} احتفل قادة الدول الأوروبية الأسبوع الماضي بانطلاقة البنك المركزي الأوروبي الذي سيبدأ عمله فعلياً في كانون الثاني يناير 1999 عندما ستغدو العملة الأوروبية الموحدة يورو العملة الرسمية ل 11 دولة أوروبية. وسيكون ال "يورو" من الأساس لا عملة ما فوق قومية فحسب، بل تعبيراً عن تنازل مشترك من قبل دول الاتحاد الأوروبي عن أحد مظاهر السيادة القومية الذي هو صك العملة الوطنية. وإذا كان الاقتصاد يتعولم، فهو أيضاً "يتمنطق"، أي أنه يتمركز في مناطق اقتصادية كبرى في العالم أهمها أميركا الشمالية وأوروبا الغربية وآسيا الشرقية. فبلدان هذه المناطق تجد نفسها مضطرة إلى تعليق المنافسة في ما بينها والاستعاضة عنها بمنطق تكامل وتبعية متبادلة لتكون أكثر قدرة على خوض المنافسة العالمية. لذلك أصبحت دول الاتحاد الأوروبي تحقق بين بعضها البعض ثلاثة أرباع مبادلاتها التجارية. والمفارقة ان أداة التبادل البيني للتجارة الأوروبية هي الدولار الأميركي. لذلك فإن اطلاقة ال "يورو" تعتبر تصحيحاً لهذا الشذوذ وهو مرشح ابتداء من سنة 2002 لأن يكون وسيلة التبادل التجارية لأكثر من 35 في المئة من تجارة العالم. ولفهم خلفيات اطلاقة ال "يورو" وافانا الباحث السوري إبراهيم علي محمد من برلين بالتقرير التالي: أقرّ زعماء الاتحاد الأوروبي خلال قمتهم الاخيرة في بروكسيل "قمة اليورو" في اوائل ايار مايو الماضي انطلاقة العملة المشتركة يورو في 11 بلداً من بلدان الاتحاد ألمانيا، فرنسا، ايطاليا، اسبانيا، هولندا، بلجيكا، النمسا، فنلندا، البرتغال، ايرلندا واللكسمبورغ في شكل نهائي مطلع السنة المقبلة وتثبيت اسعار عملات بلدان يورو تجاه العملة الجديدة، وتعيين اول رئيس للبنك المركزي الأوروبي وأعضاء هيئته التنفيذية. وكما كان متوقعاً فان الاتفاق بخصوص انطلاقة العملة وتثبيت الاسعار واختيار اعضاء الهيئة التنفيذية تم من دون خلافات تذكر. غير ان خلافاً كبيراً وقع حول تعيين رئيس البنك المذكور الذي سيتولى شؤون السياسة النقدية في منطقة اليورو عندما تنطلق العملة الجديدة اوائل السنة المقبلة. وقبل ان يتم تناول اجواء المفاوضات وخلفياتها بهذا الخصوص لا بد من القاء الضوء على البنك المذكور وعلى البنوك المركزية الأوروبية التي ستصبح فروعاً له بعدما تخلى عن سلطاتها النقدية. السياسة النقدية والبنوك المركزية المحلية بعد اعوام طويلة من المفاوضات بين رؤساء البنوك المركزية لدول الاتحاد الأوروبي تم الاتفاق على انشاء البنك المركزي الأوروبي في مدينة فرانكفورت - ماين الألمانية حيث يوجد مقر البنك المركزي الألماني البوندسبانك. وجرى ذلك على اساس اقامة البنك الأوروبي وتحديد صلاحياته في شكل يشبه ما هو عليه الحال في البنك الألماني. وينطوي ذلك على ضمان استقرار الاسعار، وضبط معدلات التضخم التي تأتي على رأس اولويات المهام الملقاة على عاتق البنك. ولكي يتمكن من تحقيق ذلك، اعطاه الاتفاق الاستقلالية في سياساته النقدية بعيداً عن تدخل الحكومات، وحرم عليه تقديم قروض نقدية لها من اجل تمويل العجز في موازناتها. ويتخذ القرارات المتعلقة بالخطوط العامة للسياسات