«أين الغاندي الفلسطيني؟» يتساءل عدد من اليهود المحبطين من بلوغ النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني طريقاً مسدوداً. لكن السؤال هذا يوحي بانتظار معجزة من السماء لحل النزاع، ويشي بالرغبة في اضطرار إسرائيل إلى قبول السلام من طريق الإلزام الأخلاقي. فغاندي نجح في طرد البريطانيين من الهند، ومن شأن نظيره الفلسطيني أن ينجح في حمل إسرائيل على الانسحاب من الضفة الغربية. والحق أن سري نسيبة يفتقر إلى تأييد شعبي فلسطيني، وهو ليس الغاندي المنتظر، لكنه في كتابه الجديد يقترب من انتهاج استراتيجية غاندية. وهو لا يدعو إلى إنشاء إمارة على رأسها «أمراء» فلسطينيون عرب، بل إلى إنشاء «أرض أحرار يرفعون لواء مبادئ أخلاقية. وفي مثل هذا البلد، يسع الإسرائيلي أن يكون فلسطينياً شأن أي فلسطيني عربي!» والكتاب يحفل بمثل هذه الجمل الواعدة والغامضة. فإقرار الفلسطينيين ب «تعدد وجوه التاريخ العرقي والديني» في المنطقة يفترض القبول بدور اليهود. لكن ما يقوله نسيبة غامض، ولا يستطيع القارئ معرفة ما إذا كان هذا الكلام يعني قبول الفلسطينيين إسرائيل دولة يهودية. فهو يقول أن أكثر من صيغة للحل المنتظر: (حل) الدولة الواحدة، أو الدولتين، أو كونفيديرالية تحت راية بلد واحد أو بلدين أو ثلاثة. والنفي الخطابي هذا لدولة يهودية فيه شيء من الخفة يترافق مع نظرته المتسامحة إلى أعمال المؤرخ شلومو ساند الذي ذهب إلى نفي كيان الشعب اليهودي التاريخي. وكتابه هو أقرب إلى مانيفستو (بيان) ليبرالي، في وقت تميل الثقافة السياسية الفلسطينية إلى الانغلاق ومعاداة الليبرالية. فالليبرالية تفترض أن كفة الفرد تغلب على كفة الكيان الجامع سواء كان دولة أو عرقاً أو ديانة. وإذا فاقت أهمية الدولة وقيمتها قيمة أفرادها، «استحقت» الدولة الفلسطينية التضحية بعدد غير متناه من البشر، منهم على سبيل المثل الانتحاري وضحاياه. وخلص نسيبة من فظائع مرحلة الموجة الانتحارية، مطلع العقد الماضي، إلى أن احترام الحياة الإنسانية عوض انتهاكها والاعتداء عليها يفترض أن يكون حادي الفلسطينيين والإسرائيليين إلى طلب السلام العادل. لكن الخوف يحول دون سلوك طريق السلام، هو الخوف من توسل الآخر بالعنف إذا لم يسبقه إليه. والخوف هذا هو وراء اجتياح إسرائيل قطاع غزة وإراقة الدماء الفظيعة، ووراء تردد الإسرائيليين في الانسحاب من الضفة الغربية، على رغم الدواعي السكانية والسياسية التي تسوغ مثل هذا الانسحاب. فيبدو الاحتلال، وكلفته باهظة، أفضل من إنشاء دولة فلسطينية معادية على مقربة من إسرائيل. وعلى خلاف المثقفين الفلسطينيين، يبدو أن نسيبة يفهم شعور الإسرائيليين بالخوف. فالفلسطينيون لا يصدقون أن الإسرائيليين يعيشون في خوف متواصل، في وقت تحتكر دولتهم القوة ووسائلها. ويلاحظ نسيبة انتشار ميل ثقافي أو ديني يحمل الفلسطينيين على تقديم الموت على الحياة. وإذا ثبتت صحة الملاحظة هذه، استحال السلام بين الفلسطينيين واليهود، واستحال كذلك بروز المجتمع الفلسطيني الذي يسعى إليه نسيبة. وحريّ بالعرب واليهود تغيير مواقفهم تغييراً يطاول الذات العربية والذات اليهودية. و»نحتاج إلى صوغ الواقع لمنح الفلسطيني والإسرائيلي رؤية مختلفة إلى مستقبل واعد، رؤية مقنعة ونافذة إلى حد تتهاوى أمامها النزاعات الحالية»، يكتب نسيبة. والمشروع هذا روحي أكثر مما هو سياسي. ويلقي نسيبة مسؤولية التغيير على عاتق الفلسطينيين. ويستوحي تمييز حنا أراندت بين السلطان (القوة) والسلطة (الدالة والمكانة المعنوية)، ويقول: «السلطة، وهي قدرة طرف ما على استدراج تغيير سياسي يخدم مصالحه، هي في يد الفلسطينيين على رغم استتباع جهاز عسكري قوي لهم». وفي مطلع كتابه يقترح على الفلسطينيين العدول عن طلب السيادة والقبول بمرتبة مواطنين درجة ثانية من غير حق الاقتراع وحق الترشح إلى الانتخابات. ولا شك في أن نسيبة لا يأخذ الاقتراح هذا محمل جد. فهو من أول دعاة حل الدولتين، لكن اقتراحه هذا هو في مثابة تمرين «ذهني» للفلسطينيين واليهود على حد سواء. فهو يدعو أبناء جلدته إلى التفكير في أسئلة مثل هل يستسيغون دولة - واجهة أو «ديكوراً» أم يفضلون العيش حياة آمنة. وينبّه اليهود إلى أن دولة واحدة تميز بين مواطنيها تعيد إلى الأذهان نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا وتخالف مبادئ إسرائيل، ويحفزهم على التساؤل إذا كان مثل هذا النظام يسود اليوم في الأراضي المحتلة. * معلّق ومحرر، عن «تابلت» الأميركية، 8/2/2011، إعداد منال نحاس.