هل الانشغال الاميركي، سياسياً واعلامياً وشعبياً، بفضائح الرئيس كلينتون ومتفرعاتها التي تتداخل فيها الاثارة والسفاهة، دليل حالة مرضية يعاني منها المجتمع والدولة في الولاياتالمتحدة؟ ام هل ان هذا الانشغال هو احد العوارض الجانبية للانتصار الاميركي الشامل في السنوات الاخيرة من هذا القرن؟ السؤال الذي يخطر في بال المتتبع للحالة الاعلامية السياسية في الولاياتالمتحدة هو: أليس لهؤلاء القوم امر ذو اهمية يشغلهم؟ اذ على الرغم من محاولات العديد من الصحف "المحترمة" وغيرها من وسائل الاعلام الرئيسية الاشارة الى الأبعاد "المهمة" و"المهمة جدا" في القضايا المتتالية التي يتخبط فيها رئيس البلاد، فإن المحور الأول في التحقيقات الاعلامية والمواقف السياسية يبقى الاهمام بمواضيع تليق بالمسلسلات العاطفية التلفزيونية اكثر منها بأخبار البيت الأبيض. غير انه يجوز ان يعاد طرح السؤال بصيغة معارضة: اي امر يستحق ان يستحوذ على اهتمام الصحافة والمجتمع الاميركيين؟ فالخطر الخارجي الذي شغل بال المواطن والمسؤول في الولاياتالمتحدة طوال الحرب الباردة قد زال بانهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية. والمحاولات لاجتراح خصم بديل قد تعثرت. فالبعض يريد ان يرى في الصين خطراً اصفر او احمر. والصين متهمة تارة بانتهاك حقوق الانسان وطوراً باعتمادها اساليب تجارية مشبوهة في علاقتها مع الولاياتالمتحدة، ومراراً وتكراراً بمحاولة التأثير على الممارسة السياسية الداخلية الاميركية. والبعض يهدد ويتوعد ان صين القرن الحادي والعشرين سوف تشهد نهضة اقتصادية عسكرية تقزّم تلك التي شهدها اليابان في القرن الذي تلى الحركة الاصلاحية في عهد "ميجي" اواسط القرن التاسع عشر. الا ان البعض الآخر يطمئن القلقين الى ان سياسة الطفل الواحد للأسرة الواحدة في الصين وهي السياسة التي تحظى بوافر المديح والتأييد في الولاياتالمتحدة من شأنها ان تقوّض هذه الآمال/ المخاوف اذ يجد جيل منتصف القرن القادم الصيني نفسه مسؤولاً عن اعالة جيلين سابقين يزيدان عنه اعداداً. فاستعمال الصين للتهويل يمكن توظيفه سياسياً، والجمهوريون يمعنون في هذا التوظيف لاحراج الرئيس كلينتون ويتحضرون لاحراج نائبه والمرشح العتيد للحزب الديموقراطي في الانتخابات الرئيسية المقبلة آل غور، الا ان التعبئة الشعبية المعادية للصين تبقى محدودة. والبعض الآخر اراد ان يجعل من "المد الاسلامي" خطراً بديلاً، لا سيما في اعقاب حرب الخليج ومتفجرة نيويورك والازمة المستمرة مع العراق وليبيا والسودان وإيران، فالتعبئة الشعبية المعادية للمسلمين والعرب متوفرة ووافرة. الا ان المد الاسلامي، من وجهة النظر الاميركية على الأقل، قد انحسر، وفي بعض الاحيان كما في الجزائر وأفغانستان اخذ يتآكل. فالخطر الاسلامي قد يطال بعض الواقع الاميركية في الشرق الأوسط، ولكن مخاوف بلوغه الولاياتالمتحدة نفسها قد تراجعت. وثمة قلة قليلة في الولاياتالمتحدة لا يسعها الاطمئنان الى ان الخطر الخارجي قد زال، وهذه