مضت شهور طويلة منذ كتبت آخر مقال لي لأني كنت في حيرة، لكون الدور الذي يجب ان أقوم به محللاً أو معلقاً أو مساهماً في حملات التوعية اختلط عليّ بشكل حاد. كما اني شعرت بعجز عن تحديد الأولويات التي تستوجب معالجات فورية او هي قابلة للتأجيل. وأدركت ان التحديات التي تواجهنا متزامنة ومترابطة ليس بشكل فريد من نوعه فحسب - اي المشروع الصهيوني والانحياز الاميركي له - بل ان العراقيل التي جعلت ما هو بديهي مستعصياً هي عراقيل ذاتية مثل قيام السوق العربية المشتركة ازاء تيارات العولمة في حقلي الثورة المعلوماتية والاقتصاد. هذا التحدي بشكليه العدواني - اسرائيل والسوق التي عجزنا عن انشائها - جابهناه من مواقع مبعثرة، متنافسة وفي بعض الاحيان متصادمة. ان غياب التنسيق الملزم بين الاقطار العربية - وهو الحد الادنى المطلوب - سهل للتحدي - بوجهيه - استباحة الأمة وضعضعة ردود الفعل والافعال التي من شأنها تقليص الخسائر الناجمة عن تشرذم الطاقات العربية المتوفرة. جاءت خمسينية "النكبة" واعتبرت المناسبة فرصة لاستئناف الكتابة، لكني وجدت نفسي مرة اخرى عاجزاً عن أي اسهام سوى بارتباك فكري سببه التخبط في الحالة العربية بشكل عام اضافة الى اختلاط الأولويات. اثناء هذا المخاض والمعاناة أدركت أن لا بديل من الخيار القوي العربي، الذي اذا اعيد تأطيره وتوضحت اساليب عمله واستقام خطابه الاجتماعي ونقد ذاته، يتحول الى اقتناع سائد، وبالتالي يبدأ العد العكسي تجاه ما يجب ان يكون والابتعاد - التدريجي؟ - لما نحن عليه من تردٍ واحباط. لقد حاول "الواقعيون الجدد" أن يحذفوا هذا الخيار العربي القومي من خلال حملاتهم التي آلت الى الاستسلام للواقع الراهن والعمل على التعامل معه كأنه اصبح قدراً محتوماً للعرب، في حين ان الخيار العربي يسلم بالحالة الراهنة لكنه يرفض الرضوخ لبقائها أو استمرارها. ان الخيار القومي العربي يفترض ضرورة التغيير وإعادة صياغة خطابه. يستتبع هذا بالضرورة، بالاضافة الى نقد الذات، استيعاب التغييرات المستجدة دولياً وإقليمياً وحضارياً بما يضمن المناعة في الالتزام من جهة ويحمي رسوخ الثوابت التي ترتكز عليها اسس القومية العربية الحديثة. وكما قلت في مناسبات كثيرة يجب "ان لا نسمح للتغييرات بأن تصبح بالوعة للثوابت".
على رغم ان الاعلان عن عروبة الانتماء أصبح لدى بعض النخب المتحكمة - السلطوية والاعلامية - تشويشاً على شرعية دورهم، الا ان الاصرار على شمولية الهوية العربية سجّل خطوات أدت الى افشال المؤتمر الاقتصادي في الدوحة والى التجاوب مع دعوة القمة الاسلامية الى الانعقاد في طهران وبدايات تململ داخل المجموعة العربية في الأممالمتحدة بين تهميش دورها ومحاولات الغاء دورها. كما تأكدت الانتماءات العربية من خلال الضغوط التي مارسها معظم الشعوب برفضها استبدال عروبتها بهويات "شرق اوسطية" او "متوسطية"، مدركة بحسّها المرهف ان هذه الهويات المزورة هي محاولة لفرض "اسرائيل" كجزء مكوّن للمنطقة لا كعنصر دخيل وطارئ عليها. صحيح ان الانتماء للعروبة اثبت شرعيته برغم قانونية السيادة التي ترافقت مع الانظمة المحلية والقطرية. وظهر