على رغم ان سمعة الموقف الاميركي تدهورت فعلياً عندما باءت اجتماعات لندن بالفشل، كذلك عندما رفض نتانياهو الدعوة للقدوم الى واشنطن من البوابة الرسمية الادارة الاميركية وفضل ان يزورها من البوابة الخلفية الكونغرس وإيباك، لا يمكن الحكم على الموقف الاميركي اللاحق من خلال مصطلحات ذات توصيف اخلاقي لأن السياسة هي فن الممكن، والممكن الوحيد لدى الادارة الاميركية انها دائماً محكومة بالتوازنات الداخلية ومنطق التعامل الديبلوماسي والانتخابات، والمعروف ان هذه الانتخابات مشدودة بقوة الى الاصوات الصهيونية في اميركا، وهذه ليست اشكالية الادارات الاميركية فحسب، ولكنها على الضفة الاخرى من الفهم السياسي والتعامل اليومي اشكالية كل العرب الذين برعوا في الخطابة ولم يبرعوا في تشكيل لوبي عربي ضاغط فعلياً، فكان ان اكلت الكلمات الأفعال. وما يفيدنا في هذا الامر بالذات ان الادارة الاميركية لن تستطيع ان تمارس ما مارسه دوايت ايزنهاور عندما جمد المساعدات الدعم الاقتصادي عام 1956 وعندما قال لبن غوريون "ان موضوع خلافاتكم في الكنيست هي شأنكم اما شأننا فهو ان تنسحبوا الى الخطوط الدولية لما قبل الهجوم العسكري". كما لن تستطيع ان تمارس ما قام به ليندون جونسون عام 1967 عندما اجبر اسرائيل بواسطة مجلس الأمن على وقف اطلاق النار، وهو موقف رغم انه ملتبس الا انه كان بمثابة وضع حد للخلافات بين العسكريين والسياسيين في اسرائيل على عمق العمل العسكري آنذاك، كما لن تستطيع ان تمارس ما مارسته ادارة جيرالد فورد عام 1975 من اعلانها عن "اعادة تقويم الوضع" عندما رفضت حكومة غولدا مائير الانسحاب من مضائق تيران... ولن تستطيع ان تمارس ما قام به جيمس كارتر في كامب ديفيد في ديناميكية واضحة وضعت مناحيم بيغن امام "حقائق منتهية" فوقع على الاتفاق ثم أنهى حياته السياسية بعد ذلك بقليل، ذلك ان الحلم لم يعد يطابق الممكن في العمل السياسي آنذاك. ولعل موقف بيكر وبوش قبيل مؤتمر مدريد المعلن عن رقم هاتف البيت الأبيض عندما يصل شامير الى موقف نهائي، ما يعكس كيف ان اولئك الذين قدموا من الساحل الشرقي، الذي يرى ان المصالح الاميركية تتأثر سلباً بالمزيد من العلاقة مع اسرائيل، وهم الذين صعدوا بدون ارتهان مباشر للأصوات اليهودية والصهيونية، قد استطاعوا ان يقولوا كلمتهم في قرار دولي لا مجال للحيد عنه، فكان ان عرقلت الادارة الاميركية آنذاك ضمانات القروض عشرة بلايين دولار، الى ان جاء الانقلاب السياسي الثاني في اسرائيل، بقدوم حكومة حزب العمل برئاسة اسحق رابين. كل هذا الإرث هو الذي صور لنا نحن العرب ان في امكان الادارة الاميركية، اي ادارة اميركية على الاطلاق، ان تضرب تحت الحزام عندما يتمرد الطفل المدلل الاسرائيلي في كنفها، لكن الأمر مختلف اليوم بفعل موازين القوى المتغيرة والتي لا تخضع للتقييم السياسي الآني، اذ يبدو ان العقلانية الاسرائيلية الحالية اي العقلانية التي دبرت تطويق الارادة السياسية للادارة السياسية الاميركية استطاعت ان ترسم شبكة من خيوط العنكبوت حول القرار السياسي لمن هم محسوبون على اليسار الاسرائيلي حتى انه يمكن القول، من دون ان تكون في ذلك مجانبة للحقيقة او مبالغة، ان الجهة الاكثر سيطرة اليوم في اللعبة السياسية لليهود في اميركا هي الاقرب الى ليكود منها الى حزب العمل، الامر الذي جعل ما يقوله الاسرائيليون صحيحاً الى حد كبير، وهو ان الرئيس كلينتون يفضل السلام مع اللوبي الليكودي على السلام في الشرق الأوسط. من هنا، لا مبالغة في القول ان الادارة الحالية غير قادرة على