أتحدث عن المهاجرين قسراً، المنفيين، المطرودين من بيوتهم، الذين كان عندهم بيوت وهُدمت، أتحدث عن الذين بلا مكان، والذين كان عندهم مكان وسُلب منهم، أتحدث عن الذين في العراء. المهجَّر المنفي المسلوبُ بيته الحالم ببيت ولا يكون له بيت لا يسكن في المكان، يسكن معزولاً في ذاته وينسج أخيلة بيوت. يبني حجارة خيال وغرف خيال وحديقة خيال وينام على سرير خيال.. الذي ليس له بيت، ليس له مكان، يسكن في الأخيلة. وهكذا، عشرات ملايين البشر يسكنون في خيال. فلسطينيون، عراقيون، لبنانيون، مهاجرون ومهجّرون من بلدان عديدة، يسكنون في نسيج أخيلة.. هكذا، إلى جانب البيوت التي لأصحابها في مدن العالم، ترتفع بيوت أخرى، مدن أخرى، ولكن من خيال. حين خرجوا، أو أُخرجوا من بيوتهم قالوا: سنعود. وحين حطّوا الرحال في لا مكانهم قالوا: سنعود. وبعد مضيّ سنوات في اللا مكان، وبعد مضيّ عشرات السنوات، ظلوا يرددون: سنعود. وماتوا في اللا مكان، وقُبروا في اللا مكان، وهم يحملون معهم خيال مكانهم. يقولون: سنعود. ويكرّرون مراراً: سنعود. فلماذا إذاً لا يعودون؟ الذي لم يبق له مكان في مكانه الأول، إلى أين يعود؟ لكن الذين بقيت لهم أمكنتهم الأولى لماذا لا يعودون إليها وهم يحلمون كل يوم في العودة؟ أم أن ما دفعهم إلى المغادرة لا يزال هو إياه ما يمنعهم من العودة؟ درب المغادرة صعبة لكن درب العودة قد تكون أصعب، وهي أصعب بالتأكيد للذين هاجروا، أو هُجِّروا من بلدانهم، ولا تزال بلدانهم هذه "تحتفظ" بأسباب الهجرة والتهجير لغيرهم أيضاً، فكيف بالعودة؟! وهكذا، في تلك البلدان، المكان الأول هو لا مكان أيضاً. في تلك البلدان، المقيمون هم مهاجرون. في تلك البلدان أصحاب البيوت غرباء، والمواطنون منفيّون. ... وهكذا، لا مكان لأحد، لا في الوطن ولا في الغربة، هكذا الأمكنة هي نسيج أخيلة. هكذا الأمكنة هي منافي. لدينا فقط مكان واحد، هو في ذاتنا. نسكن فيه أينما كنّا، في وطننا أو في الغربة. وهو مكان هيولي، مكان خيالي، نحاول نسجه، خيطاً خيطاً، كي يصير حقيقة، كي يصير مكاناً. لكنه يبقى مجرّد خيال. وهكذا نبقى بلا مكان. هكذا لا نسكن إلا في خيالنا.