المذكورة مجلس ادارة يضم بالاضافة الى اعضاء الهيئة التنفيذية للبنك رؤساء البنوك المركزية لبلدان منطقة يورو. وستبقى البنوك المركزية لدول يورو بعد اقامة البنك المركزي الأوروبي، لكنها ستتخلى لهذا الاخير عن سلطاتها النقدية مع مطلع السنة المقبلة كما ورد اعلاه. وستصبح فروعاً له في بلدانها. ووفقاً لمعاهدة ماستريخت فان على هذه البنوك تحقيق استقلاليتها عن الحكومات خلال وقت اقصاه نهاية السنة الجارية. ومما يعنيه ذلك ان على بعض بلدان يورو التخلص من تقاليد نقدية عمرها مئات السنين. وتقوم هذه التقاليد على تدخل الحكومات في السياسات النقدية لبنوكها المركزية. وقد تم فعلياً التخلص من هذه التقاليد في بلدان مثل فرنسا وإسبانيا. اما معظم البلدان الاخرى لا سيما بلدان الاتحاد الشمالية فان بنوكها المركزية قامت منذ البداية على الاستقلالية في ما يتعلق بالسياسات النقدية. خلافات بين فرنسا وبقية بلدان اليورو على شغل منصب رئاسة البنك اصرّ الرئيس الفرنسي جاك شيراك خلال القمة المذكورة اعلاه على ترشيح جان كلود تريشي رئيس البنك المركزي الفرنسي لشغل منصب اول رئيس للبنك. اما بقية بلدان الاتحاد وعلى رأسها المانيا فقد اصرت على تعيين السيد ويم ديزنبرغ Wim Duisenberg رئيس مؤسسة النقد الأوروبية لشغل المنصب المذكور. وبعد مفاوضات دامت 12 ساعة ووصفت بالماراثونية اتفق الزعماء على حل وسط قام على اساس تجزئة الرئاسة الأولى بين المرشحين المذكورين. وتمثل هذا الحل في تعيين السيد ديزنبرغ لرئاسة البنك لمدة ثماني سنوات بشكل رسمي اعتباراً من اول تموز يوليو المقبل اي عندما يبدأ البنك اعماله رسمياً. غير ان هذا التعيين جاء مشروطاً بتعهد معنوي او شفهي قبل المذكور بمقتضاه ترك منصبه للمرشح الفرنسي بعد مرور اربع سنوات على تسلمه المنصب، اي مع حلول الأوراق والقطع النقدية لليورو مكان مثيلاتها من العملات الوطنية في بداية النصف الثاني من السنة 2002. ويتعارض هذا الحل مع روح معاهدة ماستريخت التي نصت على ان يتولى رئيس البنك منصبه لمدة ثماني سنوات من دون وضع أية شروط. وبرر ديزنبرغ الذي يبلغ من العمر 62 عاماً تعهده بالاستقالة في شكل مبكر طوعاً لأسباب شخصية تتعلق بتقدمه في السن ومن دون ضغط من احد. غير ان المراقبين يرون انه تعرض للضغط الفرنسي الى ان قبل بالتنحي قبل انتهاء مدته لإرضاء عناد الرئيس جاك شيراك و"لتجنب الاعظم" على حد تعبير جريدة برلينر تسايتونغ Berliner Zeitung التي تصدر في برلين. خلفيات الخلاف الفرنسية - الأوروبي بدا الخلاف حول من سيكون اول رئيس للبنك المرزي الأوروبي وكأنه بين فرنسا وبقية بلدان الاتحاد. الا ان ذلك يعكس في الحقيقة خلافاً المانياً - فرنسياً على الزعامة. كما يعكس ايضاً الاختلاف بين ألمانيا وبلدان الاتحاد الأوروبي الشمالية من جهة، وبين فرنسا وبلدان الاتحاد الجنوبية من جهة اخرى حول التقاليد المتبعة على صعيد السياسات النقدية. فالمستشار الألماني هيلموت كول أراد من خلال تعيين ديزنبرغ المؤيد بشدة للتقاليد النقدية الألمانية لمدة ثماني سنوات من دون شروط لكسب ثقة الناخبين الألمان، لا سيما وانه