منذ بدء الأزمة، أدرك الباحثون الأوروبيون أن انهيار الأمن في سورية سيكون مقدمة لتسميم الأمن الأوروبي ذاته. ورأى هؤلاء أن فصل الأمن بين ضفتيْ المتوسط ليس سوى ضرب من الخيال، كما تؤكد ذلك كل تجارب التاريخ القريب والبعيد كيف يُمكن فهم الأزمة السورية في سياق اجتماعي- سياسي مؤتلف؟ ما هي المضامين الثقافية لهذه الأزمة؟ وأية تبعات سياسية - أمنية تجلت في ظلالها إقليمياً؟ في القراءة الاجتماعية، يُمكن الإشارة بداية إلى أن تعداد السوريين يبلغ، وفقاً لإحصاء العام 2010 نحو 23.69 مليون نسمة، يتوزعون على 185.1 ألف كيلومتر مربع، هي إجمالي مساحة الإقليم السوري، بمحافظاته الأربع عشرة. اليوم، كان في طليعة التجليات الاجتماعية للأزمة تغيّر بناء الكتلة السكانية، وتبدل سماتها العامة. وقد حدث هذا التحوّل التاريخي نتيجة ثلاثة عوامل رئيسية، هي: لجوء ملايين السوريين إلى الخارج، ونزوح ملايين آخرين منهم داخلياً، وتضرر عدد من مشروعات التنمية البشرية، الرافدة للتطوّر الديموغرافي الوطني والمحفزة له. ثاني التجليات الاجتماعية تمثل في الهجوم الظلامي على الهوية السورية، ومحاولة نسف التعددية الحضارية للمجتمع. في الأصل، هناك تعددية اثنية واجتماعية لا جدال في وجودها وتجذرها. وهذا هو وجه سورية المشرقي المتوسطي. وهناك مصطلحان عادة ما يتم الخلط بينهما، وهما التنَوّع والتعددية. وفي حقيقة الأمر، فإن مصطلح التنَوّع أقرب إلى العلوم الطبيعية منه إلى الاجتماعية. وعادة ما يتم استخدامه للإشارة للمجموعات السكانية المختلفة، التي تقيم سوية في رقعة جغرافية واحدة. ولاحقاً، بات مصطلح التنَوّع كثير التداول في الدراسات الأنثروبولوجية. ومبدئياً، فإن هذا المصطلح يُمكن أن يستوعب من المضامين، ما يفوق ذلك الذي قد يستوعبه مصطلح التعددية. وعلى الرغم من ذلك، فإنه فما يتعلق بالنقاش الخاص بالتركيبات الإثنية والثقافية، فإنّ مصطلح التعددية (pluralism) يبدو أكثر جدارة كعنصر في أدوات التحليل. إنّ التعددية تُفصح عن واقع قائم، بقدر ما تُشير إلى خيار أيديولوجي. وهذا هو الأهم. ومنذ العام 2011 ثار نقاش حول مستقبل التعايش الوطني في سورية، ومدى تأثره بالأحداث الدائرة. وعلى الرغم من كل النقاش الذي يُمكن إثارته معرفياً ومنهجياً على هذا الصعيد، فإن الأمر الثابت هو أن الأحداث الدائرة لم تكن في الأصل قادرة على نسف الوحدة الوطنية، لسبب بسيط وهو أن السوريين يدركون أن هذه الوحدة هي أغلى ما يملكون، وخسارتها تعني خسارة كل شيء. ومن هنا، جاء تمسكهم بها. وتاريخياً، يُمكن أن نشير إلى أن الهزات التي شهدتها سورية، في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، لم يُقدر لها النيل من متانة الوحدة الوطنية والتعايش الأهلي. كذلك، فإن تجربة نحو ثلاثة عقود من الانتداب الفرنسي لم تستطع هز البناء الاجتماعي، أو تمزيق نسيجه المتماسك. وذلك على الرغم من كل سياسات التفرقة التي اعتمدها الفرنسيون. وعلى الرغم من حقائق التاريخ والإدراك به، فإن التحدي يبقى قائماً ولا يُمكن تجاهله على نحو مطلق. وإذا انتهينا للقول بأن الهوية الجامعة المعبّرة عن الاجتماع السياسي، هي نتاج إعادة إنتاج وتوليف لخصوصيات وانتماءات تحتية (أو رأسية)، ذات صلة بالبنى والأطر الاجتماعية المختلفة، فإن هذه الهوية تبدأ بالضرورة مسيرتها نحو التحلل منذ اللحظة التي يجري فيها إيقاظ الانتماءات التحتية، والنظر إليها كبديل للهوية الجامعة، أو مزاحم لها. هناك اليوم مشروع ظلامي عابر للأقطار والأقاليم، مموّه أيديولوجياً وسياسياً، لكنه صريح في عدائه للمجتمع وهويته وبيئته الحضارية والثقافية. وفي حسابات السياسة والأمن معاً، فإن نهج الظلامية والتطرف يعني ضرب المجتمع من داخله، والعمل على تفجيره ذاتياً. هذه الحقيقة، يُمكن إعادة صوغها بالقول إن الصراع في سورية والمنطقة عموماً هو بين فكرين ونموذجين، يتجه الأول اتجاهاً اجتماعياً تقسيمياً، ويعتمد الآخر خياراً وطنياً وقومياً جامعاً. وفي الأصل، فإن الصراع بين قوى الوحدة والتجزئة قائم منذ أمد طويل، سواء في سياقاته الاجتماعية أو السياسية. بيد أن الجديد هو تبدل أدوات هذا الصراع، التي بدت في بعض جوانبها عنيفة وغارقة في همجيتها. إن الهجوم على الهوية لا ينحصر في نكران التعددية الاجتماعية، والسعي إلى طمسها، وتفتيت الوحدة الوطنية، بل كذلك في محاولة التعدي على الإرث الحضاري في سياقه الكلي والعام. وفي حسابات الشعوب، كل الشعوب، فإن الإرث الحضاري هو مَعِين للحاضر، بقدر كونه أثيل مجد، هو مَعِين للحاضر لأنه إحدى ركائز النهوض الروحي والمادي، وهو أثيل مجد لكونه مصدر شعور بالتميز بين الأمم. كذلك، فإن التاريخ الحضاري يشكل، في التحليل الأخير، ثقلاً معنوياً ومادياً للدول، ليغدو جزءاً من وزنها الجيوسياسي. وكأية دولة أخرى، يُمكن النظر إلى تاريخ سورية الحضاري باعتباره أحد روافد حاضرها الثقافي والاجتماعي، وبالضرورة المادي. وكما يعرف الجميع، فسورية تضم أكبر مجمع لآثار الحضارات في الشرق. وسورية هذه، ذات مدن قديمة، تعاقبت عليها حضارات بعد أخرى، فالعاصمة دمشق هي أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، أما حلب، فقد شيّد معالمها كل من الحثيين والآشوريين والإغريق والرومان، والدول والمماليك التي جاءت من بعدهم. وتُعد أيضاً واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم. ولا تبتعد حمص القديمة عن هذه المقاربة، وكذلك هي حال مدن تاريخية أخرى في المحافظة ذاتها، وفي محافظات أخرى، على امتداد القطر السوري. إن تاريخ سورية الحضاري، الذي ألقى بظلاله على كافة مناحي الحياة، يتعرض اليوم لحملة عبثية تستهدف الرسالة التي بشر بها. إن هذا الهجوم على إرث السوريين يعني في التحليل والمدلول سعياً لفرض رؤية ظلامية على مجتمع عريق منفتح. ومن يسعى لذلك هو بالضرورة نقيض لهذا المجتمع، ومنفصل عنه نفسياً وثقافياً، ولا يُمكنه ادعاء تمثيله وتجسيد تطلعاته. إن الأمر يدور تماماً حول تكميم الأفواه، وقمع الرأي الآخر، وفرض منطق القوة على الناس، بدلاً من قوة المنطق. وماذا عن السياق السياسي؟ من الصعب كثيراً الفصل بين السياقات السياسية (والجيوسياسية) للأزمة السورية، وبين مضمونها الاجتماعي- الثقافي؟ نحن بصدد نزاع مسلّح، يدور في نطاق جغرافي حدوده الإقليم السوري، لكن هذا النزاع ليس نزاعاً سورياً. هو نزاع تتشابك فيه الإرادات الإقليمية، والحضور الإقليمي المباشر. لكنه ليس إقليمياً أيضاً. وفي هذا النزاع، ثمة تأثيرات دولية، بلغت اليوم مداها، فقد باتت هناك أدوار عسكرية مباشرة للقوى العالمية الكبرى، بما في ذلك الولاياتالمتحدة وروسيا. إن التوصيف النطاقي لهذا النزاع يبقى ملتبساً في الأحوال كافة، فالجغرافيا هنا تبدو محدودة التجلي قياساً بالامتداد السياسي والأمني الهائل. في تجربة العقدين السابع والثامن من القرن العشرين، يُمكن أن نلحظ أن غالبية النزاعات الداخلية، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، كانت عبارة عن حروب بالوكالة، مارست فيها القوى الدولية مختلف أشكال التدخل، باستثناء التورط المباشر في القتال. وسورية اليوم تجاوزت هذا المستوى. وبين ما هو جغرافي وما هو سياسي وأمني وأيديولوجي، ثمة تعريف قانوني دولي، يبدو جامداً لا روح فيه، عاجزاً عن الإشارة إلى الواقع والدلالة على مكنوناته. وفي المحصلة، نحن بصدد نموذج فيه الكثير من الاستثناء، الأمر الذي يستوجب بالضرورة إعادة إنتاج رؤيوي للمفاهيم والمصطلحات المعتمدة تقليدياً لدى الباحثين والدارسين. في الشرق الأوسط، حدث انسياب لعوامل الحرب (أو الصراع بمنطوقه العام) عبر الحدود السورية، دفع باتجاه تغيير المشهد الأمني الإقليمي، في سياقه الكلي والعام، على نحو لم يشهد له الإقليم مثيلاً حتى في ذروة الحروب العالمية والإقليمية. وكنموذج ساطع، كان انبثاق جماعات مسلحة ذات نشاط عسكري في الساحتين السورية والعراقية، قد عنى عملياً نقل عوامل الحرب وانسيابها في الاتجاهين، على مستوى المقاتلين والعتاد وإدارة المعركة. وأصبح تعزيز القوة في إحدى الجبهات يعني بالضرورة تعزيزها في الجبهة الأخرى، أو لنقل زيادة فرص هذه الجبهة. هذا الوضع، لم تتعرض له بذات المستوى أية دولة أخرى في الجوار السوري، بما في ذلك لبنان. إن الحل بعيد المدى للأزمة في العراق يبدأ بالضرورة بحل الأزمة السورية. وكما السياق القومي، تبرز الجغرافيا أيضاً باعتبارها عنصراً تأسيسياً وعامل إدامة ثابتاً لارتباط سورية بالأمن الدولي. إن تأثيرات الأزمة السورية على أوروبا تقدم نموذجاً على هذه المقولة. والجغرافيا هنا لا تعني فقط الأرض والشواطئ وقياس المسافات، بل هي بالضرورة أكثر من ذلك. إنها ذات صلة بالاجتماع البشري وتفاعل المكونات الاجتماعية، والانسياب المتبادل للفكر والعلوم والثقافة، وأنثروبولوجيا الشعوب، وتطوّر طرق التجارة وتكاملها، ووحدة التحديات أو تقاربها على صعيد الممرات البحرية. إن ذلك كله يجعل من الجغرافيا عنصراً تأصيلياً في مقاربات الأمن القومي للأمم والشعوب، واستتباعاً بيئةً لعلاقاتها الخارجية. وهذا تحديداً ما ينطبق على المقاربة الأوروبية لسورية الراهنة، وكذلك التاريخية. ومنذ بدء الأزمة، أدرك الباحثون الأوروبيون أن انهيار الأمن في سورية سيكون مقدمة لتسميم الأمن الأوروبي ذاته. ورأى هؤلاء أن فصل الأمن بين ضفتيْ المتوسط ليس سوى ضرب من الخيال، كما تؤكد ذلك كل تجارب التاريخ القريب والبعيد. وأياً يكن الأمر، إن سورية تمثل اليوم نموذجاً جلياً لتفاعل منظومة العناصر الاجتماعية والسياسية في سياق صراع معين. وبموازاة سياقها المحلي، فإن الأزمة السورية غدت قضية قومية ودولية ذات قدر متعاظم من التبعات.