إطلاق 80 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الأمير محمد بن سلمان    انطلاق المؤتمر الدولي لأكاديميات الشرطة    السعودية الأولى خليجياً وعربياً في مؤشر الأداء الإحصائي    «الجناح السعودي».. ينطلق في «الصين الدولي للطيران والفضاء»    وزير الخارجية: حل الدولتين السبيل الأوحد لتحقيق السلام    «الرابطة» تُرحِّب بقرارات القمّة العربية والإسلامية    رئيس بولندا يشكر خادم الحرمين وولي العهد    الفرج يقود الأخضر أمام «الكنغر»    إسناد التغذية والنقل ل«جودة الخدمات» بإدارات التعليم    «التقني»: إلغاء إجازة الشتاء وتقديم نهاية العام    إحالة ممارسين صحيين للجهات المختصة.. نشروا مقاطع منافية لأخلاقيات المهنة    وزير الداخلية يرعى حفل جامعة نايف وتخريج 259 طالباً وطالبة    5 مشاهير عالميين أصيبوا بالسكري    في بيتنا شخص «حلاه زايد».. باقة حب صحية ل«أصدقاء السكري»    ماذا لو نقص الحديد في جسمك ؟    المملكة تحذر من خطورة تصريحات مسؤول إسرائيلي بشأن فرض سيادة الاحتلال على الضفة الغربية    الأهلي يطرح تذاكر مواجهته أمام الوحدة في دوري روشن    غارات إسرائيلية عنيفة على ضاحية بيروت    الذهب يستقر قرب أدنى مستوى في شهر مع انتعاش الدولار    سعود بن نايف يستقبل أمين «بر الشرقية»    أمير الرياض يستعرض إنجازات «صحية تطوع الزلفي»    أمير القصيم يطلق مبادرة الاستزراع    تطوير وتوحيد الأسماء الجغرافية في الوطن العربي    الاتفاق يعلن اقالة المدير الرياضي ودين هولدين مساعد جيرارد    مقتل ضابط إسرائيلي وأربعة جنود في معارك بشمال غزة    نقلة نوعية غير مسبوقة في خدمة فحص المركبات    استعادة التنوع الأحيائي في محمية الأمير محمد بن سلمان    "الحج المركزية" تناقش موسم العمرة وخطط الحج    رحب بتوقيع" وثيقة الآلية الثلاثية لدعم فلسطين".. مجلس الوزراء: القمة العربية والإسلامية تعزز العمل المشترك لوقف الحرب على غزة    فوبيا السيارات الكهربائية    «نأتي إليك» تقدم خدماتها ب20 موقعًا    مجلس الوزراء يجدد التأكيد على وقوف المملكة إلى جانب الأشقاء في فلسطين ولبنان    ولادة أول جراء من نمس مستنسخ    الأخضر يحتاج إلى وقفة الجميع    المنتخب السوداني يسعى لحسم تأهله إلى أمم أفريقيا 2025    «طريق البخور».. رحلة التجارة القديمة في العُلا    السِير الذاتية وتابوهات المجتمع    أحمد محمود الذي عركته الصحافة    وفاء الأهلي المصري    للإعلام واحة    إضطهاد المرأة في اليمن    يسمونه وسخًا ويأكلونه    يأخذكم في رحلة من الملاعب إلى الكواليس.. نتفليكس تعلن عن المسلسل الوثائقي «الدوري السعودي»    «سامسونغ» تعتزم إطلاق خاتمها الذكي    «الغذاء»: الكركم يخفف أعراض التهاب المفاصل    التحذير من تسرب الأدوية من الأوعية الدموية    الرهان السعودي.. خيار الأمتين العربية والإسلامية    أسبوع معارض الطيران    جمعية يبصرون للعيون بمكة المكرمة تطلق فعاليات اليوم العالمي للسكري    إطلاق 80 كائنا فطريا مهددا بالانقراض    نائب الرئيس الإيراني: العلاقات مع السعودية ضرورية ومهمة    التوقيع على وثيقة الآلية الثلاثية لدعم فلسطين بين منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية ومفوضية الاتحاد الإفريقي    الرئيس السوري: تحويل المبادئ حول الانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين ولبنان إلى واقع    الأمر بالمعروف بجازان تفعِّل المحتوي التوعوي "جهود المملكة العربية السعودية في مكافحة التطرف والإرهاب" بمحافظة بيش    البرهان: السودان قادر على الخروج إلى بر الأمان    اطلع على مشاريع المياه.. الأمير سعود بن نايف يستقبل أعضاء الشورى المعينين حديثاً    أمير الرياض يطلع على جهود الأمر بالمعروف    مراسل الأخبار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة لاحقة في نتائج الانتخابات البلدية في لبنان
نشر في الحياة يوم 12 - 07 - 1998

كان في الانتخابات البلدية الواحدة في لبنان، التي انتهت مرحلتها الرابعة في 14 حزيران يونيو 1998 انتخابات عدة. كل فئة شاركت في تلك الانتخابات، كانت لها أسبابها ودوافعها. لذلك لا يمكن الحديث عن انتخابات واحدة متشابهة، خاضعة للمقاييس، والمعايير نفسها، من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب اللبناني، المسؤولون كانت لهم انتخاباتهم، الأحزاب كذلك، والمواطنون العاديون هم أيضاً كانت لهم معاركهم.
