النكبة كناية في التوصيف، ومقامٌ في الفعل. وأنا، القائم على صوغ المعنى في نسبه الزمني، أسترشد بلسان الخيال في الاقامة أمام المرآة ذاتها - مرآة الحال الأولى للخسارة الصاعقة. كان علي أن أرث، أنا الذي لم أكن ولدت بعد، آن اقتسام التركة العربية، أصل المحنة عن فرع: غصن مخلوع من شجرة التين، مغموساً في ماء، يُنْبت جذوراً ويتأصل، هكذا أشرفت النكبة من عمري على ثمرها الناضج في راحات الأغصان. فإن فصّلتُ الأمر، بجسارة الايضاح الناقص، رأيت الى الذين مضوا أنهم كانوا يحدقون، من الكوى المتناثرة في منازل لوعتهم، في الأمل متدلياً مع مفاتيح بيوتهم من الأحزمة، فيما أنظر، أنا، من ثغرات الخسارة الى أمها المتألقة رحماً بعد أخرى: لقد اختبل الحكم، الذي وجه الخيال الى الميزان، ومرّغ الواضح في غبار المشكل. ليس لي بيت هناك نزحت عنه. لم يكن لي بيت هناك. لم تكن لي شجرات أجعل الحقيقة مكنستي لجمع زيتونها. لا تطاريز على وسادة في بيتنا حلمت حلم تطريز في بيت هناك. لم تغنّ أمي لدجاجاتها بحروف فيها أنفاس من الوقت متدلياً من حنجرة فلسطينية. ما من أحاديث عن بيارات موج وسواحل برتقال. ولدت في لغة لم تكن اللغة العربية. رضعتُ والهواء من ثدي شمال، تحت الرغيف الذي يقيم المكان في سمسمه اقامة الزيت، معتصراً في قبضة الشهوة. غير أنني لم أجد نفسي إلا نازحاً من المكان المقيم في اتجاه المكان القابض على أطراف غده النازح: كانت تلك استغاثة أعضائي بي لما تمزق ما يجعل العدالة سكينة أعضاء. وانتُهِب يقينُ الجهات فيَّ فمضيت استجمع من الحاضنين ذاكرة الشروق على حظائر خرافهم المقتولة، ما يدلني على مشرق قلبي. كنت، كأيّ، في الثقل المنتظر بزوغ امتلائه. كنت، كأيّ، فكرةً، فضاءً، فراغاً، فكرة يهتدي المكان إليها فينشأ الجسم الناطق، لأن الشكل حصالة المكان ناطقاً. لربما خيل لنظر العقل وجوب القياس على ثبوت المكان في الأطلسي، وصيرورة الجسد انتقالاً إليه، ومنه. وهو عِلْم يقصِّر عن أخذ الكيان الناطق على ماهية السعة والاحاطة. فالذي يجري في مثاقيل الوجود المنفصل العناصر والخواص يجري في العقل أولاً، كونه استولد النشأة من أرومة عمائها، وتعقَّب منها أجزاء نفسه، بعدئذ، في الموجودات. المكان، إذاً، يهتدي الى الكائن أولاً. وفي تخمين عقلي أن هكذا اهتدت إليَّ فلسطين التي لي، بخاصية حدوثها اشارة في عِلْمِ ما كُنْتُهُ. ولما كان العدل، مطلقاً بحساب النسبي، هو العافية الضرورية لقيام الكينونات بإبرام مواثيقها الأكمل، بشراً وجماداً وحيواناً، فإن اعتلاله في نسبة من شرعه يورث نقصاناً في استدلال الممكن بالانسان - تحديداً - الى أمل كونه. والنكبة، التي جرت مجرى اعتلال في عافية شعب، وعافية حلم - وهما نسبتان في صورة العدل وقوامه - حملت، في اهتداء المكان إليَّ، صيحة المعذّب، ولوعة المنتهب، فانسرب منه الى خيالي ظمأ الانشاء على تعويض المعنى ما أنقصه الخلل الحادث. وها أنا، في الانشاء المتدحرج من صورة الى صورة، من الحلم الى المشهد ومن المشهد الى الحلم، أرى الى الخسارة وأمِّها متألقتين رحماً بعد أخرى. كيف أعيد النكبة ذاتها الى صوغ هو معناها، الذي "كان" طارئاً؟ همّة اليقين أوجبت اشتغال جيلي، بآلات الأمل، على حصر النكبة في سياق أصل لا يتضاعف فيخرج على التطويق. حددت الأمتار الموصوفة على أطلس الممكنات، وشخّص ميل الشعاع في الاقتدار والإرادة. عبِّئ النشيد في الطلقة، ولُقِّمت الكلمات بندقاً من سلال الحرية، ثم هُرع الشهداء والمسَّاحون بمناظيرهم الى تخمين ما تبقى من مسافة المقاس وعمقه: انه إيمان استطلاع في حقل التين. النكبة تتوالد. مرآة ولود في معارج الرحم. مثل رقيق كمثل غصن التين: كل فرع سياقٌ أصلٌ. منذ خمسين عاماً، عقداً بعد آخر، تكتمل الشجرة كأمها، فيما حَبْل المساح، الذي بين يدي جيلي، على حاله طولاً، فلا يغدو