الفرح المكبوت لدى أوساط السياسة الاميركية الخارجية تجاه التطورات في ايران بدأ يتضح اكثر فأكثر. كان رد الفعل الاول لمتخذي القرار في واشنطن على التصريحات الآتية ن رأس النظام الايراني المنتخب سيد محمد خاتمي متحفظاً، ثم بدأ بالانفراج جزئياً في الآونة الاخيرة، والعقبة الايرانية بالنسبة الى سياسة الولاياتالمتحدة في الخليج كانت عقبة اساسية في تعطيل بعض السياسات الاقليمية وايضاً مصدر احراج لحلفاء الولاياتالمتحدة في الخليج، ومصدراً للقلق الامني في آن. فالخلاف المستحكم منذ ان تفجرت الثورة الايرانية سنة 1979 بين الولاياتالمتحدةوايران، نتيجة التراكم التاريخي للعلاقات بين البلدين وما شابها من صيغ العمل السياسي، وسمت العمل السياسي الاقليمي في الخليج بالاضطراب. اذ أعلن المتشددون في ايران ان ثورتهم هي للتصدير تجاه الاقليم العربي والخليجي خصوصاً، وبدلت الثورة في عنفوانها شعارات تقليدية اسلامية من حرب الكفار الى نصرة المستضعفين. ويدخل تحت هذه التسمية العديد من التصنيفات منها المستضعفون المسلمون كما تراهم طهران في ذلك الوقت. ولقد شهد معظم العقدين السابقين خلافاً وتنافراً شديدين في اكثر من ساحة، سواء في الخليج أو في لبنان، بين ما يراه الايرانيون صحيحاً وما يراه المجتمع الدولي استقراراً. ولم تكن ايران بعيدة في هذه الفترة المضطربة عن تحريك بعض الجماعات الغاضبة، كل منها تبعاً لأسبابها الخاصة، لاشاعة الاضطراب في المنطقة العربية وما خلفها، بل كان شهر شباط فبراير من كل عام شهر انتصار الثورة الايرانية توقيتاً مناسباً لكل الغاضبين للاجتماع وتبادل الرأي في طهران وبرعاية رسمية. وفي الجانب الساخن كانت فترة احتلال الكويت وتحريرها فترة الازدواجية الايرانية. فرغم الموقف الظاهر للسياسة الايرانية بشجب العدوان والمطالبة بالانسحاب العراقي من الكويت، فانها في العلاقة مع اميركا ورغم الضرر البالغ الذي ألحقه النظام العراقيبإيران، كانت تشجع العراقيين في الخفاء للوقوف في وجه "غطرسة الشيطان الاكبر"، الامر الذي جعل العراقيين يطمئنون الى ارسال طائراتهم للاختفاء في ايران. ولو نظرنا الى الكتابات الصحافية الايرانية في فترة لاحقة، أي إبان فترة هروب نسيب صدام حسين، حسين كامل وأخيه الى الاردن في صيف سنة 1995 لعرفنا درجة تخوف الايرانيين وقتها من أي تغير في العراق يعتقدون أن وراءه الولاياتالمتحدة، بل ان اطرافاً في المعارضة العراقية مرتبطة بايران سربت بعض الخطط الانقلابية التي كانت تعرف عنها لاحداث تغيير في العراق فقط لأن ايران لا ترتاح الى احتمال حدوث تغيير في العراق بوجه تعتقد انه أميركي، الى هذا الحد كانت إيران على استعداد للعيش مع شيطان اصغر خوفاً من تأثير شيطان اكبر. الا ان التغيرات الاخيرة في ايران لافتة للنظر، جوهرها الظاهرة الخاتمية في ايران، وظاهرها نوع من الدهشة المتحركة، فمنذ أيار مايو الماضي وقت انتخاب سيد محمد خاتمي، اذ ربح الانتخابات على قاعدة الاصلاح السياسي، امام مرشح مدعوم من مراكز الثقل المحافظة، وحتى حديثه الاخير في رسالة الى الشعب الاميركي الذي بث من محطة "سي. ان. ان"، كان القرار الاميركي متردداً في توصيف الظاهرة الخاتمية هل هي موقتة أم دائمة؟ وهل يستطيع خاتمي وفريقه تنفيذ بعض الوعود التي جاهر بها إبان الحملة الانتخابية أم أن القوة المتشددة في ايران هي التي بيدها القرار النهائي في الحل والربط؟ كان الجدل في الاوساط السياسية والديبلوماسية الاميركية مرتكزاً حول سؤال مفاده هل يجري الاتصال بادارة خاتمي لجس النبض، أم ان هذا الاتصال سيؤلب عليه القوى الاكثر تشدداً في الداخل، وبالتالي تقوم احدى الفرق المتشددة بالاعتداء الاستفزازي على أحد أو بعض المصالح الاميركية ووقتها ماذا يكون الرد؟ لا بد ان يكون رداً على ايران الدولة ليس غير؟ وكان الجواب الاول على هذه الاسئلة هو اتباع الديبلوماسية الهادئة، فكان ان كتبت وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت الى الرئيس الجديد فور حلف اليمين الدستورية في آب اغسطس الماضي، الا ان الرئيس الايراني الجديد لم يستطع أو لم يسارع بالرد على تلك الرسالة المبكرة. مؤتمر القمة الاسلامية وقراراته ثم حديث خاتمي المتلفز في رسالة الى الشعب الاميركي والذي قارب في بعض اجزائه نبرة الاعتذار عما حدث في ازمة الرهائن الاميركيين في العاصمة الايرانية في خريف سنة 1979، وما أبداه من احترام عميق لقيم الشعب الاميركي، واشارته لتمثال الحرية كرمز من رموز الحرية الانسانية، وطرحه لخيار الحوار الثقافي من بين أمور أخرى في ذلك الحديث، لم يحسن الرئيس فقط التعامل مع القيم السياسية، بل أجاد في التعامل ايضاً مع الرموز القريبة الى قلوب الاميركيين. التطور الاهم من وجهة النظر الاميركية ليس فقط في ما قاله خاتمي بل ايضاً في رد الفعل الايراني الداخلي، اذ وجد ما قاله ردة فعل سلبية ضعيفة لم يستطع المتشددون خلالها الا نقد بعض العبارات، وهذا يعني ان الظاهرة الخاتمية في ايران هي ظاهرة ايرانية عامة وليست منعزلة لكنها بالطبع ليست مطلقة القوة، وخير دليل على ذلك تصريحات مرشد الجمهورية الاسلامية آية الله علي خامنئي التي اعلن خلالها - بعد رسالة خاتمي للاميركيين - انه لا حوار مع اميركا ورهائن السفارة كان يجب اعدامهم. بشكل عام، يبدو ان الرئيس خاتمي قد حمل معه نبض الشارع الايراني واستطاع بجهد ان يقود التغيير، ولقد خدمه الحظ ايضاً فقد خرجت جموع الشعب الايراني في تشرين الثاني نوفمبر الماضي من دون تنظيم للاحتفال بالنصر الكروي، ووصول الفريق الايراني لكرة القدم الى التصفيات الدولية لكأس العالم، والمرة الاخيرة التي وصل فيها الفريق الايراني لذلك كانت سنة 1978 سنة الثورة وهاك هي سنة الثورة الثانية، ولكن هذه المرة بزيادة مرضية للكبرياء اذ ستتضمن لقاءات الفريق الايراني مقابلة الفريق الاميركي في فرنسا، وزادت الادبيات الديبوماسية مفهوماً جديداً فبعد ديبلوماسية البنغ بونغ جاءت ديبلوماسية كرة القدم. وليس اكثر تحمساً لوصف الظاهرة الخاتمية بالظاهرة الايجابية اكثر من أهل الضفة المقابلة للخليج وأقصد بها نحن العرب القريبين من ايران، لأن هذه الظاهرة ان تطورت وثبتت، تعني ضمن ما تعنيه ان الديموقراطية وان كانت في بعض اوجهها منتقدة، تعمل بفاعلية في ايران، وان الشعب الايراني قد مل العنف والتظاهرات والزعيق، ومال الى ما كان يميل اليه دائماً من بناء الحضارات وتشييد التنمية، ولم تنضج ثورة بمثل الثورة الايرانية في الوقت القصير الذي نضجت به في المرحلة الخاتمية. وعلى رغم ان ايران احرقت اكثر من اصبع سياسة في الولاياتالمتحدة، من المساعدة في هزيمة جيمي كارتر وحرمانه من الوصول الى سدة الرئاسة للمرة الثانية، الى فضيحة ايران - كونترا، وقت ادارة ريغان - بوش. حتى ان تكونت لدى الاميركيين ولا سيما السياسيين منهم، عقدة "الايران فوبيا" الامر الذي اصبح من السهل بعده ان يمرر السناتور الجمهوري ألفانسو داماتو في سنة 1995 قانونه المشهور "قانون داماتو" الذي بموجبه حرم