وإذا كان لكل فئة من اللبنانيين انتخاباتها، فمن البديهي جداً أن يُطرح السؤال حول ماهية المجالس البلدية التي أسفرت عنها الانتخابات التي انتهت أخيراً. بلديات من أجل ماذا؟ ومن أجل أي انجاز؟ وأي مخطط؟ وإذا كانت هذه الأسئلة منطقية، أي انها تعبر عن حقيقة مصير هذه الانتخابات: كل الذين دافعوا وعملوا من أجل أن تنظّم هذه الانتخابات عليهم ربما اليوم ان يتدارسوا نتائجها لجهة فعالية مضامينها المستقبلية. أما أن يقال أن أهم ما في الأمر ان هذه الانتخابات قد حصلت، ربما يكون صحيحاً، ولكنه بالتأكيد ليس كافياً للدلالة عن كل الأبعاد السياسية التي أسفرت عنها.
مراكز الأبحاث، لاحقاً عندما تقرر دراسة تفصيلية لنتائج هذه العملية، سوف تتوصل الى استنتاجات ذات أبعاد سوسيولوجية أفضل وأكثر شمولاً من الملاحظات السياسية. الأرقام التفصيلية ربما أعطت صورة أكثر وضوحاً عن حجم مختلف التيارات التي تحكمت في شكل هذه الانتخابات ومضمونها والتي لا يمكن مقارنتها بأي انتخابات سابقة لأسباب منها البعد الزمني لآخر انتخابات بلدية لأن الانتخابات النيابية الأخيرة لسنتي 1992 و1996 لم تخضع مطلقاً لنفس عوامل التحليل التي تقاس بها الانتخابات البلدية. وعليه فإن الكتاب سيطال ثلاثة عناوين عريضة:
أولاً: الخطاب السياسي للمسؤولين وللمرشحين.
ثانياً: الدور التغييري الاجتماعي والسياسي الذي كان مرتقباً من خلال هذه الانتخابات.
ثالثاً: القانون الانتخابي في ما يتعلق بالدوائر الانتخابية وباللوائح الانتخابية.
الخطاب السياسي
إذا راجعنا صحافة تلك الأسابيع التي سبقت وتلك التي حصلت فيها الانتخابات البلدية لاحظنا ان الخطاب السياسي، للمسؤولين أو للقيمين على اللوائح الانتخابية، لأن الذين خاضوا الانتخابات في التجمعات الكبيرة خاضوها عموماً نيابة عن... وعندما كانت هناك تصريحات أو تعليقات كانت الكلمة تعطى للأصيلين له مدلوله السياسي لجهة ممارسة الديموقراطية ان من قبل المسؤولين الرسميين وان من قبل أصحاب القرار الميداني اكانوا من أصحاب الصف الأول أو الصف الثاني. ومن الكلمات والتعابير المستعملة: "حياد السلطة، ونزاهة العملية الانتخابية، وغياب الشوائب الادارية، وضبط الأمن، والتوازن، والائتلاف، والوحدة الوطنية، والإجراءات القانونية، والاقطاع، والرشوة، والبوسطة..."، وهذه الأمثلة يمكن أن تتوسع لتطال عناوين اللوائح الانتخابية إذ تطالعنا تعابير القرار المستقل، والانماء، والوحدة.