التناقض بين الهوية الشرعية - عروبة الانتماء - والهوية القانونية للمواطن في التجاوب الشعبي العارم لمآسي الشعب العراقي وتضامنه معه، ما أدى الى اعطاء دفع الى مداخلة الأمين العام للأمم المتحدة، وحرمان القوات الاميركية من استعمال قواعدها في المنطقة ضد العراق. ثم تبين للعالم نضج الوعي عند الجماهير العربية وبعض قادتها في تفريقها بين رواسب النقمة على غزو نظام العراق لدولة الكويت وبين التحريض على شعب العراق والانتقام منه. هذا النضوج ينطوي على احتمالات فكرية وعملية من شأنها توضيح وجهة سير الأمة وتصحيحاً للأوضاع الشاذة التي تنخر في قضايانا المصيرية. صحيح أيضاً أن محاولات تكفير الشعوب بعروبتها اصطدمت بالصلابة التي استدامت على رغم كل الاغراءات التي اقدم عليها وكلاء "النظام العالمي الجديد"، من "مثقفي" كوبنهاغن الى كل الذين استمرأوا التبعية والارتهان، ما يجعلنا نستنتج ان الوعي الشعبي لا يزال قائماً، وإن بتقطع فاعلاً ايضاً. المطلوب في هذا المضمار هو ايجاد المرجعية الفكرية والتنظيمية التي يمكن ان تتلقف هذا الوعي، وإيجاد الاطار الرحب والديموقراطي الذي يوجه الطاقات الواعية والمكبوتة نحو ما نصبو اليه وما نحلم بتحقيقه. بمعنى آخر، علينا في هذه الظروف الصعبة والشديدة التعقيد، ان نثبت ان المستحيل الذي يروج له "الواقعيون الجدد" قابل للممكن الذي تستسيغه الاجيال القادمة والتي تفرض علينا تجنب الاجترار وربط القومية العربية بهمومها واهتماماتها وفي طليعتها حقوق الانسان - توفير الحرية وتلبية الحاجات - ومشاركة المرأة في مختلف مجالات صناعة القرار عن اقتناع بضرورة هذه المشاركة لا عن استجابة موقتة لضغوط ظرفية. كذلك على كل حركة للقومية العربية ان تثري فرص تعميق جذور الوحدة الثقافية والفنية التي حمت العروبة شعبياً من جميع اصناف الانحرافات السياسية والعقائدية التي لا نزال نعاني من التداعيات التي تحاول ان تمعن في تفريق صفوفنا وتمزيق وحدتنا من خلال سياسات فوقية اسقطت خيارات المقاومات المشروعة للمشروع الصهيوني كما أهملت مقتضيات التنمية في مجالات التكامل الاقتصادي والاجتماعي بين اقطار الأمة. كان الشهيد كمال ناصر يقول "دقت ساعة الفرز" كما طرأت ضبابيات على الرؤيا في سلوك المقاومة الفلسطينية او ادبياتها في اواخر الستينات وأوائل السبعينات. والسؤال نفسه مطروح بإلحاح هذه الأيام. فرز ماذا عن ماذا أو فرز من عن من؟ وعلى رغم وجاهة هذه المقولة الا انها تنطوي على تفويت الفرص امامنا لاستمالة المضلّلين بفتح اللام وعزل المضللين بكسر اللام. هذا المجهود التثقيفي يصبح حاجة قومية لسبب جوهري هو ان تسارع الاحداث وتزامنها اوجد العديد من الطروحات التي بدت منطقية للوهلة الأولى وما لبثت ان ظهرت على حقيقتها على رغم تلميع الاعلام الغربي - والاميركي على الاخص - لدعاتها وتسويقها بشكل متواصل ومنظم. لذا علينا ان نفترض ان شرائح عربية انهكها الاحباط، استنسبت بعض هذه الطروحات كمخارج موقتة من المآزق. هذا الاستنساب يعبر عن حاجة موسمية لا عن قناعة ضميرية. هذه الشرائح تبتعد ظرفياً لكنها هي من صميم القواعد الشعبية التي عليها