هناك مقولة يتبادلها رجال الاعمال الغربيون عندما يُسألون عن علاقتهم بالسلطات الروسية، تقول: "في روسيا، افتعال مشكلة ليس مشكلة". والحقيقة هي ان طريق روسيا نحو الاقتصاد الحر غير معبد بالورود بل بالشوك. فالعناصر الرأسمالية الروسية التي اقتُلعت جذورها منذ اكثر من سبعين عاما بفعل الحكم الشيوعي هي اليوم مجبرة على ان تقتات من الشركات المملوكة للحكومة او من العمليات الاقتصادية المشبوهة. ولكن ماذا يعني النشاط الاقتصادي في روسيا؟ يكمن الجواب في نكتة شاعت في الثمانينات عندما كانت عناصر الاقتصاد الحر بدأت لتوها في الظهور. وتتخذ النكتة صيغة السؤال والجواب لتقول "ما هو النشاط الاقتصادي الروسي؟ جواب: هو ان يسرق المرء صندوقا لقناني الفودكا من مصنع ما ويبيعه لينفق العائد على تناول المشروبات الروحية". وبالنظر الى مشاريع التخصيص الشاملة التي تمت ونفذها نائب رئيس الوزراء الروسي في حكومة تشيرنوميردين سابقا تشوباييس، الذي يرأس حاليا شركة "يونايتد انرجي سستمز" التي شملها التخصيص سرقة صندوق الفودكا، وبالنظر كذلك الى نمط العيش الباذخ الذي تتسم به حياة "الروس الجدد" انفاق العائد على تناول المشروبات الروحية، نجد ان في النكتة بعض حقيقة. في بداية التسعينات، وفيما كانت الوزارات القديمة تنهار مع اللجان والدوائر والبنى البيروقراطية العتيقة، تفشى الفساد، وتحولت المقولة الروسية المأثورة "اذا لم ُتَزِّيت ادواتك فلن تتحرك الى الامام" الى منهج عمل لا سيما في المراحل الاولى لتطبيق الراسمالية غير المنضبطة في البلاد. وباتت عمليات اعادة هيكلة النظام الجمركي تزكم الانوف لما تفوح به من فساد، خاصة انوف المصدِّرين والمستوردين. وعلى رغم ذلك لا يتجرأ رجال الاعمال الاجانب في روسيا ان ينتقدوا مثل هذا الوضع ما يدل على ان بيروقراطية الدولة ما زالت مهيمنة. وقال احد المسؤولين في الجمارك لپ"الحياة" ان تدني اجور صانعي القرار في البلاد، الى درجة تثير الضحك، في بعض الاحيان، يؤدي الى نشوء قاعدة عريضة للفساد. واضاف "تصور وضعا يكون فيه اجرك بهذا التدني وتتعرض في الوقت نفسه لاغراءات من مصارف تجارية تحاول وضع يدها على حسابات جمركية كبيرة، او ان ياتيك مستورد مستعد ان يقدم لك هدية نظير قيامك بتمرير بضاعته المتعثرة في الجمارك !" ولكن ماهي الاوضاع الفعلية التي يعيشها النشاط الاقتصادي في ظل "المرحلة الراهنة" من مشاريع الاصلاح في روسيا؟ اظهرت استطلاعات للرأي اجرتها وكالة "انترفاكس" الاخبارية في ايار مايو الماضي ان 60 في المئة من رجال الاعمال الروس الناشطين في موسكو مقتنعون ان رشوة المسؤولين امر ضروري للقيام باي نشاط اقتصادي في المدينة، مقابل 27 في المئة فقط لا يعتقدون ذلك. وفي الاستطلاع الذي اجراه المركز الروسي للابحاث الاجتماعية وطرح من خلاله اسئلة على مئتين من رجال الاعمال في موسكو، قال 37 في المئة منهم ان المسؤولين في موسكو اكثر فسادا منهم في مدن روسية اخرى فيما اعتبر ثلاثة في المئة منهم فقط ان الفساد في موسكو اقل منه في المدن الاخرى. وجدير بالذكر انه على رغم الجريمة التي قفزت معدلاتها وتفشت في التسعينات، يعتقد 19 في المئة فقط من رجال الاعمال المستطلعة آرائهم ان الجريمة تضر انشطتهم اكثر من الرشوة، فيما يرى 21 في المئة منهم العكس. اما رجال الاعمال الاجانب فيبدو ان استقرار اعمالهم وامنهم في روسيا مرتبط بحجم تلك الاعمال لجهة الِكبر. ففي موسكو تستأجر الشركات الكبيرة مبانٍ مهيئة كمراكز اعمال في مناطق تجارية مناسبة، مجهزة بمساكن وخدمات اتصال. لكن مثل تلك الخدمات توفرها العاصمة الروسية لقاء ثمن باهظ، لا