رشح نفسه من جديد لمنصب المستشارية. كما اراد ان يكسب ثقة هؤلاء بمشروع الاتحاد الأوروبي وعملته الموحدة كون غالبيتهم تشك بها، وكونه ابرز القادة الأوروبيين الذين عملوا من اجل انجاح هذا المشروع وانطلاقة اليورو. ومن الواضح ايضاً ان للسيد كول مآرب اخرى. فهو يريد ان يدخل التاريخ الأوروبي من خلال لقب "زعيم الوحدة الأوروبية" كما دخل التاريخ الألماني بلقب اصبح يعرف به كپ"مستشار الوحدة الألمانية". اما الفرنسيون الذي يتمتعون بالنفوذ الأقوى على الصعيد السياسي، فقد أرادوا ان يظهروا للألمان ان لديهم ايضاً ما يقولونه على صعيد السياسات النقدية، وان هذه السياسات ليست متروكة لهم ولحلفائهم. كما ان حكومة الاشتراكيين في فرنسا اصرت على الرئيس جاك شيراك الذي ينتمي الى اليمين ليتمسك بموقع قيادي لفرنسا حتى على صعيد السياسات النقدية منذ البداية كي تتمكن من تنفيذ خططها المتعلقة بالحد من البطالة وغيرها. وعلى صعيد التقاليد النقدية فإن الألمان تدعمهم بلدان الاتحاد الشمالية يعتبرون استقلالية البنك المركزي عن الحكومة امراً لا مفر منه من اجل ضمان عملة قوية ومستقرة. ولهم في ذلك خبرة جيدة مع البنك المركزي الألماني البوندسبانك. فاستقلالية هذا الاخير عن اهواء السياسيين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ساهمت في جعل المارك الألماني مثلاً يحتذى به على صعيد القوة والاستقرار. اما في فرنسا فما يزال قسم كبير من اصحاب القرار النافذين يميلون الى وضع آليات يتم بموجبها الزام البنك المركزي بدعم الحكومات مباشرة في خططها الرامية لتنفيذ برامج اقتصادية واجتماعية ذات طبيعة عامة. وليس عجباً فالبنك المركزي الفرنسي لم يمض على استقلاله عن سلطة هؤلاء اكثر من أربعة اعوام. ردود افعال عنيفة للاكاديميين والسياسيين حاول زعماء الاتحاد الأوروبي وعلى رأسهم رئيس الاتحاد ورئيس الحكومة البريطانية الحالي توني بلير اقناع الصحافيين الذين احتشدوا بالآلاف ان ديزنبرغ قبل التنازل عن نصف مدته من دون ضغط من احد، وان الصيغة التي تم بموجبها تعيينه لا تتعارض مع روح الاتفاقات الموقعة بين بلدان الاتحاد وعلى رأسها معاهدة ماستريخت. غير ان محاولاتهم هذه لم تفلح لا في اقناع معظم هؤلاء ولا في التخفيف من حدة ردود الافعال على ذلك. فقد انتقد سياسيون ورجال اعمال وأكاديميون من مختلف انحاء اوروبا الصيغة المذكورة، معتبرين انها بداية ناقصة كونها لم تساعد على تعزيز الثقة باليورو قبل انطلاقته. كما انها فتحت الباب لتدخل السياسة في شؤون اعلى سلطة نقدية في منطقة العملة الجديدة. وفي حال تكرار هذا التدخل لاحقاً فإن النتائج ستكون سلبية على اقتصادات المنطقة. وجاءت اعنف هذه الانتقادات من المانيا. فأحزاب المعارضة وعلى رأسها الحزب الديموقراطي - الاجتماعي اعتبرت ان الحل مخجل للمستشار هيلموت كول الذي قبل بحل كان يرفض النقاش في شأنه من قبل. ووردت انتقادات من اوساط معسكر المستشار نفسه كتلك التي عبر عنها ادموند شتويبر رئيس وزراء بافاريا، اذ قال: "ان هذا الحل لم يساعد على التخفيف من شكوك المواطنين باليورو". كما وردت انتقادات من