاح الأول في هذه القراءة، لأنها كانت ولا تزال العنصر الحاسم في تكالب القوى الخارجية على المنطقة العربية، وينسب الفضل في تأسيس علمها إلى الإغريق. وقد عرف في أول الأمر بأنه وصف الأرض، إلا أن هذا التعريف وصفي يفتقر إلى الربط والتحليل. فالجغرافي يهتم عادة بالوصف القائم على سرد الحقائق والمشاهدات، والجغرافي - بالمفهوم التقليدي - هو من يقوم برسم الخرائط بناء على رحلات يقوم بها بذاته إلى أرجاء المعمورة، يسجل خلالها مشاهداته المختلفة. وقد تطور هذا المفهوم لاحقا خلال فترة الكشوف الجغرافية، حيث ربطت الجغرافيا باكتشاف الأجزاء المجهولة من سطح الأرض. وفي القرن الثامن عشر، انتقل علم الجغرافيا إلى مرحلة جديدة، فأخذت دراساته تهتم بمعالجة العلاقات المتبادلة بين الظاهرات المختلفة، ومحاولة الربط بينها. وجرى توصيفه بأنه العلم الذي يدرس سطح الأرض، على اعتبار أنه ميدان الحياة البشرية، وما عليه من ظاهرات طبيعية وبشرية، ووفقا لهذا التعريف أصبح علم الجغرافيا علما مركبا من ظواهر طبيعية وأخرى بشرية. أما المدارس المعاصرة فقد عرفت الجغرافيا: بأنها التباين الأرضي، أي التعرف على الاختلافات الرئيسة بين اجزاء الأرض على مختلف المستويات، وقد أدى ذلك إلى الاهتمام بالعلاقات القائمة بين الظواهر الجغرافية. تؤثر هذه القراءة، في الانطلاق لرؤية ديناميكية لمفهوم الجغرافيا، لذلك تهتم بتحديد شخصية المكان، وتحوله من مجرد علم جامد إلى ريشة بيد فنان، لأن العلاقة بينه وبين الإنسان ليست ساكنة أو أحادية الجانب، بل علاقة تبادل وتكافؤ، لذلك ترى في الفصل بين العلوم الطبيعية ومختلف العلوم الاجتماعية، فعلا تعسفيا. الوطن العربي، هو جملة أقاليم بسمات طبيعية وثقافية واجتماعية، ومعضلة تعريفه أنه يعتمد - إلى حد كبير - على الطرق والمواصفات التي يستخدمها باحث ما دون غيره. فالبعض يعرفه من حيث انعزاله أو انفصاله كالقول بوادي النيل، أو من حيث الانسجام النسبي في الولاء والوطنية كالوطن العربي، أو من حيث تسمية استراتيجية تطلقها واحدة من القوى العظمي كالشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا. وبالقدر الذي نواجه فيه مشكلة تحديد مفهوم واضح للاقليم، تواجهنا مشكلة أخرى، تبدو نتيجة منطقية لغياب تحديد مقنع للمفهوم، تلك هي حدود الإقليم. فواقع الحال يشير إلى أن «العالم لا ينقسم بسهولة وفق خطوط مرسومة بشكل دقيق، إذ إن من الصعب تثبيت التقسيمات الإقليمية الموضوعة على نحو عقلاني، كما أن الحدود المقررة لخدمة غرض ما ليست بالضرورة مناسبة لخدمة أغراض أخرى. وعلى هذا الأساس، فإن مسألة تثبيت حدود الإقليم قضية ذاتية، لا وجود لمنهج يحدد حيثياتها، وذلك ما يجعل قضايا السيادة مرهونة بالهوى وتوازنات القوة، كما يجعل منها قضية اعتباطية، لذلك لابد من اجتراح بعض المعايير لتحديد شخصية الإقليم، من