القلة تتصيد المؤامرات وتحبكها روايات شيقة متداخلة متضاربة، الا ان ما يقارب الاجماع الضمني هو ان الولاياتالمتحدة قد استقرت في موقعها كالقوة العظمى الوحيدة والأحادية في العالم، وان نفوذها الى توسع لا الى انقباض، فمن افريقيا الى دول الاتحادالسوفياتي المنقرض، ومن اميركا اللاتينية الى دول الشرق الأقصى، تتوفر الفرص الجديدة لمزيد من الحضور والتأثير للسلطة الاميركية وقطاع الاعمال الاميركي على حد سواء. والعالم اليوم يعيش في خضم الباكس اميريكانا، سلام الامبراطورية الاميركية التي لا خصم لها ولا رادع لنفوذها. والى امس قريب، كانت الخشية لدى العديد من الاميركيين ان يكون ثمن النفوذ السياسي العسكري وهناً في القوة الاقتصادية وتراجعاً في القدرة الانتاجية. وكادت هذه الخشية ان تتحقق حين انهمرت المنتجات اليابانية والآسيوية عامة لتقتطع حصة لا يستهان بها من السوق الاميركية. وكأن المهزوم في الحرب العالمية الثانية قد حقق ثأره وجاء بسيارة الميتسوبيشي، لا بطائرة الميتسوبيشي زيرو، ليغزو المنتصر المفترض في تلك الحرب. ومع الهجمة اليابانية على السوق العقارية في الولاياتالمتحدة، عادت هواجس بيرل هاربور، بقناع اقتصادي، الى الخطاب الاميركي. فعقد الثمانينات كان عقد الخوف والبحث عن الذات في اوساط قطاع الاعمال الاميركي. وخلاله كاد التزام اساليب العمل اليابانية ان يمسي الزامياً في اوساط هذا القطاع وفي ما يتعداه من القطاع الاداري الرسمي الى القطاع التعليمي وغيرهما. الا ان عقد التسعينات ابطل مسلمات سلفه جملة وتفصيلاً. فالمعجزة الاقتصادية اليابانية انكمشت ثم انقلبت مرضاً عضال. وفيما كان تشخيص الامس ان التماسك والتجانس الاجتماعيين في اليابان وغيره من "نمور" الشرق الأقصى يوفران الأرضية اللازمة لانتاجية تعاضدية ثابتة ويجعلان من النموذج الآسيوي اسلوباً فذاً يجدر الاقتداء لتحقيق نهضة اقتصادية، انتقل الحديث اليوم الى مساوئ هذا النموذج الذي يمنعه تماسكه من الاقدام على التضحيات التي يتطلبها النظام الرأسمالي ويحرمه تجانسه من الضخ السكاني من الدول المصدرة للمهاجرين الكفوئين. وعقد التسعينات هو دون شك عقد العودة الاقتصادية الاميركية. فالبطالة عند حدها الأدنى، والعجز في الموازنة يتقلص، والتضخم مضبوط، والنمو مستمر، والأسواق المالية في اعياد مستمرة منذ مطلع العقد. وفيما تسارع حكومة الرئيس كلينتون الى ادعاء الفضل في تحقيق هذه العودة، فإن الجمهوريين يعتبرون ان كلينتون يحصد ما زرعه سلفاه بوش وريغان ليس الا. وفيما الابهام يبقى السمة الأولى للوصفة الديموقراطية او الجمهورية التي أدت الى هذه النهضة، فإن نتيجتها في العديد من الاوساط الاميركية هي الاطمئنان الى صحة اقتصاد الولاياتالمتحدة واستمرارية موقعه في الطليعة عالمياً. فالاقتناع باستتباب المسألة السياسية الخارجية والمسألة الاقتصادية المحلية والدولية لصالح الولاياتالمتحدة قد ولّد بالفعل زخماً جديداً في الروح الوطنية الاميركية. وفيما تشهد ذكرى الاستقلال في