تابع رئيس حكومة اسرائيل بنيامين نتانياهو والناطقون باسمه خلال الأسابيع الماضية اصدار التصريحات عن "تضييق شقة الخلاف" بين موقف اسرائيل ومبادرة الادارة الأميركية التي تطالب بانسحاب اسرائيلي يشمل 13.1 في المئة من أرض الضفة الغربية. لكن هذه التصريحات أبعد ما تكون عن مؤشرات الى اتفاق قريب بين اسرائيل والفلسطينيين، بل انها تشكل غطاء للاعتراف الرسمي الذي لا بد ان يتبع ما حصل فعلا: انهيار عملية أوسلو للسلام، بكل ما حملته من آمال عند بدايتها قبل خمس سنوات. أضاعت الادارة الأميركية سنتين متمسكة بالأوهام عن "النوايا الحقيقية" لنتانتاهو وما افترضته من "واقعيته" والتزامه كل التعهدات التي قدمتها اسرائيل ضمن اتفاقات أوسلو، وهي الفترة التي استغلها رئيس وزراء اسرائيل لشن حرب ضارية على هذه الاتفاقات بهدف القضاء على عملية السلام. وعلينا ان نسجل له نجاحه الباهر في استنزاف كل الأطراف -- الاسرائيليين والفلسطينيين والأردنيين والمصريين، واخيرا الأميركيين - وايصالهم الى حد الاشمئزاز من العملية. لكنه، للأسف، "نجاح" سيكلف الولاياتالمتحدة والاسرائيليين ثمناً فادحاً. ليس من أمل في تحسن مهما كان ضئيلا لإمكانات السلام، حتى لو وافق نتانياهو في اللحظة الأخيرة على الاقتراح الأميركي. اذ انه "استاذ" في فن تجنب تنفيذ الاتفاقات التي تحمل أي أمل بتلبية مطالب الفلسطينيين والقاء تبعية عدم التنفيذ على الفلسطينيين أنفسهم. وها هو قد اتخذ الاستعدادات الكاملة لذلك من الآن، من خلال اعلانه الأخير عن ان اسرائيل على وشك القبول بالاقتراح الأميركي، لكن المشكلة هي رفض الفلسطينيين لمبدأ التكافؤ، اي تنفيذ التزاماتهم مقابل التنفيذ الاسرائيلي. استعمل نتانياهو هذا التكتيك مراراً خلال السنتين الماضيتين للتغطية على انتهاكات حكومته لالتزاماتها، من ضمن ذلك عدم السماح بافتتاح مطار وميناء في غزة، وربط القطاع بالضفة الغربية من خلال ممر آمن، واخلاف الوعد باطلاق السجناء الفلسطينيين، وأيضا، وهو الأهم، الخطوات الاسرائيلية من جانب واحد في القدسوالضفة الغربية، مثل مشاريع الاسكان وتوسيع المستوطنات وشق طرق رئيسية استباقاً لمفاوضات الوضع النهائي. لا أمل حالياً بالتقدم في قضايا الوضع النهائي الحدود، القدس، اللاجئون، المياه حتى اذا اعاد نتانياهو نشر القوات الاسرائيلية حسب الاقتراح الأميركي. ذلك لأن من المستحيل الآن، حتى لو توفر بين الطرفين قدر كبير من حسن النية، انجاز المفاوضات في الموعد الذي حدده اتفاق أوسلو، أي أيار مايو 1999. لكن لو كان هناك حسن نية لأمكن تمديد فترة التفاوض. أما في الظروف الحالية، حيث يسود العداء وعدم الثقة العميق، وتصر حكومة اسرائيل على معاملة الفلسطينيين ليس كشركاء في عملية السلام بل كارهابيين متخفين، فلا يستبعد ان يكون موعد أيار 1999 بداية لانهيار يعيد المنطقة الى الصراع والعنف الذي وسمها منذ نحو نصف قرن. احتمال النتائج الكارثية هذه، ان لم يكن ترجيحها، يأتي من جانب الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية نفسها. وكانت الاستخبارات استنتجت الصيف الماضي بأن احتمال الحرب في 1998 ضئيل، ولم تتوقع صدامات جدية مع السوريين والفلسطينيين. لكن تقريرها الحالي يتحدث عن تصاعد خطير لامكان الحرب في 1999. وتخلص الاستخبارات الاسرائيلية الى القول ان استمرار الجمود السياسي قد يؤدي الى صدامات رئيسية مع الفلسطينيين والسوريين، وفي هذه الحال، ليس هناك ما يدعو الى الاعتقاد ان معاهدتي السلام مع مصر والأردن ستصمدان امام العاصفة. حذرت صحيفة "هآرتس"، وهي من بين الأهم في اسرائيل، قبل أشهر من أن وضع اسرائيل الحالي يذكّر في شكل مخيف بالمرحلة السابقة على حرب 1973: "الكارثة التي نتجت عن الجمود الديبلوماسي، والثقة بالنفس التي تصل الى الغرور، واحتقار الغريم العربي، وشعب يتبع قادته بلا مبالاة. لا نحتاج الى الكثير من الخيال لنرى كيف ان مسيرة الحمق الحالية تعيد اسرائيل الى سفك الدماء الذي كان سببه العمى الشامل السابق". كان يمكن لجهود ديبلوماسية اكثر حزما ان تأتي بنتيجة. لكن هذا، للأسف، لم يعد واردا. فشل الديبلوماسية الأميركية وعودة العنف سيصيبان المصالح الأميركية الرئيسية في الخليج وغيره من الأمكنة في الشرق الأوسط بأضرار كبيرة، وهو ما سيكشف سخف قول الادارة أن "ليس للولايات المتحدة ان تريد السلام أكثر مما تريده الأطراف نفسها". الضرر على اسرائيل من العنف الذي قد يتبع انهيار عملية السلام سيكون أفدح، مع الانتشار المتوقع للصواريخ وأسلحة الدمار الشامل. واذا صحت توقعات الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية فلن يكون امام اسرائيل من تلومه سوى نفسها. دأبت اسرائيل على وعظ الجيران العرب عن كونها الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. انها كذلك فعلا. لكن ما يميز الديموقراطية هو قدرة المواطنين على رفض سياسات القادة واستبدالهم بغيرهم، خصوصا في الأنظمة البرلمانية مثلما في اسرائيل، حيث يمكن للكنيست اخراج رئيس الوزراء من السلطة. لكنهم لم يقوموا بذلك، ولذا لن يستطيعوا مطالبة الآخرين بالمساعدة على النتيجة التي ادى اليها عدم قيامهم بالخطوة. اذ لا يمكن ان ترفض الجهود الديبلوماسية الأميركية باسم "الديموقراطية الاسرائيلية"، ثم تطلب من أميركا التدخل لانقاذ "الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" في الصراع الذي اطلقه رفض الجهود الأميركية أصلا. * زميل متقدم في "مجلس العلاقات الخارجية". المقال يعبر عن رأيه الخاص