مجمل هذه الأمثلة تعني في بساطتها ان الانتخابات في لبنان لا تزال بحاجة الى عملية أمنية ترافقها لأن مفهومها لم يصبح الى حد الآن حضارياً ما يكفي لكي يجعل غياب الاستعراضات الأمنية أمراً ملازماً للعملية الانتخابية. وهذا أمر وجبت ملاحظته لأن التعابير التي أطلقها المسؤولون على موضوع الحياد كان يمكن ألاَّ يكون، لو لم تكن السلطة ملزمة الحضور ميدانياً، الأمر الذي يجعل اتهامها بالتدخل والانحياز أمراً أكثر سهولة. فعلى علم الاجتماع السياسي دراسة كل هذه الإجراءات التي اتخذت من أجل سلامة العملية الانتخابية نزاهة وأمناً، وتحديد علاقتها الحقيقية بكل تلك الجماهير التي طالبت بالانتخابات ومارست اللعبة الديموقراطية وبالمسؤولين الذين أشرفوا عليها. ففي لبنان كانت هذه التعابير الآنفة دوماً ملازمة للعملية الانتخابية ولكن الى متى؟ هل الموضوع متعلق بالمواطن أم بممارسة المسؤولين أم بعدم قدرة أي من اللبنانيين على تخطي ثقل الممارسات الماضية؟
وهذه الانتخابات البلدية والاختيارية هي الأخيرة في لبنان في هذا القرن، وعلى رغم تغنّي اللبنانيين بديموقراطيتهم لا يزال الخطاب السياسي الرسمي والشعبي يحتوي على كلمات مثل "النزاهة" و"الحياد".
وهذا المسؤول الذي رددَّ طول الحملة الانتخابية هذين التعبيرين، وأعني بالمسؤول ليس الرسمي فقط بل أيضاً الشعبي وربما هو الأهم، ألم يتعجّب من ذاته بأن عليه التأكيد عليهما؟ ألم يخطر على باله يوماً ألاَّ يتلفظ بهاتين الكلمتين للدلالة فقط على أنهما ملازمتان للعملية الانتخابية وان الحديث عنهما يعني هرطقة سياسية؟
ويبقى الضرر محدوداً الى حين الوصول الى تعابير من مثل "الرشوة" أو "الاكراه" أو "الضغط" أو ما شابه... والقارىء السياسي لا يمكنه إلاَّ أن يتساءل عن هذا النظام السياسي اللبناني الذي يسمح بإدراج مثل هذه التعابير في قاموسه بعد كل الممارسات السابقة على رغم امثولات الحرب التي كان عليها أن تنقي الزمن السياسي للمواطن اللبناني. وضمن أي خانة علينا ادراج هذا الاصرار اللبناني على ترداد تعابير ورثناها من مراحل بالية، ماضية، كانت تجعل من شعار الديموقراطية غطاء لكل تجاوزاتها. وإذا كان الأمر كذلك في الماضي، هل من الجائز أن يستمر؟ وكيف يمكن لأي مسؤول سياسي أن يظهر على شاشة التلفزيون وامام عدسات المصورين ليلوح برزمة من الأوراق النقدية مدعياً أنه استحصل عليها "عنوة" من جيب أحد الأشخاص وأعطى اسمه متهماً إياه بأنه كان "يشتري أصواتاً"؟ والقاموس السياسي عندنا، هل من المعقول أن يبقى على رتابته في أمور سمعتها عندما حضرت أول انتخابات في قريتي منذ نصف قرن تقريباً ولا أزال اسمعها الى حد اليوم. والذين أكبر مني سناً سمعوها أيضاً في مرحلة ما قبل الخمسينات ولا يزالون.