ممارسة الضغوط على اسرائيل بالمعنى الذي نعرفه، لكنها لن تكون عاجزة عن ان توجه الى الحكومة الاسرائيلية ضربات غير مباشرة تتجلى احياناً بتصريحات للسيدة هيلاري حول دولة فلسطين، تسحب الادارة اي علم مباشر بها وتجعلها رأياً شخصياً، بينما هو رأي الادارة الذي يمرر من تحت الطاولة او في الرواق الخلفي للعبة السياسية، او كأن يتم دعم خفي لمحاولة روني ميلو، وهو تحرك للوهلة الأولى، قد لا يعول عليه لكن له ما يعززه في "مكاسرة" الارادات التي ستحدث من حين لآخر بين الادارة الاميركية وحكومة ليكود التي تستند الى صوت واحد في الكنيست. كذلك فان طرح الخارجية الاميركية مبادرتها على رغم ضغط إيباك يشكل نوعاً من المكاسرة سابقة الذكر: اذ فشلت الايباك في تطويق الخارجية الاميركية على رغم انها جمعت 81 توقيعاً من اعضاء مجلس الشيوخ و151 عضواً في مجلس النواب لعدم احراج نتانياهو بطرح المبادرة الاميركية، لكن الأمر باعتباره مكاسرة إرادات قد تم الرد عليه من جانب الكونغرس الذي وجهت مجموعة من اعضائه رسالة الى اولبرايت تطالبها فيها بعدم الخضوع للمطالب التي لا تناسب المصلحة الوطنية، كما تحركت المنظمات الصهيونية الاخرى مثل مؤتمر المنظمات اليهودية الاميركية ضد توجهات إيباك. وهذا كله يمكن ان يشكل مادة فهم سياسية لا إيديولوجية، لمتغيرات وموازين القوى التي تستحق، بامتياز، ان يتم الدخول على خطوطها وفهمها والتلاعب بها باعتبارها جزءاً من الموازين السائدة بدلاً من الاكتفاء بالتوصيف الستاتيكي لقدرة الولاياتالمتحدة المطلقة التأثير على اسرائيل، او وقوعها تحت رحمة سياط اسرائيل وكلاهما توصيف اقرب الى الايديولوجية والتأمل منه الى السياسة. هذا الوضع يلاحظ في الداخل الاسرائيلي بشكل يبعث احد المنتمين الى معسكر اليسار في اسرائيل وأحد المفاوضين الأساسيين على التحدث بقلق، اذ يرى رابينوفيتش ان الرئيس الاميركي لن يصل الى حد الصدام المباشر مع اسرائيل نظراً للوضع السياسي الذي ألمّ بمكانته بسبب قضايا الجنس وهشاشة وضع نائبه آل غور الذي ارتبط اسمه بفضائح جمع اموال للديموقراطيين من رجال اعمال ليسوا فوق مستوى الشبهات، وعلى اعتبار ان آل غور سيرشح نفسه للرئاسة خلفاً لكلينتون فإنه مضطر مع رئيسه لتقديم تنازلات "عينية" في ما يسمى في مصطلحات المجتمع الكرامة وهو مصطلح لا اهمية له في العمل السياسي، حتى ان مغازلة آل غور لنتانياهو كانت واضحة جداً في زيارته الاخيرة لاسرائيل. كذلك فإن انتخابات الكونغرس الوشيكة تعتبر سبباً كافياً كي يكون كل الديموقراطيين في وضعية استنفار. والحقيقة ان نتانياهو سليل اللعبة السياسية الاميركية يقرأ قراءة واضحة، لا خطأ تكتيكياً فيها، الوضع الحالي للادارة الاميركية ويلاعبها بأشكال مختلفة ويحافظ في وضعه الداخلي على توازن حرج يرفع من شعبيته باطراد ويمنع حدوث أي اضطراب في ميزان القوى القائم على صوت واحد لمصلحته في الكنيست بعدما رفس بضربة واحدة خمسة من امراء ليكود التقليديين وبات كمن يسير على حد شفرة من دون ان يسقط او يتوجع، وهذا ما يجعل رابينوفيتش محقاً عندما يعتبر ان نتانياهو عازم على تحقيق انجاز لا سابق له وهو هزيمة كلينتون في ملعبه كما لم يحدث مع اي رئيس اميركي من قبل. حاول رؤساء حكومات اسرائيل خوض الصدام وجهاً لوجه مع رئيس الولاياتالمتحدة مرتين على الأقل، الأولى عام 1981 عندما حاول بيغن حشد دعم الكونغرس ضد ريغان للحؤول دون ارسال طائرات "الأواكس" للسعودية، والثانية عندما حاول شامير مواجهة بوش في قضية مؤتمر مدريد والمستوطنات، وفي كلتا الحالتين