في وصف الشيخ عبدالرحمن الجبرتي ليوميات الحملة الفرنسية ووقائعها تبدو مصر، بمدنها وأنحائها وقراها، متفرّقة متضعضعة ولا قوة تشد أجزاءها بعضاً الى بعض. فمنذ أن أخلى أهالي القاهرة مدينتهم خائفين مذعورين تلّقاهم، هناك في ظاهر المدينة، من سلب أموالهم ومتاعهم وطعامهم. لم يكن هؤلاء من الفرنسيين بل من القبائل المرابطة حول المدينة. في داخل القاهرة نفسها، وفي الاسكندرية من قبل، بدأ السلب والنهب والتقتيل منذ أن سُمع دويّ الإنفجارت وشوهدت أولى الحرائق. وقبل وصول الحملة كان جيشا مراد بك وابراهيم بك قد اتخذا من أحياء المدينة مسرحاً لمجابهاتهما التي كادت تكون يومية والتي، هي أيضاً، كان يُقتل فيها ناس كثيرون. ممثلو طوائف المدينة وتجارها وعلماؤها، هؤلاء الذي سعى بونابرت من يوم دخوله الأول الى تشكيل مجلس منهم ليحلّ محلّ حكام المماليك وأمراءهم، كانوا، قبل الحملة، قد وجدوا سبيلاً الى التعايش مع قواد العساكر هؤلاء. كأن مصر، في كتاب الجبرتي، تضم تشكيلات أهلية واجتماعية باقية من مجتمعات مستقرة سابقة وها هي تعيش، حقبة تراجعها الأخيرة. لكن في مقابل هذه الصورة لمصر، أو ربما جنباً الى جنب معها، كان الشعور المعادي للدخول الفرنسي قوياً متأصِّلاً الى حدّ أن مراد بك مثلاً، الذي كان يرى الى القاهرة مدينة للإستحواذ والغُنْم، لم يتوقف عن محاربة الفرنسيين جولة بعد جولة وغزوة إثر غزوة، ومناوشة إثر مناوشة في آخر المطاف. المؤرخ كريستوفر هيرولد يصف حال قرية مصرية وقعت في طريق الجيش الفرنسي الذاهب الى عكا فبدت، في ما فعله أهلها بنسائهم وبناتهم خشية وقوعهن سبايا بأيدي الفرنجة، كأن عصبية المعاداة تفوق في قوتها قدرة هؤلاء وطاقتهم. كأن الفرنسيين يأتون غازين من تاريخ لم يشهده أحد منهم لكنه موجود، حاراً، في ذاكرتهم الجماعية ومخيلاتهم. رأوا في الحملة الفرنسية حملة صليبية أخرى مع أن بونابرت كان أكثر مواربة هذه المرة وأقل دعوية وجهادية. إن احتاج الأمر أن يقول أنه على دين الإسلام لم يكن يجد حرجاً في قول ذلك وإعلانه. ثم إنه، الى جيشه المحارب المدجّج بالسلاح الحديث، اصطحب معه في حملته "جيشاً من العلماء" يرى البعض أنه غازون هم أيضاً، بينما يرى بعض آخر أنهم أداروا مصر، والبلدان التي حولها، الى جهة الدوامة الحضارية التي ما زالت آثارها فاعلة الى الآن. بعد سنوات قليلة على الحملة أقام محمد علي دولته الحديثة في مصر من دون أن تكون متوافرة آنذاك أنماط ونماذج كثيرة للحداثة. رفاعة الطهطاوي، بعد نحو ثلاثة عقود على الحملة كتب عن باريس التي أقام فيها ثلاث سنوات مكتشفاً ومنبهراً في الوقت نفسه. هذا فيما ما فتئت تنهض، منذ أيامه وما قبلها، روايات ومواقف بالغة العداوة. الحملة الفرنسية التي أحدثت تلك الصدمة الهائلة في وعي المصريين وسواهم من المجاورين لهم لم يُتّفق لوصفها على رواية واحدة، حتى بين متلقّيها أنفسهم. بين الفرنسيين والمصريين الآن، في أثناء ما كانت تُجرى التهيئات للإحتفال بالذكرى، أو لاستعادتها، كان يصعب الوصول الى تعريف مشترك يتفق حوله الطرفان. كما بدا أن من الصعب الوصول الى ذلك حتى في داخل مصر نفسها الآن، بعد انقضاء قرنين كاملين. في مناسبة الذكرى أعدت "الحياة" ملفاً تنشره في هذه الصفحة تباعاً.