ومهما شرحت لطلابي عن الأمور المشوَّهة للعبة الديموقراطية لن أستطيع يوماً أن اشرح لهم اصرار اللبنانيين على جعل "العنف" كلامياً كان أم مالياً أم مادياً ملازماً لحياتهم السياسية. والحركة الشعبية الواسعة الانتشار التي نظّمها عدد من المثقفين اللبنانيين والملتزمين السياسيين من أجل اجراء هذه الانتخابات البلدية ربما وجب الطلب اليهم البدء منذ اليوم بحملة جديدة من أجل تجديد قاموس اللغة السياسية اللبنانية، من نوع ما يقال وما لا يقال، ما يعمل وما لا يعمل، واعادة تحديد كل الكلمات والتعابير التي لا تمت الى الديموقراطية ومفاهيمها الأساسية بصلة. وطبعاً يقال الكثير عن الممارسات السياسية لأفواج الحاكمين الذين حمّلوا من قبل الرأي العام مسؤولية هذا الإرث المغلوط لمفاهيم الديموقراطية، ولكن هل هذا الأمر ينفي مسؤولية الأفراد انفسهم؟ وكيف السبيل الى ادخال التعابير الصحيحة الى قاموس السياسة اللبنانية؟ وهذا أمر وُجبتَ دراسته من قبل علماء الاجتماع السياسي. ومطروح على مؤلفي كتب التاريخ المدّرسي: عندما يشرحون لتلامذتهم عن لبنان الديموقراطي ما هي النعوت التي يعطونها لوضعهم؟
ويبقى سؤال أخير في نطاق موضوع التعابير السياسية التي ازدهرت في مرحلة الانتخابات هذه وهو يتعلق بتعبيري "التوازن" و"التوافق" أو "الائتلاف". طبعاً هذان التعبيران لا يدخلان مطلقاً في خانة العنف السياسي الذي تحدثت عنه سابقاً ولكنهما يعبران في شكل أكيد عن وجه آخر من وجوه أزمة الديموقراطية بمفهومها اللبناني.
في طرابلس شمال لبنان اختل التوازن وفي بيروت انقذ لأن كل القيادات السياسية والدينية نادت بوجوب انقاذ هذا التوازن. في طرابلس أحد الزعماء السياسيين تحدث عن تقاعس المسيحيين والعلويين عن المشاركة في الاقتراع. في بيروت ارادة سامية أنقذت الموقف، الشبه في الواقعتين هو أن التوازن والإئتلاف لا يدخلان في قاموس علم السياسة، بل في قاموس مفاهيم ومعايير سياسية محلية ويعبران عن أزمة حقيقية في تركيبة لبنان السياسية. وإذا أمكن تفادي الأمر هذه المرة في العاصمة من يضمنه في المرات المقبلة؟
وهذان التعبيران يفقدان كل قيمة سياسية ما دام تطبيقها خاضعاً لفعل الضبط والإرادة الفوقية، وليس لفعل نصوص واضحة. فرد الفعل الشعبي عبرت عنه انتخابات عاصمة الشمال في حين لم تكن بيروت كذلك وإلا لماذا لم يطبق هذا الأمر في الانتخابات النيابية سنة 1996 حين أجمع البعض ولا يزال على عدم التوازن. وهذا السيناريو مرشّح للإعادة.
فعلينا الاقرار إذاً بأن تعبير "توازن" الذي يفترض "توافقاً ما" لا يمكن أن يستمر بفعل "عُرف ما" أو بفعل "ارادة ما". لأن في أحد الأيام قد يأتي من يقول: "هذا الأمر ارفضه"، وهذا ما حصل جزئياً في هذه الانتخابات. وعليه فإمَّا ادراج مفهوم "التوازن" و"الائتلاف" هذا في نصوص واضحة وإما التحضير منذ اليوم لانقلاب هذه المعادلة لأن هذا الأمر يبدو منطقياً نسبة لتطور الحسّ السياسي لدى الجماهير. وعاصفة التغيير السياسي التي تجتاح مجتمعات الغرب والشرق على السواء لماذا عليها أن تجنب لبنان من نتائجها؟ فمفهوم التوازن الذي حصل في العاصمة، والذي هلّل له كثيرون، يعود الى إرث عمره أقل بقليل من قرن. وهل يعقل أن يحافظ عليه بإسم مقاييس ومعايير لم تعد نفسها عندما أخذ بهذا المبدأ في مرحلة ادخال مفهوم الديموقراطية الى الحياة السياسية اللبنانية؟
الدور التغييري للنخب
تعتبر الانتخابات البلدية من بين أهم وسائل تجديد النخب السياسية والمدارس السياسية المختلفة، تؤكّد أن مركزاً في أحد المجالس البلدية المحلية يمكن ان يشكل مدخلاً في المعترك السياسي الوطني. أما الطرق الأخرى فهي سكرتيريات الوزارات أو مراكز الأبحاث أو الجامعات والمدارس العليا - أي هناك طريقان لدخول النيابة أو الوزارة أما البدء من أسفل السلم من خلال مقعد بلدي أو الدخول من فوق من خلال استدعاءٍ شاهاني نسبة للاختصاص أو الزمالة. علماً أن كل رجالات السياسة يسعون الى الحصول على مقعد في مجلس بلدي لأنه يشكل دوماً محطة أمان، كونه الوحيد الذي يسمح بالالتصاق بالقاعدة الشعبية العنصر الأساسي في الاستمرار السياسي. وانتخاباتنا عكست اتجاهاً مختلفاً لهذا المبدأ العلمي وكانت تأكيداً على عدم امكان تجديد نخبنا السياسية الا في حالات جدّ محددة.
