حتى ذلك العام لم أتعرف على البحر، بالضبط سنة واحد وستين وتسعمئة والف، تجاوزت السادسة عشرة بشهرين، في تموز يوليو خرجت من بيتنا في الجمالية بصحبة والدي، مرتدياً زي فرق الفتوة العسكري الرمادي، قصدنا محطة مصر حيث تجمع كتيبة مدرسة العباسية الثانوية الصناعية، أصر أبي على صحبتي، على توديعي، انها المرة الاولى التي اغيب فيها اسبوعين متصلين عن البيت، صحيح انني خرجت مع فريق الكشافة خلال دراستي الاعدادية في رحلات الى القناطر الخيرية والى حلوان والى ساحة مسجد الحاكم بأمر الله الذي كان خرباً في ذلك الحين، لكنني لم أركب قطارات ولم تطل غيبتي إلا ليلة واحدة، الأمر هذه المرة يختلف. عندما أصبحت فرداً في الجمع، وانتظمنا صفوفاً للإتجاه الى القطار، ودّعت أبي بالنظر، صرت مرحاً، خفيف الخطى، ذلك أنني وقفت على ما سرني، للمرة الاولى سأركب الاتجاه المضاد، الرصيف مغاير، والعربات تتجه الى بحري وليس الى قبلي، سيتاح لي الوقوف على ما يوجد هناك، رؤية التفاصيل المغايرة، ارض اراها للمرة الاولى، بعد تحرك القطار المتمهل في البداية، المتزايد، بعد ان نما الى سمعي صفيره المتصل هف قلبي الى اهلي، وعرفت تلك الحكمة التي ستفجأني مثلما شرعت صوب رحيل ما وان اختلفت الشدة من مرة الى اخرى، فندقت عيناي لتحتويا ما يراه البصر. محطات مختلفة، ليس في الأسماء فقط، أنما في المظهر. ربما بتأثير الحقول الممتدة الخضرة، شاسعة الأفق، قصية الحد. بنها، بركة السبع، طنطا، كفر الزيات، دمنهور، كفر الدوار، سيدي جابر، محطة النهاية شاسعة. تبدو أفسح وأرحب من محطة البداية، سقف حديدي شاهق، مكان منتظم الأطر. له مهابة. انتقلنا الى قطار آخر، العربات أضيق، السرعة أبطأ، لكن ثمة نسمات هفهافة وصلت الينا عبر نوافذه، قادمة من هناك، من المدى. لينة لم أعرف مثلها، أحياناً فوق سطح بيتنا القديم، أثناء وقوفي محدقاً الى الأفق، نسمات خريفية عذبة، لكنها تنقطع أو تقوى فتثير قشعريرة، تلك مغايرة. ها هو.. بالضبط ما بين محطة المنتزه والمعمورة، فَرْجة تتخلل البيوت، طريق ضيق يؤدي اليه، ينحدر صوبه، كل الطرق كما عرفت وعاينت فيما بعد تؤدي نحوه، أو تمضي بحذائه، غير أن لونه أينعني وجدد حضوري وتبتني على التوق اللا محدود، والشوق الدائم الى الضفاف غير البادية، وألمح لي بمرجع الأبدية، خاصة اللون!. لحظة فارقة، دافقة، ورغم أنني لمحته على البعد لكن الصلة استؤنفت على الفور، قديمة لم أعرفها في وعي، وان ظلت كامنة حتى اثارها رؤيته في ذلك النهار السكندري ومن خلال القطار. درجة من الزرقة العميقة، ازرق يولد من ممثله، متصل بأفق يعلو مرتفعاً بصداه. توجهت اليها، ليس بالنظر، ولكن بكل ما يمكنني إرساله أو تلقيه، وهذا وضع بدأته في تلك اللحظة ولزمته مراراً في أطوار أخرى، لكن شرط نشوئه لا يكون إلا في مواجهة البحر، أو فراغ ما، أفق أطل عليه من نافذة، شرفة على واد. او ذروة مرتفع جبلي، أو أثناء تحليق علوي فوق البحر المحيط أو احدى القارات الست، عندما ألزمه يكتمل انفرادي وتوحدي، لا يعادل ذلك إلا اللحظات التي تسبق نومي، وأبلغ فيها أقصى توحد بالذات، بي، وهذا من طبيعة الانسان وكل المخلوقات الساعية، فلا أحد يدلج الى النوم بصحبة آخر. الأصل في الوجود الوحدة والعدم الذي ربما يؤدي الى وجود آخر. قبل تلك الطلة، انفجار هذه المشاهدة. لم ار البحر من قبل. سمعت عنه من أبي عندما تحدث عن أقاربنا الذين رحلوا الى الاسكندرية، أحيانا يعني بالبحر النيل. هكذا يطلق عليه أهلي في الجنوب. البحر يعني هناك النهر خصوصاً في زمن الفيضان المعروفة بالدميرة، وفيها كانت تحاصر جهينة الشهور الأربعة الصيفية، كان الوصول الى ديارنا في ربع حسام الدين لا يتم الا بواسطة اقرب، في الحارة سمعت بسفر أسرة عم حسن المسحراتي للتصييف، امرأته البيضاء، الدلوعة، تصغره سناً، هناك ترتدي المايوه وتنزل الى البحر مثل بطلات فيلم "السباحات الفاتنات" الذي عرضته سينما "الكواكب" في الدراسة. لا شيء يدل على البحر إلا الموج وتدافعه ولطمه اليابسة وزبده الأبيض والمدى، لا السينما ولا اللوحة ولا الوصف مهما دق، هذه الزرقة كونية المصدر علقت بذهني ونزلت منه موقعاً مرجحياً، لعلي أفيض في تدوين آخر عن البحر، التفاصيل شتى والبلاغ خضم. بلغنا المعسكر، خيام منصوبة بترتيب وانضباط، توزعنا عليها، ثلاثة في كل منها، لا يفصلنا عن البحر إلا رمال الشاطىء، الناعمة، الخصبة، العتيقة، مبانٍ متناثرة تخص الصيادين، مقاهٍِ بسيطة مشرفة، لم أجلس بها. لم أعرف بعد عادة التردد على المقاهي منفرداً، لكنني بدأت التأمل وتسديد البصر، لم أتعلم العوم، ولم يكن لديّ لباس بحر يمكنني من النزول إليه وملامسة جسدي لمائه، اكتفيت منه بالنظر، وتعددت منذ تلك الفترة مرات نظري اليه، ومواضع وقفاتي ولهذا تفصيل يطول.