تمت هزيمة رؤساء الحكومة وكانت الخسارة الاسرائيلية ثلاثية حسب رأي رابينوفيتش: الادارة الاميركية انتصرت والعالم كله شاهد كيف تتحدى اسرائيل الادارة الاميركية وتمنى بالفشل. والادارة غضبت على حكومة اسرائيل. فعلى حد قوله يعتقد نتانياهو بأن معادلة القوة في الحلبة السياسية الاميركية مختلفة اليوم ويدلل على ذلك بتصريحات رئيس مجلس النواب الذي ندد بالادارة لمحاولاتها اضعاف اسرائيل. لكن هذا ضرب من وهم مبالغ به لأننا نرى ان التصريحات سابقة الذكر لم تستطع ان تغير في المعادلة التي دفعت اولبرايت الى طرح مبادرتها. المؤكد ان الادارة الاميركية تفضل ان يكون الضغط متأتياً هذه المرة من الاتحاد الأوروبي، اي ان يكون بمثابة ضغط "عن بعد"، وهذا ما يفسر لماذا تتنطح بريطانيا لعرض مبادرات وتقود باسم الاتحاد الأوروبي دعوات وزيارات هدفها انعاش عملية السلام، رغم انها معروفة بأنها اكثر الدول تحفظاً في سياستها الخارجية ازاء ما يخالف السياسة الاميركية، نظراً الى توحد المصالح النفطية بينهما بعد الحرب العالمية الثانية، وحتى ان ترميز "لقاء لندن" ليس مجرد مصادفة. ففي الوقت الذي اندفعت بريطانيا بتصريحات محرجة لاسرائيل كانت الولاياتالمتحدة تنغم على نغم "التعبئة الموسيقية" فتملأ الفراغات، بالايحاء كم هي قد ضاقت ذرعاً بتصريحات نتانياهو بالاعلان الملغوم عن الانسحاب من العملية السلمية، مع اعلان خارجي مقابل عن عدم الرغبة في الضغط على اسرائيل والالتزام التاريخي بأمن هذه الدولة، في مقابل اول حضور لكلينتون لمؤتمر المنظمات العربية - الاميركية. هذه الوضعية التي نقلت الصراع بين الولاياتالمتحدة واسرائيل من المواجهة المباشرة الى الضرب بعصا الغير او من خلف الجدار، ستجعل الاجواء السرية لهذا الصراع تنعكس على شكل نتائج سرية ايضاً، وهي بتراكماتها النهائية ستكون مكلفة لاسرائيل وللادارة الحالية ايضاً... والى ابعد حد، ولكن من يسود الساحة في الشرق الاوسط هو من يطلق "الرصاصة الاخيرة" من الطرفين. ويجب هنا الا نبالغ بحجم نتانياهو وقدراته. مشكلة الصراع الحالي لدى نتانياهو هو انه يريد بحجمه الصغير ان يخترق سياسات دولة كبيرة كالولاياتالمتحدة، وهذا وضع يتسم بالمغامرة بل بالمقامرة، لأنه محكوم بالضياع في متاهاتها مهما كان بارعاً في معرفة بعض بوابات الدخول وبعض بوابات الخروج لأن سد احداها سيعني "التيه" له. واللعبة تتجاوز الحدود الحالية لما هو مرئي او معروف، ويجب الا ننسى ان لأميركا ايادي كثيرة ضمن اللعبة السياسية والعسكرية في اسرائيل. المطلوب وفقاً لهذه الصورة ان يكف الايديولوجيون عن المبالغة بتصوير القدرة المطلقة او اللامطلقة بل المرتهنة لأميركا تجاه اسرائيل. لأنها في الصورتين السابقتين زيفاً شديداً، اضافة الى انهما يعبثان بالآلية السياسية ويرهنانها... لبضع كلمات، ومحض كلمات. وعليه فإن على اطراف المعادلة السياسية من العرب في الشرق الأوسط ان يسارعوا الى تشكيل عمل داخل اميركا، وحتى داخل اسرائيل ان امكن لمن لديهم علاقة مباشرة او غير مباشرة بالداخل، لكي يكونوا جزءاً من المعادلة، بدلاً من ان تتفرد اسرائيل بتياراتها المختلفة بها. ويجب علينا الا نحرم بعض الجهود حقها في هذا المجال لأن بعض القيادات السياسية العربية قد بدأ بهذا التوجه سواء في الولاياتالمتحدة او مع عرب 1948 او حتى مع الاتجاهات السلمية داخل اسرائيل، ولكن عليهم ان ينسقوا مع بعضهم بعضاً في ذلك من خلال اجتراح مؤسسات لهذا الغرض وإشراك مثقفين واعين وسياسيين وخبراء بهذا العمل المنظّم. * كاتب سياسي سوري