هُوذَا "هَمٌّ - زِيٌّ" ثقافِيٌّ جديد: بعد الاستعمار، والأمبرياليّة، والكولونياليّة، والغزو الثقافيّ، والتّطبيع، يُؤخَذُ عددٌ كبير من المفكّرين والكتّاب العرب بالوافد الطّازَج: العَوْلمة! حسناً. لكن، لِنسأل أوّلاً: ما الأشياءُ التي يخافُ عليها هؤلاء مِن العَولمة؟ الاقتصاد؟ المال؟ النّفط؟ السّوق؟ الإعلام ووسائله؟ أفليست هذه جميعاً مُعولمة، بشكلٍ أو آخر، قليلاً أو كثيراً؟ واستقلال القرار العربي في هذا كلّه، أليس مجرّدَ استقلالٍ شكلي؟ يَبقى شيءٌ واحدٌ يمكن أن نلجأَ اليه لمنع العولمة من أن تكونَ عمليّة استتباعٍ لنا، ومحواً لِ"هويتنا" - التي يحرص عليها هؤلاء، ويعملون لِلدّفاع عنها. يتمثل هذا الشيء في الإبداع الفنّي والفكريّ، أساسيّاً، لأنّه بؤرةُ الهويّة، ومَجْلاها، وصورتُها. وهذا ما تتكفّل بطمسهِ أو نفيه أو قتله المؤسّسات السّياسيّة العربيّة وأجهزتُها الرّقابيّة. وإذا وضعنا جانبا الأعداد الكبيرة من الأدمغة العربيّة التي تعيش خارج وطنها الأمّ، مُشتّتةً و"مُعولمةً" بِقوّةِ المَنْفى، في مختلف أنحاء العالم، فإنّنا نلاحظ أنّ الكتاب العربيّ اليوم، الكتابَ المتميّز، يُقرأ خارج لغته دون رقابة، بينما نَراهُ، داخل لغته، مُحاصَراً بمختلف أنواع الرّقابة. ونرى أنّه يتنقّل بحريّة كاملة خارج اللّغة التي ينتمي إليه، بينما يُصادَرُ وتُسَدّ الآفاقُ في وجهه، في هذا الوطن الواسع، وطن اللّغة العربيّة. مِن أين لنا إذن أن نُحارِبَ العَوْلمة الاستتباعية، عَولمة القضاء على الهويّة؟ أيّها الكتّاب والمفكّرون، حاربوا أوّلاً أنفسكم - حاربوا الواقع الذي يُهيمن عليكم في الدَاخل، أوّلاً. * هوذا شعبٌ لا مثيلَ له: لا يعملُ إلاّ بحنجرته. * أفكارك خْصْبَةٌ داخلَ رأسك، لكن، ماذا سيكونُ شأنُها عندما تنتقل إلى رؤوسِ الآخرين؟ * هل تحبّ وطنكَ، حَقّاً؟ لماذا، إذن، لا تعمل على إلغاء الحدودِ بينه وبين الآخر؟ * بأيّةِ حِكمةٍ، أَو لأيّة حكمةٍ، يُعطَى لِلشيطان وحده الحَقُّ في أن يُجادِلَ اللّه؟ * كنتُ أتمنّى أن يلتقيَ أورفيوس بأوريديس لأَرَى: هل يَرْمي قيثارَهُ ويحتضنُها، أم يَظلّ، على العكس، حاضِناً قيثارَه؟ * عَالَمٌ بلا جنونٍ، لا يمكن أن يكون عالماً عَقليّاً * رسالاتٌ وأفكارٌ خالدة، - خالدة؟ إذن، لا علاقةَ لها بالواقع، ولا يمكن أن تتحقّقَ أبداً. * ماذا دهَاكَ، أيّها الشاعر؟ أتريد أن يعترفَ بحرّيّتك شخصٌ لا يعرف الحرّية؟ * بيوتٌ عالية، لكن، ليس فيها غيرُ الآهاتِ والسّلاسل. * سِمسم، أيّها المفتاح السّحريّ، لا تَفتْح، لا تفتَحْ - لا أُريدُ أن أدخل! * وصفَ المعرّي أصحاب السّلطة في زمانه، قائلاً: جَلَوْا صَارِماً وتَلَوْا باطِلاً وقالوا: صَدَقْنَا، فقلنا: نَعَمْ! هكذا كانت السلّطة في ذلك الزّمان: تنتقل مِن سيفٍ إلى سيف. * شعبٌ مُفَكِّر: غير أنّ فكره يُحبّ الكتابات التي لا تَتطلّب التّفكير! * اليومَ، يَتحلّق حول الفكرة حَرَسٌ، وَخدَمٌ، وطبّاخون. وَليست هذه المرّة الأولى في تاريخ الأَفْكار * ليس ضيقُ البلاد هو الذي يجعل الحياةَ ضيّقة وصعبة، بل ضيقُ فكرها - أو كما قال شاعِرُنا: "لَعمركَ، ما ضاقَتْ بلادٌ بأهْلِها ولكنّ أخلاقَ الرّجالِ تَضيقُ" * هَيّأوا له تاجاً، قبل أن يَتأكّدوا إِنْ كان له رأسٌ، حَقّاً. * لماذا تكلّم ابن المقفّع على السّياسة بلسان الحيوان؟ أَلأَنّ الإنسانَ، كما عرّفه أرسطو، "حيوانٌ سياسيٌ"، أَمْ لأَمْرٍ آخر؟ * هوذا ظِلٌّ أكثر إضاءةً من النّور، رُبّما لأنّه أكثرُ خَفَراً. * بِفرجارِ النَّثْر، يُصِرّ على أن يرسمَ دائرةَ الشّعر * الموت حقيقةٌ، غير أَنّه الحقيقة الوحيدة التي أَنْصَحُ بِعَدم تَصْديقِها * ما أغربَ التماسيح: وَحْشيّةٌ، وحين تهجم على فرائِسها، تَتسلَّح بالدّمْع. * يؤكّد آرتو، وغروتوفسكي، وبروك من كبار الذين أَسّسوا للمسرح الحديث على أن تجديدَ المسرح لا يتمّ إلاّ بالعودة الى "الأصول": إلى الفكر الأسطوري وعوالمه الثقافيّة، وإلى الممارسات الطّقوسيّة السّحرية، وإلى اللغات البدائية. فالماضي، بالنسبة إليهم جميعاً، ينبوعٌ أول للمسرح الحديث، وللحداثة. هذه "العودة" في الغرب لا في المسرح وحده، بل في الشعر والفنون التشكيليّة، مِمّا يعرفه المعنيّون، أتاحت للعمل الفنّي، في أشكاله وأنواعه المختلفة، أن يوسّع مجالاته الجماليّة وحدوده الفنّية، رابِطاً إِيّاها بالحقولِ الثّقافية - الحضاريّة. كان العملُ الفني شجرةً، فأصبحَ غابة. وكان انفعالاً - فأصبحَ جَسداً بكاملِ طاقاته. المفارقة عندنا، في اللّغة العربية و"حداثتنا" أَنّنا على النّقيض من ذلك، نميلُ الى نَبْذ الماضي - لا إلى النّبذ وحده وإنّما إلى المَحْو! والمفارقة الأكثر عبثيّةً هي في أَنّنا، وفي الوقت ذاته، لا نَتَرَدَّدُ في العودة الى "عَودة" هؤلاء وأمثالهم في الغرب، ولا نَتردّد في جعلهم مرجعاً لنا، بوصفهم نماذجَ عُليا للحداثة، وفي محاكاة أعمالهم، والنّسج على مِنْوالها!