(1) زمان، في الثلاث سنوات الأخيرة من عقد السبعينات، حيث كان الوقت في هذه الحقبة ينفتح على دنيا أخرى، وزمن آخر!! تلك الأيام تعرفت على سعد الحميدين.. الشاعر والإنسان. حجرة مشتركة لشباب. مكاتب قديمة، ونوافذ عارية. ومبنى لجريدة على الطراز القديم، تقع خارج المدينة، وتطل على الصحراء. كان ينحني على أوراقه، وعندما أحس بي رفع رأسه: تأملني ونظر تجاهي مبتسما، ونحيلا. أنا لا أعرف لماذا شعرت تجاهه بذلك الإحساس بأنني في مواجهة فطرة طيبة. حين عرّفته على نفسي، صافحني، وسحب كرسياً لأجلس بجانبه. سألني عن أمل دنقل، وحين أخبرته أنه بخير، ابتسم. "سعد الحميدين" وكنيته الشاعر، الذي ما إن انقضي الوقت بحديث متواتر عن الأحوال، إلا وشعرت تجاهه بأنه ينطوي على ألم يخصه، يعبر به بصوت خفيض بالكاد يصل إليك. تطابقت الصور، وكشفت اللحظة الحدود، وأكدت ما سمعته من أخبار عن الرجل، وعن تجربته الشعرية التي تتقاطع وتتفاعل مع حياته، وواقعه، وأنه واحد ممن يستشرفون حداثة الشعر في تلك البلاد. (2) ينتمي الشاعر .. سعد الحميدين .. لجيل من الشعراء عاشوا أزمات الهوية، وكابدوا نتائج متغيرات تحدث حولهم. عاشوا أزمات الثنائيات: تراث ومعاصرة، ماضي وحاضر. هزائم الآمال. حاضر يتمزق بين العصور، فالماضي هو الماضي المزدهر، والحاضر نعيش فيه عبر الإجابات الغائبة، ومن يديرون أحوالنا يستبدلون ذواتهم بالأمة. وشاهد جيله يفتقر إلى الحرية، وسمع صرخة أحد الكتاب مرة: ان الحرية المتاحة في العالم العربي كله لا تكفي كاتبا واحدا. وكانت هزيمة يونيو/ حزيزان 67. وكل تلك الصراعات التي تنفجر على احتمالات مروعة، وزمن اختلاط البدايات بالنهايات . كان البحث عن ثقافة تكتشف الواقع وتغيره وتتبني شعار الثقافة حرية وفعل حرية. جيل واجه خطاب العنف وعمل على تغييره. وسط ما يجري من تناقضات كان سعد الحميدين يتحسس هو وجيله طريقه نحو تجريب القصيدة، نحو الخروج من أسر الثابت القديم. البحث عن الإشارات الأولى، نحو خطاب شعري تتعدد فيه الأصوات وتتسم بالإنتاج المختلف، والانفتاح على الآخر. كانت بيروت ساحة تحيرها أسئلة الكتابة الجديدة: مجلة شعر (يوسف الخال .أدونيس – أنسي الحاج) . والعراق تحمل عبء الأصالة والمعاصرة وأصوات (بدر شاكر السياب. البياتي. نازك الملائكة، سعدى يوسف) . وفي مصر أصداء باقية (شوقي وحافظ ومحمود حسن إسماعيل وبعض ترجمات جورج حنين وجويس منصور وكفافيس ثم اقتحام تجارب عبدالصبور وحجازي وعفيفي مطر) ثم الإيقاظ الثوري مع شعر المقاومة في الستينيات مع درويش وسميع القاسم ومعين بسيسو. كانت ترجمات الشعر نصوصا تقرأ. وأشعار ريتسوس وكفافيس وبول ايلوار وناظم حكمت وآلن سبيرج وغيرهم تتفاعل مع ثورة 68 في فرنسا وتؤثر في مناخ القصيدة ذلك الحين. نبهت تلك الحركات الثورية والتيارات الشعرية، وعى الشاعر الذي آمن (أن الكتابة الشعرية لا تنفصل عن شكلها بل تنفتح وتتأثر بتجارب الآخرين الذين يحملون آثار المؤسسين العظام لحداثة الشعر). (3) تنطوي تجربة سعد الحميدين الشعرية على محاور أساسية. يفنيني ألم الشاعر الروحي عندما يتعامل مع تناقض الحياة، ونهايات الأمور، وصوغ الخواتيم التي دائما ما تنتهي إلى مصائر حزينة. تعدد الأصوات والتناص لتفجير السؤال . استدعاء الشخصيات من الماضي أو من الذاكرة لتفجير الرمز، وللرمز دلالة المعني، واللغة هي الشكل الأهم، غنية بالدلالة، وغنية بتجسيد المواقف، وتحويل الواقع إلى تخييل. ندرك عبر تجربة الشاعر انشغاله، وسعيه الدائم للقبض على لحظة مما مضي من مدركات الحياة، حيث ما مضى اصدق الأزمنة كما تحتشد لحظة الشاعر دائما بالإمساك بذلك الإنشاد الحزين نحو حبيبة مفتقدة. بوح يكتسي بشذرات موزعة في كل أعماله، تجسد إحساسه بالزمن، الزمن الباذخ بالموت والعشق! عاش سعد الحميدين طوال عمره وفيا لقصيدته ولمعانيه: الانشغال بالتآكل، والفراغ، والوجود، والإحساس الدائم بالقسوة. وظل دائما محافظا على قاموسه الشعري، فكان يجدد فيه من داخله مبتعدا عما يربك من أفكار، أو أيديولوجية. (4) كنت أقف معه في صالة الجريدة عندما أتانا خبر رحيل أمل دنقل. شحب وجهه، ورأيت في عينه شعاع دمعه. كان يحب أمل دنقل (ابن جيله) الذي أضاف لقصيدة الشعر رؤية قومية غنية بالرموز والتواريخ والتضمينات. نظر ناحيتي وهمس: نكتب عن أمل. ثم صمت وقال: نكتب عنه ما يليق. (5) الذي قال يوماً: تجيئيني قلت مع الغيم .. قلت تجيئيني عند احتدام الرعود وقلت ..تجيئيني عند المساء وعند بداية كل صباح وقلت .. وقلت وكان انتظار (6) رسوم على الحائط. سين بلا جواب. للرماد مهاراته. غيوم يابسة. خيمة أنت والخيوط أنا. وعلى الماء بصمة.. الخ .. الخ .. الخ خمسون عاما، وربما تزيد!!... الآن يكدس الثقافة والريح في كيس على ظهره. ويمضي... يؤمن الصوفي – عبر خمسين سنة – أن الثقافة صراع وأرض صراع. مر من هناك الكثيرون.. من ذلك الباب خرجوا شيوخا.. من تواتر المواهب، تجرب، وتبدع، فالإبداع عندك دائما يبدأ من الآن، وهم يتناسلون مثل طيور محلقة، فيما هو يجلس في اللحظة، وقد مضى على غرار رجاء، أمام نافذة داره ، يحصي سنينه، ويتذكر أيامه فيما يأتيه الصوت عبر الرمال: قلت نهاية الأشياء تعود إلى بدايتها.. تجيء حبيبتي الأولى