مقتدراً على حصر ما يضاف الى الجغرافيا. خرجت النكبة، الآن، عن حصر المساحين لتصير كناية في التوصيف، ومقاماً في الفعل، وحالاً من أحوال الإعراب لا تستقيم اللغة إلا بها في محاورة الواقع، ومحاورة الوجدان المنكوب: بلدان "مفقودة" في الطريق الى استعادة المفقود الأول. شعوب نازحة عن منازل النظر الى القرار، باقامة مشروطة في اقطاعيات الأنظمة. نزوح للعقل الى الغُيابة بحدوث خلل عارض في قيادة الفكرة العادلة للواقع الى مكان واقعي. انتقال الفُتيا من العالم الى الجاهل. احتلال القتل سدّة القضاء في الاختلاف. تشريد الممكن بتعطيل القياس. توطين الجدوى بالذعر، وتعبيد المتاهة المشجرة على الجانبين بحروب الأهل. النكبة، التي جمعت المهمومين الى جناب العدل المشجوج بضمادهم، يتمزق صوغها - اليوم - في خطاب الجماعات، بإحالة النظر في المعنى الى قانون للصراع في منحيين: واقعي حتى الجهل بشؤون الواقعية وقوانين المجادلة فيها، وغيبي حتى تغييب المكان عن سيرورته مكاناً في العلم. وما بينهما تشخيصٌ "موعود" بحصاد من مفاتيح البيوت الأولى، المزروعة في حقول التين. ثمَّت، إذاً، "أكيد" شارد، خارج هذا، لا يصل الى مطابقة صورته مع الدّور، بالحجاب المنسوج من مواثيق تستثني أهل النكبة من دخول المشهد - الفضاء، "أكيد" لا يعتصر نفسه في الزعم بالصيرورة قانوناً للصراع، والقيام ب "الكل" تحقيقاً، لكنه لا يرهن المفاتيح على عتبة الغيب، أو على حجر في زقاق أرضي يقيم فيه بتصريح يُعفي الساكن من النظر الى نصف كينونته النازحة. وجيلي، القادم من مكيدة المكان المقيم في الوقت النازح، "المُعفى" من النكبة الذهبية فعوِّض بتقليده نكبات فضية في الفضاء، وفي اللغة، وفي المعنى، جيلي هذا يشهد نفسه "متصالحاً" مع التمديد الأخلاقي للخيال، تمديداً بلا أجل، كي يمتحن "حيلة" الحرية في حلمه المقذوف غيلة الى صوغه المروَّض. كل شيء مروَّض الآن، اليقين والمعنى مروَّضان. لا تتكلف المساءلة لوعتها الواجبة إذ يرى القلب الى اللاعبين الأغرار يرتبون الراهن الممزق ميثاقاً ممهوراً لافكاك من مرتبته، في سياق بخس الانشاء، ركيك حتى الطحن: انه الغدر، في الخمسين، منجباً بآلة الظمأ الى سلطان رث، حجابه، والمبشرين بمقاديره، والعدائين في حلبته، وحاملي العلف الى الدواب في اسطبله. غدر يبرم اتفاقه، ويفاوض على ترتيب نقصان الجسد في كمال الفخر بجدوى النقصان. غدر ترعرع، واشتد عظماً، في ظل كلماتنا التي ظنناها تلد القَسم بخاتمة أكثر عدلاً. غدر هيّأ المائدة لجلوس جيلي الى جليسته النكبة يجادلها في التمديد للأمل كي لا تغادر المشهد بعد خروج "المتعاقدين" على دورها المعذب. يا لقيامة النسيان: نحن من جيل سَهت عنه مواثيق الاقامة في مسقط حلمه. تمارين في السنة 1998، التي ولدت، منذ البرهة الأولى، كهلةً ناضجة، في الخمسين من عمرها: 1- أعنِّي قليلاً أيها المهادن خياله: هات فلسطين الصغيرة التي لديك أُعِد إليك خيالك بلا هدنة. 2- رجوتك، بحق الحروب التي تسلمتها معافاة ناضجة، أن تأخذ السلام معافى ناضجاً. 3- خيالك شديد الشبه بك أيتها الخيمة: حقول على أكتاف العدَّائين. 4- حدَّق الطفل في الصورة بعينين مهمومتين: طفل في المشهد المرسوم بالحبر الأسود، حافياً يحمل صرة، محمولاً على بياض في أفق بياض. كان الأب يشرح لطفله، على ورق الصحيفة القديمة، مفاليق الاشارات: "لم يعد له بيت". - فلنعطه أقلاماً، يا أبي، يرسم لنفسه بيتاً. "ربما" تمتم الأب. حمل الطفل أقلامه الملونة داخلاً الى الصورة المرسومة في صفحة الجريدة القديمة، لاحقاً بالطفل الآخر الشريد. 5- "ولدت في المنفى" قال الأول. "في الواقع لم تولد في المنفى" رد الثاني "المنفى ليس مكاناً، بل وقت". "ولدت في الوقت، إذاً" قال الأول. "هذا ما تراه" قال الثاني. "وما الذي تراه أنت، على التحديد؟ من أنت؟". "أنا مولدك".