طالعتنا صحيفة "الحياة" الغراء في عددها رقم 12936 تاريخ 4 آب أغسطس 1998 الموافق 11 ربيع الثاني 1419ه بمقالة كتبها رشيد الخيون - لندن، تحت عنوان رد على مقالة قصي الحسين حول أبي حيّان التوحيدي: "حكاية أبي قاسم البغدادي" لأبي حيان التوحيدي، والأزدي ليس غائباً حتى يظهر. أراد رشيد الخيون من خلال هذه المقالة الانتصار لقضية التزييف والتزوير والنحل التي لحقت بأثر تراثي هام من آثارنا العربيّة النادرة في فن النثر أواسط القرن الرابع الهجري. وكان قد قام بعملية التزييف والتزوير والنحل هذه المرحوم عبود الشالجي، حين أقدم بمفرده وعن سابق قصد وتصميم بنزع اسم أبي المطهر الأزدي عن مطبوعة "حكاية أبي القاسم البغدادي"، وتغيير عنوان الكتاب واستبداله بعنوان آخر هو الرسالة البغدادية. وقد أفادنا الأستاذ رشيد الخيّون الذي كان على صلة بالشالجي كما يشتمّ من حديثه، انه المحامي والقاضي قبل أن يكون المؤلف والمحقق، وهذا ما زادني شغفاً في رفع درجة مقاضاته أمام جميع المجامع الأدبيّة واللغوية والتراثية المحكّمة، باعتبار ان تزييف وتزوير ونحل كتاب تراثي، هو جريمة يعاقب عليها القانون إذ الأمر يتصل بالتعدّي على حق الملكية، التي توافقت جميع الشرائع على وضع قوانين لحماية هذا الحق. ومن يقوم بالاعتداء على هذا الحق، فإن في القوانين والشرائع، ما يردّ الحق الى ذويه، ويعرّض المعتدي ومن يشاركه في الاعتداء الناشر هنا للعقوبة الجزائية أو الجنائية، بحسب الأصول المتبعة أمام المحاكم التي تنظر في مثل هذه الدعاوى. وبالعودة الى رأي الدكتور بدوي طبانة في كتابه "السرقات الأدبية"، فإن العمل على انتزاع الفكرة هنا الكتاب من منشئها ومبدعها، جناية، لا تقل عن جناية سلب الأموال والمتاع من صاحبها وملكها. ويتابع د. طبانة فيقول: والمفكرون رأس مالهم في الحياة هو أفكارهم كتبهم التي اهتدوا اليها بعقولهم المنيرة وبصيرتهم النافذة، وقريحتهم الوقّادة، وتجاربهم الكثيرة. وبسببها أصابهم الكدّ والإرهاق، وسهروا الليالي، ووصلوا بها النهار، لينفعوا بها الإنسانية. وكل حظهم من هذا العناء أن يكون لهم مجدٌ يُذكرون به في حياتهم، ويخلدهم بعد مماتهم، ويكتب لهم ذكراً في العالمين، يعوِّض عليهم ما فقدوه، أو ما فاتهم في دنيا المال والمناصب والجاه" ص 33. استناداً الى هذا المعطى القانوني حيال التعدّي على ملكيّة كتاب تراثي هو "حكاية أبي القاسم البغدادي" ومؤلفه كما ظهر في المخطوط هو أبو المطهر الأزدي، فإن القضية الجرمية الناشئة عن ذلك واضحة كل الوضوح وذلك بعد اقدام المرحوم عبود الشالجي عام 1978م بنزع ملكية مادة الكتاب من صاحبها وإسنادها الى أبي حيّان التوحيدي، ونزع عنوان الكتاب ووضع مادته تحت عنوان آخر ورد في قائمة الكتب المفقودة للتوحيدي فأصبح بعنوان "الرسالة البغدادية"، هذا ولم نعثر على مخطوط بهذا العنوان حتى الآن. وليست القضية التي أثارها رشيد الخيون في مقالته على صفحة جريدة "الحياة" الغراء بتاريخ 4 آب 1998 ذات شأن، لأنها لم تقدم دليلاً مادياً يثبت ملكية التوحيدي لمادة "حكاية أبي القاسم