مؤسسات وشخصيات اقتصادية وأكاديمية معروفة. فرئيس غرفة الصناعة الألمانية مثلاً اولاف هينكل تحدث مثلاً عما اسماه بپ"الحل الفاسد". واعتبر رئيس مجلس حكماء الاقتصاد هيربرت هاكس انه "لم يكن ينبغي اختيار ديزنبرغ لرئاسة البنك لأن قبوله بالتنحي مسبقاً قلل من مصداقيته". وعلى عكس السياسيين والاكاديميين فإن ردود فعل الاسواق المالية على التعيين المشروط لديزنبرغ رئيساً للبنك المركزي الأوروبي تميزت بالتوازن والرصانة. فقد قابلت هذه الاسواق صيغة قرار التعيين بالحذر وبعض الشكوك كونها لا تعزز المصداقية بالعملة الجديدة. لكنها ارتاحت لالتزام بلدان اليورو بالمعايير الاقتصادية التي حددتها معاهدة ماستريخت بخصوص معدلات التضخم والفائدة وعجز الموازنة ومجمل الدين العام. كما انها اطمأنت الى ان تنفيذ السياسات النقدية للبنك سيتم من قبل الهيئة التنفيذية التي تضم شخصيات معروفة بكفاءتها وبتمسكها بسياسات استقرار الاسعار ومحاربة التضخم. ويأتي على رأس هذه الشخصيات الألماني اوتمار ايسنغ المدير الاقتصادي للبنك المركزي الألماني والذي عُين في عضوية الهيئة لمدة ثماني سنوات. ويفسر الارتياح والاطمئنان المذكوران عدم تأثر الاسواق المذكورة بقرار تعيين رئيس البنك المركزي الأوروبي في شكل ملحوظ. فقد تابعت هذه الاسواق تعاملاتها مترقبة آخر تطورات الازمة الآسيوية وآخر معطيات اقتصاد الولاياتالمتحدة الاميركية وقرارات البنك المركزي هناك. مما لا شك فيه ان العديد من ردود الافعال على صيغة بروكسيل في شأن شغل منصب رئيس البنك المركزي الأوروبي جاءت بشكل مبالغ فيه. وينطبق ذلك خصوصاً على ردود افعال المعارضة التي اطلقت "قذائفها الانتقادية" لأسباب تكتيكية انتخابية كما فعلت المعارضة الألمانية مثلاً. اما ردود الافعال الاخرى فلها ما يبررها من ناحية الخوف على ان ما جرى في بروكسيل قد يتكرر لاحقاً. وعلى الرغم من الموافقة على مثل هذا التخوف فالارجح ان اقتسام رئاسة البنك الأولى بين هولندي وفرنسي لا تعني تفويت الفرصة على استقلاليته. كما انها لا تعني ان ذلك سيصبح تقليداً اوروبياً. ومما يدعم هذا الرأي ان قيام البنك بمهامه لا يرتبط بشخص الرئيس بقدر ما يرتبط بالسياسات النقدية التي يضعها مجلس ادارته وتطبقها هيئته التنفيذية. وبالنسبة لاستقرار العملة فانه مرتبط بمدى التقيد بالمعايير الاقتصادية التي حددتها معاهدة ماستريخت وبمدى نجاح بلدان يورو في التنسيق على صعيد السياسات المالية من ضريبية وغيرها اكثر من ارتباطه بمن سيتولى رئاسة البنك. ومهما يكن فانه لا يمكن الموافقة على وصف قرار التعيين بأنه "صفقة دنيئة" كما فعلت بعض وسائل الاعلام والشخصيات الألمانية والأوروبية. فقد جاء ليعكس حقيقة انه لا يمكن لبلدان تجمعها مصالح وتفرقها اخرى اتخاذ قرارات مهمة بشكل الا على اساس الحلول الوسط في معظم الاحيان. فكيف اذا كانت هذه بلدان تحاربت في ما بينها لقرون عدة، ولم يمض على عيشها بسلام اكثر من نصف قرن. وفي النهاية فإن القرار اثبت من جديد ان اوروبا على عكس نضوج "وعيها الاقتصادي" لم تتمكن بعد من التوصل الى نضوج على صعيد "الوعي السياسي".