يقوم المشروع النهضوي، الذي يدعو اليه مثلاً مركز دراسات الوحدة العربية بشكل دؤوب ومدروس وحضاري. اذاً، على رغم وجاهة الدعوة للفرز، علينا ان نتجنب التسرع حتى نرجع هذه الشرائح الى قناعاتها والى البيت القومي الذي اهتز بنيانه نتيجة الزلازل نكبة فلسطين عام 48، الانفصال في الجمهورية العربية المتحدة عام 62، هزيمة عام 67، ايلول الاسود عام 70، حروب عبثية في لبنان وما استتبعها من احتلال اسرائيلي عام 78 و82 ومعاهدة الصلح التي افرزتها اتفاقات كامب ديفيد عام 79، وحرب الخليج الأولى بين العراق وايران غير الضرورية التي فرضت مجابهات مفتعلة بين "العمل" العربي و"العمل" الاسلامي ما ادى الى تشويه في الحالتين القومية والاسلامية سأعود الى هذا الموضوع في مقالات لاحقة، ثم جاءت حرب الخليج الثانية إثر غزو الكويت مستنزفة فعالية ومصداقية العمل القومي بوضع دعوته وخطابه في خانة معزولة. تمكنت موازين المعادلات الدولية الناشئة بعد نهاية الحرب الباردة من ان تسقط أي خيار عربي لحل هذه الازمة العربية، وكادت تدمر أي توجه وحدوي لولا حيوية الانتماء ومكافحة التبعية التي تفرضها غطرسة التحالف الاميركي - البريطاني في المنطقة. كما كشفت الجماهير ان التلطي وراء الوحدة لتبرير وتمرير الضم والالحاق التي ارادها النظام العراقي هي تشويه ساطع لمفهوم الوحدة. ثم جاءت اتفاقات اوسلو الأولى والثانية لتلغي كل المكاسب القانونية والشرعية التي اعترف بها المجتمع الدولي بالتالي سمحت لاسرائيل بإخراج شرعية قرارات الأممالمتحدة من حيز التداول ومكنتها من الاستفراد بالاطراف ومن فرض شروطها "الامنية" تمهيداً لافتعال حرب اهلية بين الفلسطينيين، ما يجعل الوحدة الوطنية الفلسطينية أولوية مطلقة. في هذا المضمار لا بد من الاشارة الى ان مقاومي "حماس" رجحوا مقتضيات هذه الوحدة على رغم كل الاستفزازات والاساءات لتراثها النضالي، وأثبتوا صيغة فلسطينية جديرة بالدراسة وهي ان شرعية المقاومة وصلاحية قوانين السلطة يمكن لهما التعايش. ان هذه الصيغة هي الهدف من اصرار اسرائيل على وصف المقاومة بپ"الارهاب" والسلطة بالتقاعس عن محاربة "الارهاب". اطلت في هذه المقدمة رغبة مني في تحديد الموقع الذي انطلق منه، إذ أن احداث العام الماضي كشفت لي سلامة المنطلق وحاجة الامة للاستشعار بوحدة مصيرها ازاء ما تواجهه من تكاثر المعضلات القائمة والمفتعلة التي تستهدف استباق أية خطوة للملمة الاوضاع العربية، ناهيك عن تفعيل اجهزة العمل العربي المشترك وإجهاض أي توجه نحو التنسيق الملزم الذي تحقق برسم قواعد الوحدة كي يتم تدريجاً انجازها. هذا ايضاً موضوع يستلزم مزيداً من البحث والتخطيط. سوف أكتفي في هذه العجالة بوضع اسئلة، أفرزها التوسع الاسرائيلي لمدينة القدس متذرعاً بأن نسبة 70 في المئة لليهود مقابل 30 في المئة للعرب يجب ان تبقى. لكن الاحصاءات الاسرائيلية تتوقع أنه بعد عقد من الزمن ستزداد نسبة عدد السكان العرب فتتهدد الصيغة القائمة فيها. طلب مجلس السفراء العرب في واشنطن لقاء مع وزارة الخارجية لتقديم احتجاج على هذا العدوان الجديد وتأييد طلب منظمة التحرير اثارة الموضوع في