الرابع من تموز من كل عام مظاهر التعبير عن هذه الروح الوطنية، فان وتيرة الاحتفالات في الاعوام الاخيرة قد تميزت باقبال متعاظم على المشاركة الشعبية. "اميركا الجميلة" قد انتصرت بنظر العديد من المواطنين الاميركيين، انتصرت بديموقراطيتها عسكرياً ثم سياسياً على الفاشية وعلى الشيوعية، وأثبتت صحة النموذج الرأسمالي القائم على الفردية ازاء المنافسة الرأسمالية الآسيوية. المفكر فرانسيس فوكوياما كان من المبكرين، في مطلع هذا العقد، في اعلان الانتصار الاميركي الذي، وفق عبارته، قد بلغت معه البشرية "نهاية التاريخ". فالتاريخ قد انتهى، وانقلب رئيس الولاياتالمتحدة سلوى اخرى يتابعها المواطن الاميركي كل ليلة على شاشة التلفزيون. ولكن طبعاً، لا التاريخ انتهى، ولا الباكس اميريكانا من الحقائق الابدية. وكما كان من الصعب بالأمس استقصاء مواطن العلل في الدول الآسيوية ساعة تألقها، فانه ثمة تغاض نسبي، اعلامياً وسياسياً وشعبياً، عن المسائل العديدة التي تتجذر وتتفرع في جسم المجتمع الاميركي اليوم. المجتمع الاميركي يعاني بدوره سكانياً من انخفاض في معدل الولادات، ويعتمد على الهجرة للتعويض، مع ما يستتبع ذلك من تجاذبات ثقافية وعرقية. والأسرة الاميركية، بقدر ما تستفيد من الرخاء الاقتصادي، تتعرض في وسطه كذلك لقدر ملحوظ من التفكك، اذ يزداد اعتماد الاجيال المسنة على الدعم المالي والصحي من الجهات الحكومية. الا ان هذه الاجيال الى ازدياد، والدعم قد يتقلص في حال طرأ تراجع على الحالة الاقتصادية. والحديث عن الرخاء الاقتصادي، والاطمئنان اليه، يتجاهل كذلك قطاعات واسعة من المجتمع الاميركي تتراجع مختلف الاحوال فيها. فالسهول الكبرى في وسط البلاد مثلاً تشهد تقلصاً سكانياً وانحطاطاً اقتصادياً واحباطاً نفسياً. والمجتمعات المدينية التي يكثر فيها الافارقة الاميركيون تتخلف عن اللحاق بركاب الرخاء المفترض. فهذا الرخاء يؤدي اذن الى مضاعفة الفرز العرقي والمناطقي، ومن ثم العقائدي والديني. والانفصام الثقافي الذي استفحل في الولاياتالمتحدة ابتداء من الستينات ما زال يتفاقم، لكن "الحرب الثقافية" هي اليوم حرب باردة، حيث يدرك كل من المعسكرين المحافظ والتقدمي ان الجمهور المطمئن الى الانتصار الاميركي الداخلي والخارجي يميل الى الابتعاد عن المعارك السياسية والعقائدية. فالفترة الحالية هي مرحلة استعداد يجهد فيها كل من الفريقين الى تعزيز البنى المؤسساتية التابعة له، وتحقيق ما تمكن من المكاسب الجانبية الاشتراعية. ومعظم الجمهور الاميركي اليوم يفضل بطبيعة الحال استهلاك تفاصيل مغامرات الرئيس بدلاً من الانشغال بمسائل نظرية لم تتحقق مخاطرها، وقد لا تتحقق. وإذا كان مقدار التمحيص والتدقيق بتفاصيل الفضائح معياراً لمدى الابتعاد عن هذه المسائل النظرية، وبالتالي لمدى الاطمئنان الى عمق الانتصار الاميركي، فلا شك ان الرأي السائد في الولاياتالمتحدة هو ان الانتصار هو بالفعل، كما يرى فوكوياما، انتصار نهاية التاريخ. * كاتب لبناني مقيم في بوسطن.