البغدادي". والتحقيق الذي قام به الشالجي هو لمطبوعة وليس لمخطوط. وحين نجد مخطوطاً تحت عنوان الرسالة البغدادية للتوحيدي، يمكن التسليم بصحة تحقيق الشالجي. فالأمر إذاً لا يمكن التسليم به ولا التساهل فيه لأسباب تتعلق بملكية الأثر النفيس المخطوط من قبل أبي المطهر الأزدي المغمور والمجهول. فقد اقترنت حكاية أبي القاسم البغدادي بإسمه لأكثر من ألف عام. وجميع الإشكالات التي طرحها قلة قليلة من الباحثين لا تعود لأكثر من خمسين عاماً خلت. وهذه الاشكالات هي جميعها ظنيّة الدلالة وليست قطعية الدلالة، لأنها لا تستند أصلاً الى مخطوط. وأحب هنا أن أفندها كما وردت على لسان أصحابها: 1 - ان مصطفى جواد يعتقد لأسباب ظنيّة اجتهد فيها، ان حكاية أبي القاسم البغدادي هي من تأليف أبي حيّان التوحيدي. وظنونه واجتهاداته لم تجعله يجرؤ على نزع ملكية مادة الكتاب ووضعها في حساب أبي حيان التوحيدي، بل أثار مسألة شبيهة بالمسألة التي أثارها طه حسين حول صحة الشعر الجاهلي، فظل الشعر الجاهلي وجرت محاكمة طه حسين وسفهت آراؤه من قبل معاصريه عام 1924. كذلك ظلت حكاية أبي القاسم البغدادي للأزدي في المخطوط والمطبوع ولو استمر النقاش الهادىء في مسألة النصوص المتشابهة التي وردت في مؤلفات أبي حيّان. 2 - ان مرجليوث لم يقل ان حكاية أبي القاسم البغدادي هي التذكرة التوحيدية، أو هي من مؤلفات أبي حيّان التوحيدي، بل قال إن التذكرة التوحيدية هي غير الرسالة البغدادية، فلماذا الالتباس؟ 3 - ان عبدالامير الأعسم قال ان حكاية أبي القاسم البغدادي هو عمل، غير عمله الآخر الرسالة البغدادية. وعليه فإننا نستنتج كما استنتج هو بنفسه ان الحكاية عمل والرسالة عمل آخر. وإذا ظن الأعسم ان الحكاية هي من تأليف التوحيدي، فإن ظنه لم يدعم بالدليل العلمي القاطع القائم على مخطوط. ولذلك نعدّه اجتهاداً قابلاً للمناقشة حتى يتوفر لدينا المخطوط. والأعسم كما مصطفى جواد لم ينزع ملكية الكتاب من أبي المطهر الأزدي ولم يزوّر عنوانه ولم ينحل التوحيدي اياه. 4 - ان قول الشالجي وموافقة رشيد الخيون وصقر أبو فخر له، في نظره لمادة كتاب حكاية أبي القاسم البغدادي وموافقتها ثقافة وأسلوب أبي حيان التوحيدي لا تشكّل دليلاً علمياً قاطعاً، ذلك ان الدكتور زكي مبارك في كتابه النثر الفني في القرن الرابع الهجري، وهو أطروحة دكتوراه، وجد تشابهاً في الثقافة والأسلوب بين كل من أبي المطهر الأزدي من جهة وأبي بكر الخوارزمي وبديع الزمان الهمذاني من جهة أخرى. وقد دعّم رأيه بالشواهد وقد وضع أطروحته هذه عام 1931 وناقشها في السوربون بدرجة مشرف جداً. 5 - ان الشالجي أثار مسألة التماثل بين النصوص التي وردت في حكاية أبي القاسم البغدادي وبعض مؤلفات التوحيدي. وهذه المسألة التي دعم بها اعتداءه على ملكية كتاب الأزدي والتي وافقه عليها الأستاذ رشيد الخيون وقبله صقر أبو فخر في رده علينا من على منبر "الحياة" 24 شباط 1992، هي مسألة متهافتة أيضاً، لأن الدكتور زكي مبارك بدوره، وجد نصوصاً متماثلة في رسائل أبي بكر الخوارزمي وحكاية أبي القاسم البغدادي ونثر