وكل وسائل الاعلام تحدثت عن "اللوائح المدعومة" من وزراء ونواب ومرجعيات حكومية ووطنية وقلّة منها كانت تشكل تجديداً سياسياً، وهذا يعني ان الانتخابات كانت في خدمة من لا يستطيعون خوضها أو لا يرغبون في ذلك. فهذه الانتخابات التي طغت عليها كثرة المرشحين لا يمكن اعتبارها نواة محاولة لفرز نخب سياسية مستقبلية، بل كانت في أغلب المناطق فعلاً ماضياً استمر في أشكال مختلفة ولكن ضمن المفاهيم شبه الاقطاعية نفسها أو حتى الاقتطاعية من دون أي نعوت مخففة.
فهؤلاء الزعماء استعملوا الانتخابات البلدية للتأكيد على زعاماتهم لا خدمة للمجتمع. وقالوا من خلال ممارستهم أن هذا القطاع البشري "يخصّنا" وسنعمل له ومن خلاله لاحقاً من أجل المحافظة على مركز زعامتنا. طبعاً الأعضاء المنتخبون بمن فيهم رئيس المجموعة، لا يمكن أن يأملوا بغد أفضل من الذي حصلوا عليه. ان الانتخابات شكّلت أقصى طموحهم والذهاب أبعد من ذلك في خدمة الحياة العامة أمر ليس هم من قرّره في هذه المرحلة.
وهذه الانتخابات بمفهومها التقليدي الضيّق سمحت ليس فقط بتثبيت دعائم الزعامات الموجودة ولكنها سمحت ببروز زعامات جديدة افرزت لنفسها مداً سياسياً منعت على غيرها الخوض فيه. وهذه الزعامات الجديدة، خصوصاً في جبل لبنان، أفرزت أيضاً زعامات ثانوية على مثال اقطاع العصور الوسطى في اوروبا بالضبط أو تلك التي عاشها جبل لبنان خصوصاً في القرنين الثامن والتاسع عشر عندما كانت الاقطاعية مراتب أيضاً بين أهل البيت: أمراء ومشايخ يُقتَطعون على مساحات محددة من أرض الوطن وبشره.
بعض الخروقات في هذا الطرح يتعلق بموقع مختلف الأحزاب التي خاضت الانتخابات علناً أو بالنيابة من خلال أفرادها من دون ان يكون هناك تكليف رسمي من قياداتهم. وتبقى حالة وحيدة لا ينطبق عليها هذا الوصف العام هي القيادات الملتزمة التي شكّلت حركة التغيير في الستينات والسبعينات خصوصاً تلك التي أعلنت التزامها في أمور خرجت عن نطاق محيطها السياسي المباشر وأهمها كل القيادات الطالبية التي لم يعد لها موطىء قدم لأنها انسخلت عن محيطها التقليدي ولم تستطع الالتحاق مع المجموعات التي مارست نشاطها السياسي معها أو في ظلّها. وهذه القيادات في غالبيتها ريفية المنشأ مدينية النشاط، ولم تؤثر ثورتها في محيطها القروي وفي المدينة، فكان عليها مواجهة تيارات اخرى لم تستطع الاندماج فيها لأنها ظلت غريبة عنها على رغم انها عملت كل هذه السنوات في ظلها. هذه الحقيقة طالت كل تلك القيادات أكانت بقيت منفردة أم انتظمت في حركات ثقافية أو نواةٍ مختلفة.
وهذا الأمر يؤكد ما ذهبنا اليه من قبل من أن الانتخابات البلدية شكّلت دفعاً للقيادات التقليدية التي جعلت من هذه الانتخابات وسيلة جديدة لتأكيد زعامتها. وبعض الأحزاب شكّلت عنصر التجديد الوحيد ولكن بشكل متفاوت بحسب المناطق وهذا الأمر يتعلق خصوصاً بحزب الله وبحزب الكتائب اللبنانية، وبحزب القوات اللبنانية المنحل وبالحركات الإسلامية.
