يقول الدكتور غازي القصيبي في مقدمة كتابه انه موجه الى القارىء العادي على وجه العموم، والى فئتين من القراء على وجه التحديد: أبناء الجيل الصاعد الذي آمل ان يتمكنوا أن يتذوقوا من خلال نكهة الثورة التنموية التي عاشتها المملكة العربية السعودية والتي عاصرها المؤلف. أما الفئة الأخرى فهي فئة الإداريين الشباب في القطاعين العام والخاص والذين يمكن أن يجدوا في هذه التجربة الادارية الطويلة بعض الدروس النافعة وأن يستخلصوا منها بعض العبر المفيدة في الإدارة. هذه الدروس والعبر اخترتها للقراء الكرام كلقطات جاءت على لسان المؤلف في معرض سرده لسيرته الحياتية الإدارية لأنني وجدت فيها فائدة في ممارساتنا اليومية وحكمة في حياتنا العامة. العبرة: أود أن يعرف القرّاء الذين لم يسمعوا بي إلاّ مسؤولاً كبيراً أني بدأت حياتي العملية بدون مكتب، وبدون طاولة، إن عجبي لا ينتهي من أولئك الموظفين الذين يصرّون على مكتب فخم في يومهم الوظيفي الأول، وأولئك الموظفين الذين يقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا رأوا أن المكتب لا يتناسب وما يتصوّرونه لأنفسهم من مكانة. إنني أفخر بالفترة الطويلة التي قضيتها بلا طاولة. وأفخر، أكثر، بأنني لم أضيّع دقيقة واحدة من الدوام: كنت في المكتبة من الثامنة صباحاً الى الثانية ظهراً من كل يوم. ما دمت أتحدّث عن الدوام فأنا، كما يعرف كل الذين عملوا معي، أعاني من عقدة، يرى البعض أنها تبلغ مبلغ الهوس، تتعلّق بالدوام. لا يمكن لأي مؤسسة إدارية، كبيرة كانت أو صغيرة، أن تعمل بلا انضباط، والحدّ الأدنى من الإنضباط هو الوصول الى المكاتب في بداية الدوام والبقاء فيها حتى نهايته. وضبط الدوام ليس معضلة كبرى، كما يتصور البعض. وصول الرئيس في الموعد المحدّد يضمن وصول باقي الموظفين في هذا الموعد، وبقاؤه الى نهاية الوقت المحدّد كفيل ببقاء الجميع. وهوسي بالدوام ينصرف الى هوسي بكل المواعيد. أستطيع أن أقول، وأنا واثق أن أحداً لن يكذّبني، اني عبر حياتي الإدارية كلها لم أتأخر عن موعد واحد، فضلاً عن إلغائه، إلا لظروف قاهرة. لعل هذا هو المكان الأنسب للحديث عن أسلوبي في التدريس، لأنه لم يتغيّر بعد حصولي على الدكتوراة. يمكن تلخيص هذا الأسلوب على النحو التالي: لا يمكن للمادة أن تكون مفيدة ما لم تكن مُشوّقة، ولا يمكن أن تكون مشوّقة ما لم تكن مُبسّطة، ولا يمكن أن تكون مفيدة ومشوّقة ومبسّطة ما لم يبذل المدرّس أضعاف الجهد الذي يبذله الطالب. كنتُ أقول للطلبة في المحاضرة الأولى إن رسوب اي منهم يعني فشلي في تدريس المادة قبل أن يعني فشله في استيعابها. كنت أقضي وقتاً طويلاً في التحضير: ثلاث ساعات من القراءة لكل ساعة في الفصل. لا يمكن لمدرّس أن يُعدّ محاضرة مشوّقة إذا اكتفى بقراءة كتاب واحد. سرعان ما يكتشف الطلبة الفرق بين محاضر حقيقي يشد انتباههم وبين محاضر يُردّد كالببغاء ما يجدونه في الكتاب المقرّر. التيسير والتعسير أو التشويق والتعقيد، هذا هو الفارق بين المدرّس الناجح والمدرّس الفاشل. علّمتني تجربتي الدراسية الطويلة أن المدرّس الذي يستطيع تبسيط المنهج يفتح أمام الطالب آفاقاً جديدة من المعرفة ويحثّه على الإستزادة منها. أما المدرّس الذي يتعامل مع مادته وكأنها لغز أو طلسم فإنه سرعان ما ينجح في جعل الطلبة يتعاملون مع المادة وكأنها بالفعل من الألغاز أو الطلاسم. أذكر أن مدرّساً في كلية الحقوق "هددنا" في أول محاضرة بأن نتوقع كتاباً لا يقل حجمه عن خمسمائة صفحة. عجيبٌ أمر مدرّسٍ يخوّف طلبته بحجم كتابه! ولم يترك الدكتور القصيبي الفرصة تمر دون أن يقدم بعض الإضاءات الاجتماعية التي تمس حياة كل انسان فيمرر ملاحظاته بين السطور كقوله مثلاً: كان الزواج البسيط، في تكاليفه ومظاهره، هو القاعدة المتبعة، بين المتعلمين على أية حال. كنا سنستغرب، ونستنكر، لو تزوّج أحد منا بأي طريقة أخرى. فيما بعد، جاءت الطفرة وأصبحت تكاليف الزواج ترهق الأغنياء وتقصم ظهور الفقراء. أدخل الناس أنفسهم في مأزق التكاثر والتفاخر هذا، وعليهم وحدهم، لا على الدولة ولا الوعّاظ ولا المفكرين، تقع مسؤولية الخروج منه. كما لم يترك المؤلف الفرصة للحديث عن انطباعات عامة عن زيارات لدول عربية وأجنبية، وملاحظات التقطها بسخريته المعتادة مثل اشارته الى شعارات ثورية لفتت نظرة خلال زيارة لليبيا ومنها شعار "لكل راكب مركوب"!