لاحظتُ في السنوات الأخيرة تزايد إقبال قنوات التلفزيون وسائر وسائل الإعلام على تغطية الندوات والمؤتمرات الثقافية، حتى أصبح من المألوف جداً، في هذه الندوات والمؤتمرات، منظر الرجل القابع وراء آلات التصوير الضخمة المتحركة على عجلات، ومنظر حاملي الكشافات الساطعة المحيطين بالمصورين، وإلى جوارهم المخرج الذي يعطيهم التوجيهات الخاصة بما يجب تصويره وما لا يجب وأفضل الزوايا للتصوير، مما يذكرك بما يحدث هذه الأيام أثناء تصوير حفلات الزفاف الضخمة في الفنادق الكبرى. كل ذلك في ندوات ومؤتمرات ما كان يظن المرء أن موضوعاتها مما يجذب رجال الإعلام إلى هذه الدرجة. وراعتني على الأخص درجة الصلف والتكبّر واللامبالاة وعدم مراعاة أبسط قواعد الاحترام، التي يبديها هؤلاء الفنيون، من مصورين ومخرجين ومهندسي إضاءة، في تعاملهم مع المحاضرين والمثقفين والمفكرين المشتركين في الندوة أو المؤتمر. فهم - أي الفنيون - يصدرون الأوامر الى المثقفين بالنظر إلى هنا أو هناك، برفع صوتهم أو خفضه، أو بالانتظار حتى تصدر إليهم الإشارة بالكلام، أو حتى يفرغ الفنيون من تصوير المكان، أو من إنهاء حديث مع أحدهم. والأغرب من هذا أنهم يبدون وكأنهم لا يتوقعون من هؤلاء المثقفين إلا السمع والطاعة، ويستغربون أشد الاستغراب أن يعترض المثقف على أي شيء يفعلونه أو يطلبونه منه. هؤلاء الفنيون، من ممثلي التلفزيون والقنوات الفضائية، ووسائل الإعلام عموماً، اصبحوا الآمرين الناهين الذين تتحرك الدنيا طبقاً لمشيئتهم. يبدو أن هؤلاء المصورين والإعلاميين، ومعهم مديرو الندوات التلفزيونية، استقر لديهم الرأي أنهم بتصويرهم المثقفين والمفكرين وتسجيل كلامهم يسدون إليهم خدمة لا تقدر بثمن، وأن من حقهم، في مقابل ذلك أن يطلبوا من المثقف أو المفكر ما يشاؤون. أن يجيب عن أي سؤال، وأن يسكت عندما يطلبون منه السكوت، حتى إذا كان ذلك قبل أن يتم الجملة التي بدأها، وقبل أن يشرح وجهة نظره شرحاً مفهوما، وأن يتحمل في سبيل ذلك أي عناء. تساءلت عن السبب في هذا كله فوجدت أن السبب أغرب من الظاهرة نفسها. نحن نعيش في عصر أصبح فيه الجمهور هو الملك المتّوج. ورجال الإعلام من مصورين ومخرجين ومحررين ومديري الندوات الصحافية أو التلفزيونية ليسوا إلا رسل هذا الملك إلى كل من يمكن أن يخطر على بال الملك أن يستمع إليه أو يتسلى برؤيته.. نحن المثقفين أو المفكرين أو الممثلين أو الموسيقيين، لسنا الآن إلا مهرجي السيد: نؤمر فنطيع، ونُسأل فنجيب، ولو لم نظفر من السيد بأية مكافأة غير رضاه عنا، وإثارة رغبته في أن يستدعينا من جديد ليرانا أو يستمع إلينا مرة أخرى. إنه فقط جمهور غفير، لا أكثر ولا أقل، ولأنه جمهور غفير فإن طلباته مستجابة، اذ ان العدد الكبير ينطوي على إنفاق أموال كثيرة في مجموعها، وفي سبيل ذلك لا حدود، في ما يظهر، لما يمكن أن تجبر الناس على فعله، هذا الجمهور هو وحش كاسر بلا عقل، لكنه أصبح الآن قادراً، بسبب ما يسمى بثورة الاتصالات والمعلومات، على أن يُخضع لمشيئته، ونزواته أوسع الناس ثقافة وأرجحهم عقلاً وأكثرهم حكمة. * كاتب وجامعي مصري.