هذا التجديد لا يحمل التفسير ذاته بالنسبة للأحزاب والحركات التي ذكرت: فحزب الله ربح في الضاحية الجنوبية، وفي الجنوب وفي البقاع مواقع جد متقدمة على رغم انه ليس طرفاً في لعبة الخدمات الرسمية التي احتفظت بها لنفسها حركة "أمل": حزب الله ربح على حساب مَن؟ قوى الزعامات التقليدية أم حركة أمل؟ أم على حساب الاثنين معاً لأنهما أصبحا يتقاسمان القواعد الشعبية نفسها.
أسئلة الجواب عنها بأي من قراءة النتائج التفصيلية للانتخابات.
أما في الوسط المسيحي فهناك ظاهرتان: عودة حزب الكتائب اللبنانية الى "كنف" السلطة واستعادته جزءاً من دور كان قد أضاعه في السنوات الماضية، وظهور حزب القوات اللبنانية المنحل في مناطق تعتبر عريناً له. فالأعضاء الكتائبيون الذين نجحوا في هذه الانتخابات اظهروا ان هناك رصيداً حقيقياً للحزب يمكن استغلاله، أما الملاحظ أيضاً فإن الحزب أعاد اللحمة مع "السلطة" إنما هذه المرة من خلال رئاسة الحكومة أو الزعامات المحلية وليس مطلقاً كما كان في السابق من خلال رئاسة الدولة وهذا أمر وجب ملاحظته لأنه سوف يحدد مسار الحزب في العهد المقبل.
أما حزب القوات اللبنانية المنحل فهو خير دليل على ما يسمى بالتمثيل الصحيح. ففي غياب الدوائر الفضفاضة تعود حقيقة الأمور لتظهر من جديد ولتؤكد بأن الدائرة الصغرى هي أفضل تقسيم من أجل التعبير عن حقيقة الواقع الميداني.
والحركات الإسلامية كسبت شرعيتها الشعبية وأصبحت في بعض الأحيان مادة ترجيح ضمن المجالس البلدية. وهذا الأمر يؤدي الى قراءة مختلفة للحياة السياسية في الأوساط الشعبية خصوصاً في المدن الكبرى وفي اقليم الخروب. وسيتبين لاحقاً مدى تأثير هذه القوى الصاعدة في المسار الوطني العام، خصوصاً إذا ما عدلت الدوائر الانتخابية في شكل يجعل من مجمل هذه الأقليات الناشطة أكثريات وسطية مؤثرة. وكل هذه النجاحات ربما جعلت من موضوع تعديل قانون الانتخاب، للبلديات أو النيابة أو موضوع اللامركزية الإدارية ينظر اليه بشكل مختلف. قانون الانتخاب هو لتجديد النخب ام للإبقاء على ما هو قائم حتى اشعار آخر.
وفي هذا الباب يجدر الحديث عن حزب المرأة: بعض نقاد السينما كتب عن أفلام هذه السنوات الأخيرة بأن العنصر الأسود أصبح أحد دعائم الأفلام الناجحة. وبعض لوائح البلديات عندنا كان لها وجهها النسائي. ولكن مجتمعنا هو مجتمع ذكري المشرب والممارسة والمنطق. الأحزاب الفرنسية فرضت على ذاتها ان ترشح نسبة محدّدة من العنصر النسائي في الانتخابات المحلية والوطنية.
اساءل نفسي بعد قراءتي كل هذه التعليقات في صحافتنا حول تغييب المرأة عن حياتنا السياسية هل هذا الأمر مرشح للاستمرار الى ما لا نهاية؟ كسر هذه الحلقة هل هو أمر ممكن وكيف؟
تعديل قانون الانتخابات واللامركزية الادارية
في فرنسا اتخذ قرار يسمح لمواطن أي بلد عضو في الاتحاد يسكن في فرنسا بأن يقترع في الانتخابات البلدية في المدينة أو القرية التي يقطنها. وفي لبنان بعد كل هذه المهجرات الداخلية غير السياسية ولا الأمنية التي رافقت النمو المديني منذ السنوات الخمسين، يمكننا التساؤل عن ماهية العلاقة التي تربط هذا الذي أباهُ ترك قريته وهو لم يعد له فيها أي موطىء قدم.
هذا المواطن الذي أصبح الحي المديني قريته وقرية أولاده، لماذا عليه يوم الانتخاب الانتقال مجدداً الى قريته ليدلي بصوته هناك كمواطن غريب؟
أوردت الصحف اليومية عدداً من الأمثلة حول انتخابات عدد من المدن الصغرى أو القرى الكبيرة التي شهدت زحفاً بيروتياً عدّل في ميزان القوى. لا أجد أن هذا الأمر يدخل في أصول المفاهيم الديموقراطية. أي مجلس بلدي هو هذا الذي يُنتخب من قبل غير المقيمين في المدينة أو القرية؟ وحتى في بيروت ما هو العيب في أن تكون تركيبة المجلس البلدي تعبيراً عن هموم الأحياء.