ضمنها وجود صفات ومميزات مشتركة، تتفاعل فيما بينها بانتظام وقوة، تقيم من خلالها نمطا من العلاقات والروابط فيما بين أجزاء الإقليم. وإذا أخذنا بالقول: إن شخصية الإقليم تتحدد من خلال انتماء أهله لعصبية أو عقيدة واحدة، فهل لتلك العصبية صفة الثبات، وماذا يعني انتفاء تلك العصبية، وهل يترتب عليه ذوبان الإقليم وفقدانه هويته، وبالتالي وجوده، وهل التجانس الطبيعي شرط لوجود الإقليم، وهل هناك تخوم: حدود للإقليم، أم أنه يتوسع ويتقلص تبعا لمتغيرات، وما تلك المتغيرات؟؟ وهكذا ففي ظل هذا الركام من الأسئلة، وغياب المفهوم الدقيق والواضح، الذي يمكن إخضاعه للدقة العلمية، فإنه لا مندوحة من تخطي فكرة الوصول إلى تعريف مقبول للإقليم وتحديد خصوصيته، والاستعانة - بدلا من ذلك - بالعرف والتاريخ كي يسعفانا في حل هذه المعضلة. أما التاريخ، فقد عرفته دائرة المعارف البريطانية بأنه العلم الذي يستخدم للإشارة إلى الأفعال والأعمال التي شكلت مجتمعة ماضي الإنسان، والقيمة التي يعطيها المؤرخ إلى البحث عن الماضي كما وصل إلينا. والمؤرخ هو الذي يتولى تدوين التاريخ، ويمد بما يتوافر من معلومات عن الزمن الغابر، إلا أننا في الغالب لا نميز- عند قراءتنا التاريخ - بين شيئين مختلفين: مجموع أحوال الكون في زمان غابر، ومجموع معلوماتنا حول تلك الأشياء. والتاريخ العام، هو مجموع الأحوال التي عرفها الكون حتى اللحظة، أما ما هو مدون لدينا، فهو مجموع ما تمكن الإنسان من اكتشافه وتدوينه، وهذا يعني أن هناك فارقا كبيرا بين ما هو حقيقة وما هو مدون، ولهذا فإن من الأهمية أن يستمر النضال الإنساني المعرفي لتحقيق التطابق بين الواقع والمعلوم. وأخبار الماضي لا تعني شيئا بالنسبة لنا، إن لم تكن ماثلة في ذهننا الحاضر، ومعرفتنا بها على هذا الأساس نسبية، كونها ذات صلة مباشرة بفهم ومتطلبات الوضع القائم، كما أن مهمتها الإجابة عن أسئلة حالية، فالماضي إذا موجود في الحاضر على شكل خبر. والمؤرخ - حين يقارن بين حوادث الماضي ويستخلص منه الدروس والعبر - فإنه لا يفعل ذلك اعتباطا، بل إنه بذلك يوجه رسالة، لذلك جعل القدماء من التاريخ مدرسة تابعة للسياسة والأخلاق، وذلك يبدو أمرا منطقيا. فالوعي بالقدرة على الترجيح والاختيار يفترض فيه أن يكون متلازما بالملاحظة والاستنباط. ويرى بعض الدارسين لمادة التاريخ أن شرط كتابته هو ألا يكون الباحث جزءا من اللحظة التاريخية للحدث، ذلك لأن معايشة الحدث تعطي دورا، والدور لا يقوم إلا على موقف، والموقف لا يتأتى إلا عن اقتناع، والاقتناع يستند إلى رأي، والرأي بدوره انحياز، وهو ما يناقض الحياد الذي يفترض أن يكون أحد الشروط الموضوعية في إصدار الحكم التاريخي، ومثل هذا التصور يحمل في طياته دعوة لنبذ الذات. وكان فلاسفة اليونان أول من اهتم بمحاولة وضع قانون لحركة التاريخ، وربط علم التاريخ بالفلسفة. فقد اشتهر عن هرقليطس رفضه فكرة أن التاريخ يعيد نفسه، وعرفت عنه مقولته الشهيرة: «إنك لا تستطيع أن تسبح في نفس ماء النهر مرتين» رافضا بذلك ثبوت التاريخ وميكانيكية حركته. أما أرسطو فقد أشار في كتابه «السياسة» إلى أن كل مرحلة من مراحل التاريخ تختزن في باطنها حافز نشوء المرحلة التي تليها. وكان العلامة ابن خلدون أول من حاول وضع منهج نظري متكامل لتفسير التاريخ، مشيرا إلى أن الظواهر الاجتماعية وحوادث التاريخ لا يأتيان من فراع، مؤكدا في الوقت نفسه على أهمية وعي خصوصية البيئة التي نشأت فيها الحادثة. ومن خلال هذه الرؤية، عزا ابن خلدون سلوك الناس وطريقة حياتهم إلى نوعية الوظائف التي يشغلونها في مجتمعهم التي تلبي حاجاتهم. ومن هنا نلاحظ التداخل الواضح بين التاريخ والسوسيولوجيا، ذلك أن وظيفة الأخيرة هي وصف الحياة الاجتماعية من منظور سوسيولوجي في أزمنة محددة، والماضي بالتأكيد هو أحد اهتمامات تلك الدراسات، كما أن دراسة الماضي الاجتماعي ستعتمد - إلى حد كبير - على المصادر التاريخية بعد أن تنزع عنها التسلسلات العادية وتضعها في قوالب مستوحاة من مناهج علوم الاجتماع. كما أن هناك تداخلا واضحا بين علم التاريخ وعلوم الطبيعيات، والفارق بينهما في أن الاول يدرس الأحداث الفريدة، بينما يدرس الثاني الحوادث المتواترة. وقد انطلقت المدرسة الكانطية من موقف أكثر دقة حين أشارت إلى أن الفرق بين عالم التاريخ وعالم الطبيعة هو في أن الأول يدرس شؤون البشر، والثاني يدرس أمور الطبيعة، وأن عالم التاريخ يدرس المتحول. أما عالم الطبيعيات فيدرس الثابت، ذلك لأن عالم الطبيعة يدرس الخاص في عموميته، أما عالم التاريخ فيدرس الخاص في خصوصيته، على أن مثل هذا التحليل يفترض الثبات في الطبيعة، ويغيب عنه الأثر الذي تحدثه في شؤون البشر. ولعل هذه القراءة، تستأنس برأي الأستاذ عبدالله العروي في أن مفهوم التاريخ لا يمكن أن يحقق تميزه إلا إذا انحاز إلى الوعي وحل كله فيه. لا يكتسب المجتمع التقليدي فكرة التاريخ إلا إذا تجاوز التغيير مستوى المناهج ليشمل الفلسفة والتجربة الوجدانية. لا يكفي أن يقلد المجتمع التقليدي، لأن في ذلك مجرد إبدال تقليد بآخر، بل يجب أن يمر هو نفسه بتجربة هؤلاء جميعا، ويكتشف بدوره كشفهم الأساس، أي إبداعية الإنسان وإنسانية الأخبار. نجاح استراتيجية الأمن القومي العربي، رهن بتحقيق التفاعل والتوازن بين مفهومي الجغرافيا والتاريخ، فلا نبتعد كثيرا عن مواطئ أقدامنا، ونتيه في الغربة، ولا نذهب بعيدا في الزمن السحيق. ويغيب عنا أننا نعيش في ظل متغيرات كونية هائلة نحن في المبتدأ والخبر جزء لا يتجزأ منها. تحقيق معادلة التوازن، عملية دقيقة وصعبة، ولعل الوعي بالمفاتيح التي أشرنا اليها مقدمة لازمة تجذير هذا الوعي. حدائق بابل المعلقة من الشواهد على ارتباط التاريخ بالجغرافيا