الثعالبي انظر النثر الفني: 1/424. وحين يصل الى وصف "الثقيل" في حكاية أبي القاسم، يجدها متماثلة مع وصف "الثقيل" في رسالة الخوارزمي. غير ان زكي مبارك رجّح ان الخوارزمي هو الذي حاكى أبا المظهر الأزدي في وصف "الثقيل"، لأنه "مات سنة 383 أو 393ه وأبو المطهر كان شاباً ماجناً في سنة 306ه، فمن المستبعد أن يكون عاش طويلاً بعد انتصاف القرن الرابع" النثر الفني 1/425 و426 ويقول زكي مبارك ان وصف الثقيل على هذا النحو أيضاً ورد في نثر بديع الزمان الهمذاني، في المقامة الدينارية. مقامات البديع طبع استامبول ص 79، 80. ومسألة المتماثلات من نصوص الأزدي وكتَّاب القرن الرابع الهجري، أفاض في بحثهما الدكتور زكي مبارك، وقد أورد نصوصاً متماثلة في وصف جمال النساء وجمال الغلمان، وقال ان الصورة الى ذلك "منقولة عن معاصريه من كتاب القرن الرابع، ودليل ذلك ان خلت من الرباط الوثيق الذي يجمع بين أواصر الإنشاد المتين". النثر الفني 1/429 كذلك توقف عند وصف الخمر في أماكن متفرقة من حكاية أبي المطهر الأزدي، وقال انها صفات تجدها عند معاصريه. وذكّر بقصيدة رائية لأبي دلف الخزرجي اسمها القصيدة الساسانية وقال انها في الشعر كحكاية أبي القاسم في النثر 1/432. 6 - ان رشيد الخيّون يعتبر الجاحظ استاذ التوحيدي، وهذه مسألة لا نزاع فيها. أمَّا انه بلغ من تأثيره بأستاذه بأنه نسب كتبه الى الآخرين، فهذه المسألة اجتهادية، لا تبرر الإسم الوهمي للتوحيدي، لأن الأقدمين لم يذكروا ذلك عن التوحيدي. 7 - ان عمل الشالجي في مادة كتاب لأبي المطهر الأزدي المعروف منذ القرن الرابع وحتى أوائل القرن الرابع عشر الهجريين، ليس فيه أي تحقيق لأنه لم يستند الى مخطوط. بل هو تزوير وتزييف لمخطوط قديم حققه آدم متز عام 1902 وأصدره في مطبوعة. عن إحدى مطابع هيدلبرغ. 7 - انني أضع هذه القضية الجرمية في حدودها الطبيعية المتعارف عليها لدى المجامع العلمية التي تسهر على صيانة التراث وحفظ حقوق المؤلفين القدماء، وأدعو للنظر فيها بتجرد ونزاهة ودون أي لغط أو شتم أو تطاول من جانبي أو جانب غيري على المرحوم عبود الشالجي. 8 - انني ادعو من على منبر "الحياة" لإعادة مادة كتاب حكاية أبي القاسم البغدادي الى عنوانها في المخطوط حتى نجد عنواناً آخر لا نجتهد فيه اجتهاداً. والى اعادة هذا الكتاب بهذا العنوان، الى صاحبه أبي المطهر الأزدي، كما وجد في المخطوط، حتى نعثر على مخطوط آخر يخالف ذلك. 9 - انني احمّل دار الكتب في بيروت مسؤولية التعدي على عائدية "كتاب أبي القاسم البغدادي" الى أبي المطهر الأزدي، وأحملها غرامة التزوير والتزييف، لأنها هي الجهة المستفيدة من ذلك. كما أدعو الى مقاضاة دار الجمل في المانيا لأنها تستنسخ الأعمال المزيفة والمزورة الصادرة عن دور أخرى. 10 - ان ما بيني وبين الأساتذة: صقر أبو فخر ورشيد الخيون هي مسائل اجتهادية قابلة للنقاش الهادىء، أما قضية التعدي على عائدية وملكية كتاب تراثي: حكاية أبي القاسم البغدادي، وتزويره وتزييفه، فهي مسألة أضعها بين أيدي المجامع اللغوية للحكم فيها والمطالبة بعقوبة رادعة.