لم أكن لأكتشف غواية الحرف العربي إلا في الغربة. في أغلب المرات التي أحمل فيها ورقاً بحرف عربي في مكان عام، تصادفني مواقف طريفة بسببها، الى حد أنني بت أتراهن احياناً مع نفسي: أنني ضجرة وسأستدرج الآخرين بهذا الحرف. بعض الفضول يأتي من بريطانيين، وأحياناً من الغرباء الذين يسكنون هذه العاصمة المتعددة الإثنيات. سألني مرة رجل في القطار إن كانت لغة الكتاب الذي بيدي هي العربية؟... هززت رأسي بالإيجاب. قال أنه هندي، ثم طلب مني أن ينظر في الكتاب قليلاً. "هل أنت مسلم"؟... سألت فرد دون ان يرفع عينه عن الكتاب أنه هندوسي، لكن المسلمين في بلده يقرأون هذا الحرف. تركني في الدهشة والفضول وهو يبحلق في الكتاب. عمّ كان يبحث حينها؟... عن وجه طائفة لا ينتهي العداء معها؟ عن سرّ من أسرارها... ملمح من ملامح سيكولوجيتها؟. أعاد الكتاب بعد تفحص عميق في الحرف، مع ابتسامة شكر نمّت عن ارتياح كبير. مرّة أخرى، في الباص. لاحظت ان جارتي الممتلئة الجسم تبحلق في الكتاب الذي كنت أقرأ فيه. استرقت النظر اليها، كانت في ستينيات عمرها وتشبه أمي. وجه صبوح، ورأس مغطى بحجاب أبيض مربوط على شكل "إيشارب"، فخيّل لي أنها من بلاد الشام. ظللنا طوال الطريق نتسارق النظرات، هي الى كتابي، وأنا الى جسم يكاد يبدو أليفاً إليّ. عندما اقترب الباص من المحطة المطلوبة، أغلقت الكتاب استعداداً للنزول. لحظتها حكت جارتي بهمهمة. أشارت الى الكتاب مرددة: قرآن؟ قرآن؟. لم يكن التفاهم معها سهلاً. وبالكاد فهمت أنها تركية من قبرص. تبادلنا الابتسامات. كنت فرحة أنها تشبه أمي. وكانت بهجتها على ما يبدو، أنها شاهدت كتاباً بلغة كتابها المقدس... لم يكن السؤال قد خطر لي من قبل: هل لا زالت المصاحف في تركيا مكتوبة بالعربية، أم أنها تطبع بالحرف اللاتيني؟... تختصر اللغات بحروفها تجارب وجدانية، حتى بين غير الناطقين بها. وهذا ما حصل مع سيدة انجليزية، قاطعتني وأنا أقرأ جريدة "الحياة" في القطار. أشارت الى اسم الجريدة المكتوب بالإنجليزية أعلى الصفحة، وقالت أنها تعرف معنى كلمة حياة بالإنجليزية: "Life" رددت متباهية بمعرفتها، وأضافت أنه اسم علم مؤنث في اللغة العربية. كذلك عبّرت عن إعجابها بشكل الحرف العربي، خاصة عندما يُخط في اللوحات. ابتسمت باندهاش. لم لا أفعل وأنا أرى من يعرف شيئاً عن تراثي، وأنا الغريبة في هذه المدينة الواسعة!. "كيف عرفت كل ذلك؟".... سألت بفضول. "كنت على علاقة مع شاب عربي قبل سنوات طويلة. ومنه عرفت الكثير عن الثقافة العربية". أجابت السيدة الإنجليزية التي تجاوز عمرها الستين، وقد لمع بريق في عينيها. "نحن جميعاً نشترك في كوننا أهل ديانة سماوية"... أضافت كأنما لتؤكد لي قرابتنا الروحية. بعد ذلك، راحت محدثتي تسرد لي عن حياتها الخاصة، وعن معرفتها ببعض العرب الذي عملت معهم في الجامعة. قالت أنها لم تتزوج "لست نادمة. قد عشت حياة مليئة بالتفاصيل الجميلة"... ذكرت انها تقوم الآن على رعاية بعض كبار السن من خلال علاقتها بالكنيسة، فأثنيت على موقفها الإنساني. فجأة، أمسكت بكفي، وراحت تعبّر عن فرحتها الشديدة بالتعرف عليّ، وأنها ترغب في لقائي مرة أخرى. إلا أنني لحظتها كنت في لحظة تلبس للشخصية الإنجليزية الحذرة الباردة، فتجاهلت العرض. وكانت هي في حالة تلبس للإندفاع الشرقي العاطفي، فاستمرت تضغط على كفي بشدة، فرحة من اكتشاف تحصلت عليه خلال الرحلة القصيرة. ربما وجدت فيّ بعضاً من "ريحة الحبايب"!... لكنني كنت متوجسة من إندفاعها، خاصة عندما أخبرتني أن اسمها ميري بل. وهو ذات اسم المرأة التي حكم عليها بالسجن قبل سنوات بتهمة قتل الأطفال. مؤكد أنها لم تكن هي، فالأخرى أصغر سناً. لكنه التشاؤم من الإسم - وقد أكون أحمل شيئاً من براءة الطفولة -! ثم كان التخوف من عاطفة غير سائدة وسط شعب اشتهر بالبرود. من يتصور ان يعرف ملخص حياة انسان انجليزي، خلال عشرين دقيقة في القطار! حدثت معي، والمفتاح كان الحروف العربية، لولا الصحيفة ما كانت اكتشفتني ميري بل. اللغة المغايرة لما هو سائد، تثير التساؤل والفضول. قد يحدث هذا أيضاً مع أصحاب اللغات الأخرى الكثيرة في هذا البلد. إلا أنه بقدر ما تحمل العربية من وقائع جذب انتباه طريفة، غير مؤذية، فإنها تجذب في أحايين أخرى انتباه أشخاص غير مرغوب بهم. واحدهم يتحول فجأة الى رقيب، ومسؤول عن سلوكيات الناطق أو الناطقة بلغته. بعض هؤلاء من المتطرفين الذين لا يترددون في التعليق والنقد. لذا... في بعض الأمكنة، عندما أشتمّ رائحة أقارب اللغة، أخفي أثري، شيفرة السر الخاصة بهويتي، وأنشغل بمطبوعة انجليزية، فخلف حروفها يكمن ميراث من الديموقراطية، وحريات لا تحد في السلوك والتعبير عن الرأي. * كاتبة سورية مقيمة في لندن