مجلس الأمن. اجابت الخارجية الاميركية ان اللجوء الى مجلس الأمن سوف يعرقل مساعي الولاياتالمتحدة في "احياء مسيرة السلام"! لكن المجموعة العربية لدى الأممالمتحدة تصرفت بما حددته قرارات مجلس الجامعة - ويبدو ان بعض السفراء العرب دفعوا بقرار المجموعة نحو التوافق والاجماع، ما أدى الى شكوى الادارة الاميركية من حماسة بعض المندوبين! وكان ان أدان بعض الحكومات سلوك ممثليها! وبدا واضحاً ان انطباعاً نشأ عند الأوروبيين بأن من الافضل الاكتفاء ببيان رئاسي بدلاً من قرار قد يؤدي الى استعمال اميركي لحق النقض، ما قد يرضي بعض العرب... هكذا! هل نسقنا بما فيه الكفاية لسد الثغرات القائمة والمحتملة في الموقف العربي ازاء هذه العدوانية الاسرائيلية؟ وهل تصدينا للتبرير العنصري لهذا الاجراء التوسعي الذي تسميه اسرائيل "اجراء ادارياً"! ألم يكن باستطاعتنا ان نعيد الحياة لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة "بأن الصهيونية وجه من اوجه العنصرية"؟ ألم يكن في وسعنا جميعاً، حكومات ومثقفين، ان نتصور ما سيكون رد الفعل الاميركي - والغربي اجمالاً - عدا عن الاسرائيلي لو ان دولة عربية مارست سياسة سكانية قائمة على احتواء اليهود مثلاً في مدينة معينة؟ ولو افترضنا ان مدينة نيويورك ضمت بعض البلدات والدساكر من حولها حتى لا تزيد نسبة اليهود فيها عن مئوية محددة فكيف يكون رد فعل اسرائيل والصهاينة على هذه الاجراءات؟ لماذا يجوز لاسرائيل والصهاينة ممارسة التمييز ضد العرب من دون ادانة او عقاب او كلفة ولا يجوز لغيرها، علماً بأننا ضد اي تمييز عنصري او ديني او فئوي؟ ألم تستفز الاجراءات الاسرائيلية الاخيرة ضرورة للتعبئة والقيام بحملة واسعة النطاق ننفذ من خلالها الى جوهر المشروع الصهيوني ومن ثم نخطط لمجابهته ولافشال ادمانه على التهديد والتوسع والعدوان؟ ألم يحن الوقت لأن ننتهز هذا العدوان الصارخ على مستقبل القدس كي نعيد فتح ملف القضية الفلسطينية برمتها؟ او هل نكتفي بمناشدة الدول والقوى المطبعة مع اسرائيل بأن تكف عن مثل هذه الاجراءات "الاستفزازية"؟ ألا تستحق القدس اجراء بسيطاً بأن تعلق مصر والأردن علاقاتهما الديبلوماسية؟ الا يجدر بالسلطة الفلسطينية ازاء هذا "الاستفزاز"، وهذا هو الوصف الاميركي للاجراءات الاسرائيلية الاخيرة، ان تعلق رسمياً أية محادثات سياسية اقتصادية أو أمنية، الى ان تتم على مستوى الشعب الفلسطيني والعربي اعادة النظم في اتفاقات اوسلو التي اجازت لاسرائيل محاولة املاء تفسيرها لبنودها؟ فالقدس وإن كانت جوهر القضية الفلسطينية الا ان الاجراءات تبقى جزءاً من الكل في المشروع الصهيوني. ان التصدي لهذا المشروع العنصري البحت لا يتم بمعالجة الجزئيات فحسب، بل بجعل عدوانه مكلفاً، اذ ان التصدي للمشروع ككل يخرجنا من القلق على المصير وعلى المستقبل. ان هذا القلق الذي يلازمنا جميعاً يدعونا ان نبدأ مجدداً في صناعة تاريخنا بدلاً من ان نسمع ونركن الى حتمية أن التاريخ يُصنع لنا. علينا اذاً ان نعلن انه اذا كان من نظام عالمي جديد فنحن لسنا امتداداً له بل اننا كأمة احد مهندسيه وبناته. * كاتب ومفكر عربي.