كل أعضاء المجلس البلدي الجديد في العاصمة لو كانوا وصلوا الى مراكزهم من خلال انتخابات مواطنيهم الذين يعرفونهم هل كان شكّل هذا الأمر خروجاً على الوحدة والتلاحم الوطنيين؟
الانتخابات البلدية عليها ان تعبر عن هموم المواطنين المقيمين ضمن نطاقها الجغرافي لأن همّ الماء والحراسة والنظافة والانماء المحلي هي هموم يومية لا تعني سوى الذي يعاني منها.
وإذا كان لقانون الانتخاب البلدي أن يعدل فلا بد أن يطول هذه الناحية من الحياة السياسية: التمثيل النيابي هو وطني عام وشامل والانتخاب البلدي هو محلي ضيّق الرقعة كبير الهموم. وأي تعديل لاحق عليه أن يجيب عن سؤال ثانٍ أيضاً: المجالس البلدية هي لخدمة من؟ لخدمة المواطن تقولون، وأنا استناداً الى قراءتي لمجريات العملية الانتخابية أرى أن هذا الأمر مشكوك فيه. لقد نجحنا في اقامة انتخابات "سياسية" لا مكان فيها لأي طرح انمائي. هذا الهمّ غير موجود في لعبة الانتخابات البلدية تشكّل مقدمة لانتخاباتهم وضامنة لها.
من يوقف كسارات شننعير؟ وتسميتها هنا لأنها ذكرت من قبل وزير البيئة الذي أعلن عدم قدرته على ايقافها، وكيف يمكن الاستمرار في نهب جبالنا بواسطة رخص "استصلاح أراض زراعية" تعطى من قبل المحافظين الذين هم في نهاية الأمر موظفون لا يؤدّون أي حساب أمام أي هيئة شعبية؟ عندما يُصبح الأمر في عهدة البلديات فلا يمكن أن يرمي رئيس البلدية المسؤولية على غيره. سوف يلتقي أهله في الكنيسة أو الجامع أو الحُسينية وسوف يسألونه عن مستقبل قريتهم. فالقرية تبقى هم قاطنيها ومن يكون خارجها فهمومه غير محددة المعالم.
فقانون الانتخاب هذا يجب تعديله لجهة صوغه لمصلحة من عليه أن يستفيد منه وإلاَّ لا معنى لوجوده. ويجب ان يعدّل ايضاً لجهة اعطائه مضموناً انمائياً واسعاً يمنح المجالس البلدية حرية القرار المتعلق بمدنهم وقراهم حيال قضايا النفايات والتلوث وشوارع المشّائين ومئات المشكلات التي يجب أن يعود حلها للبلديات منفردة أو مجتمعة. وحدها البلديات قادرة على ايقاظ الحس الوطني البيئي لدى المواطنين لأن القرب الجغرافي هو أساسي في حل المشكلات البيئية.
ويبقى السؤال عن استمرار هذه المجالس البلدية، أي ديمومتها حتى نهاية ولايتها في ظل أمرين. الأول هو الانحلال الذاتي كما حصل في انتخابات الستينات بعد مدة قصيرة من تشكيل المجالس البلدية الثاني يتعلق بالمجالس ذوات التشكيلات المركبة حيث الأكثرية يمكن أن تنتقل من فئة الى أخرى بفعل قوة ثالثة وسطية تتقن لغة التوازن أو الابتزاز. فالأمر الأول سيناريو عرفناه طول السنوات الماضية حيث شاهدنا أكثر البلديات المنحلة تساس من قِبل موظفين ثابتين أو برعاية القائمقامين: طبعاً هذا الأمر يفقد المجلس البلدي معناه ولا أظن أن المسؤولين مستعدون لاجراء انتخابات في كل مرة يُفْقدُ النصاب في أحد المجالس البلدية والجواب السليم لا يزال في الانتظار. والسيناريو الثاني هو الذي لا جواب له في رأيي والذي يستوجبه حكماً جواب مختلف كلياً عن كل تلك الأجوبة التي تعوّدنا عليها: الوصف هو التالي: مجلس بلدي قواه موزعة مع فارق بسيط على ثلاث قوى، إحداها قادرة على لعب لعبة التوازن. فماذا يحصل إذا قررت هذه فرض شروط على الفريق التي تنوي التحالف معه، أو اخضاعه لابتزاز الاستقالة في كل مرة ترغب في فرض شروطها أو رفض اقتراحات غيرها؟ وماذا لو القوى المتواجدة عطّلت بعضها البعض. الشلل الإداري في لعبة التوازنات موضوع كلاسيكي، فإذا وقع، كيف يمكن معالجته؟
ولكن في الأساس سيناريو من هذا النوع يطرح موضوع التشطيب اثناء العملية الانتخابية: التشطيب افرز في عدة مدن وقرى مجالس بلدية غير واضحة المعالم حيث التوازنات مرتهنة لبعض القوى التي وصلت الى المجلس البلدي عن طريق لائحة ثانية وثالثة. وإذا افترضنا ان كل فريق كان له برنامج عمل مختلف عن الآخر كيف يمكن ايجاد حلول للطريق المسدود هذا.