على الشركات الاميركية الاستثمار في ايران، وذهب الى أبعد من ذلك في تجريم الشركات العالمية ايضاً وحرمانها من العمل في الولاياتالمتحدة ان قامت بذلك، إلا ان موقف خاتمي بعث الامل ليس في اختراق بل في قلب ذلك القانون ايضاً، وفتح طاقة الامل لعلاقات متوازنة بين ايران والعالم. خليجياً، يعني موقف الاعتدال الايراني تعديل وضبط الملفات العالقة بين دول الخليج وايران وفتح باب الحوار المقلق على مصراعيه. ومن ضمن القضايا العالقة خليجياً الموقف من العراق النظام العراقي. اذ كان الموقف الايراني المساير للعراق حتى الآن هو موقف القبول بالسيء خيراً وخوفاً من الأسوأ. فالعراق بعد حرب ثماني سنوات دامية لا يزال يحتفظ بعدد من الاسرى الايرانيين، ويحتضن ايضاً مجموعة معارضة قوية هي "مجاهدين خلق"، وان زال الخوف الايراني من نيات الولاياتالمتحدة المعادية زالت الحاجة لمجاملة النظام العراقي، بل اصبح ملحاً ان ينظر العراقيون الى ما يحدث في ايران من انفراج ديموقراطي على انه أمل واجب التحقيق لمستقبلهم، وينظر الايرانيون الى ما يحدث في العراق على انه أسوأ انتهاك لحقوق الانسان المسلم. وليس سراً، من جهة أخرى، ان ايران كانت لها في الماضي تدخلات في الشأن الداخلي في البحرين بعدما حسمت على زمن شاه ايران المطامع الايرانية الاقليمية في السبعينات بالاعلان عن ارادة الحرية لدى الشعب البحريني وباشراف الاممالمتحدة. وكلما وصلت ايران الى حقيقة ان مشكلات البحرين يحلها البحرينيون انفسهم، كان ذلك ادعى للاستقرار في المنطقة. اما القضية الاخرى التي لم تثر على نطاق واسع - حتى الآن على الاقل - فهي ما قيل عن مطالبة ايرانية بعشرة في المئة من الغاز القطري في البحر، وهي مطالبة اقتصادية قدمت بخجل وبحذر كما يقول بعض المصادر المنشورة اخيراً. وتبقى قضية القضايا والاكثر حدة بين ايران وعرب الخليج، وهي قضية الجزر الاماراتية في الخليج، ابو موسى والطنبين الكبرى والصغرى، وهي قضية طالبت دولة الامارات بعرضها على التحكيم الدولي. وهو مطلب معقول ومتحضر وتستطيع الادارة الايرانية الموافقة عليه من دون اراقة ماء الوجه. مجمل هذه القضايا يمكن حله ان استطاعت ايران ان تسير قدماً بالخط الذي بدأ برسمه السيد محمد خاتمي، ولعله ايضاً كان واقعياً عندما بدأ بالانفراج من فوق، اي مع القوة العظمى، فعصرنا هو عصر الولاياتالمتحدة الاميركية التي اقتنع ايضاً سياسيوها بأن هناك حلولاً وسطى غير الغزل والاحتواء يمكن تجربتها مع الثورة الخاتمية الايرانية. ولعل نتاج الاطمئنان المتبادل هو الاتفاق على التغيير في العراق لمصلحة استقرار المنطقة. لا أريد ان أسهل القضايا وأخرج مع القارئ بانطباع ان الامور تسير سيراً حثيثاً الى الانفراج بين الولاياتالمتحدةوايران، اذ لا تزال هناك عقبات كبيرة امام الانفراج الكامل، عالمياً هناك ملفات التسلح بالاسلحة غير التقليدية، وهناك خلاف عميق وقديم بين الولاياتالمتحدةوايران، وهناك اقليمياً الشهوة الى التدخل في الشؤون الداخلية، وبسرعة حل المشكلات العالقة بالقوة. إلا ان الظاهرة الخاتمية تستحق الرصد والمحاورة، والخطو نحوها لبنا الثقة هو التفكير الاسلم، ولعل الاخبار المتواترة من دعوة الرئيس خاتمي الى ندوة دافوس الشهيرة في شباط فبراير المقبل في سويسرا هي الخطوة الصحيحة بعد النجاحات التي حققها لايران اقليمياً واسلامياً لخوض تجربة جديدة في الحوار الدولي، ويبقى علينا ان ننتظر التطورات الايرانية الاميركية التي نرجو ان تكون ايجابية.