مسألة التشطيب هذا يجب وقف مفعوله، هناك فريق عمل متجانس يجب انتخابه وهذا يعيدنا الى أول بحثنا، ننتخب من ومن أجل ماذا؟ إذا كان الموضوع إنمائياً وهو ما يجب ان يكون، فتعطيل المجالس البلدية عملية قاتلة. أما اذا كان القرار انماء المجالس البلدية ذات بعد سياسي أولاً وأخيراً فلماذا الفصل بين النيابة ورئاسة البلدية؟، لو أبقي الأمر على ما كان عليه لكانت الأمور أكثر تجانساً وأكثر منطقية، أي ان هناك انتخابات من أجل تأكيد زعامة أو زعامات لا علاقة لها بانماء القرية أو المدينة.
هذه الملاحظة تستتبع استنتاجاً آخر وهو عملية انتخاب رئيس المجلس البلدي. وانتخاب الرئيس مباشرة من القاعدة هو أكثر منطقية، يدخل العملية الانتخابية بمجملها ضمن سياق اللوائح المتجانسة. لوائح مقفلة يكون التضامن بين أعضائها أساس تشكيلها. تأتي بناء على برنامج وتذهب بحكم الناخبين.
كل هذه الملاحظات أوردها للقول بأن الانتخابات البلدية تبقى هي توطئة اللامركزية الادارية. وربما اذا استبدلنا كلمة "ادارية" بكلمة "انمائية" يكون الأمر أكثر صوابية، هذه اللامركزية أثير حولها أخذ وردّ كثيران ولكن من الطبيعي جداً أن يعود الى القرية والمنطقة حق تقرير مصير مستقبلها الانمائي.
تحدث الوزير أكرم شهيّب عن المشكلات البيئية التي تتعرّض لها منطقة سهل البقاع ان في غربها أو في وسطها أو في شمالها: مياه الليطاني ملوثة، وبركة القرعون أيضاً، والمياه الجوفية أيضاً، هل الحلول لكل تلك المشاكلات عليها أن تأتي من الوزارة المركزية؟ ولماذا يترك هذا الأمر على عاتق الادارات المحلية؟
ففي منطقة البترون مؤخراً قامت ضجة حول معمل كوابح سيارات في قرية جرّان: تظاهر الأهالي، وأصحاب المعمل لديهم اذن ما من ادارة رسمية ما بعيدة كل البعد عن القرية التي جزعت على محيطها البيئي. هذه الرخصة، ضمن اطار لامركزية بيئية معيّنة، كانت أصبحت من اختصاص السلطة المحلية؟ والأمثلة أكثر من أن تعد وتحصى.
لذلك عندما نتحدث عن لامركزية، فينبغي ان تعطى الكلمة بُعدها الانمائي البيئي الذي هو أهم بكثير من "غبار" البعد السياسي. وطبعاً كل هذا عليه أن يستتبع بسياسة ضرائبية للبلديات مختلفة كلياً عما نشهده اليوم من رسوم بلدية هزيلة لا تلبي ابسط الحاجات الانمائية. والنظام الضرائبي العام في لبنان واجب لجهة اعطائه معنى لهذه الانتخابات البلدية التي من خلالها يجب تصغير اطار المسؤولية لكي نصبح أكثر التصاقاً بالمواطن من أجل جعله مشاركاً في عملية انماء بلدته


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.