سيما وهي واحدة من العواصم الخمسة الاغلى في العالم. ومعروف ان الشركات الاجنبية الراسخة في السوق الروسية تنفق على راحة وأمن العاملين فيها. وفي موسكو يوظف كل مركز اعمال يضم شركات اجنبية وسمعته طيبة، فريق أمن خاص يتكون اعضاؤه عادة من كوادر سابقة في جهاز البوليس والپ"كيه جي بي" جهاز المخابرات الروسي في النظام الشيوعي القديم. اما خارج موسكو فالمافيا هي افضل من يحفظ الامن ويضمنه. قال مدير عمليات الصيانة في شركة اميركية كبيرة ناشطة في موسكو جين لپ"الحياة" "اول ما افعله عندما احط في بلدة نائية في سيبيريا او في اقصى الشمال الروسي هو ان اتعرف على فتوة المنطقة القبضايات، فغالبا ما يوفرون افضل المستويات الامنية لمخازني واماكن العمل، كما ان الاتعاب ليست مرتفعة كثيرا. لكن هناك أساليب معينة للتقرب من هؤلاء الافراد وإلا جاءت النتيجة عكسية وخطيرة، اذ يتطلب الامر بعض خبرة لجهة العثور على الاشخاص المناسبين. وحتى اذا كانت الشركة الاجنبية جذورها راسخة في روسيا فانها تواجه بصعوبات عندما يتعلق الامر باستيراد البضائع والاجهزة، بسبب القوانين والانظمة الغامضة وغير الصريحة التي لا تواكب السرعة التي تنمو فيها تجارة السلع والخدمات، ما يوفر بيئة لسوء استخدام تلك القوانين. وقال احد كبار المسؤولين في شركة نفط غربية ناشطة في روسيا "يرتبط بكل قانون عدد من الانظمة متكاملة التوجه لدرجة انها تتضارب مع بعضها". واضاف ان بعض السلع لها اكثر من تعريف جمركي وبالتالي يواجه البعض بمشاكل شائكة اذا لم يقدم الوثائق الجمركية الصحيحة الخاصة بالسلعة. وتم غربلة اللجنة الجمركية للدولة الروسية اخيرا اذ جرت موجة تسريحات شملت كبار المسؤولين بدءاً برئيس اللجنة كروغلوف. وقال احد المدراء اللوجستيين، اناتولي، وهو روسي يعمل في شركة غربية دولية تتخذ من موسكو مقرا لها، "تؤدي كل عملية تسريح الى مجيء رجل جديد غير متفهم وله آراء ومواقف جديدة". واضاف "كنت اتعامل مع مسؤول في الجمارك، متفهم وله عقلية اقتصادية، وغالبا ما كان يتغاضى عن تطبيق بعض الانظمة والقوانين المتناقضة اصلا، في سبيل تسريع حل المسائل الجمركية العالقة الخاصة بالشركة التي اعمل فيها". وزاد "في ظل الوضع الجديد لن يكون من السهل حل مثل تلك المسائل لان المسؤول الجديد سيكون حذرا وبطيئا في اتخاذ القرار". وتصل غرامة تأخر تفريغ كل طن من السلع الواردة، من عربات السكك الحديد، الى 1000 دولار اسبوعيا، واذا كانت البضاعة تقبع في ارض الجمارك تكون الغرامة 800 دولار. واي خطأ مطبوع في الاوراق الجمركية المقدمة من صاحب الشأن يستوجب اعادة التقديم ما يؤخر عملية التخليص الجمركي. وقال اناتولي انه اذا كان المرء يفتقر الى الخبرة في اعداد الوثائق الجمركية والبيانات اللازمة والى الاسلوب المفترض لتقديمها الى المسؤولين الجمركيين، ستقبع بضاعته في ارض الجمارك الى ما شاء الله حتى تصبح غير ذي جدوى تجاريا". وتتطلب عملية تقديم الوثائق الى الجمارك التنقل في شوارع موسكو المزدحة من اجل مقابلة المسؤولين المختصين، فالمسائل المهمة لا يبت فيها عبر اسلاك الهاتف. وابتسم اناتولي وهو يشرح "يتطلب الامر العناية بشؤون المسؤؤلين وتلبية طلباتهم، وهي امور تحتاج وقتا طويلا لكي يستدركها رجال الاعمال الغربييين". وما زالت الادارات الحكومية في روسيا ترتاب من الانشطة الاقتصادية الاجنبية في البلاد، وهو اسلوب تعامل يعتبره رجال الاعمال الروس من مخلفات عقلية الستار الحديدي للدولة الشيوعية. وكانت هذه العقلية تعززت نسبيا في بداية التسعينات عندما انكب الروس على جمع الرساميل وظهرت شركات روسية مارست الاحتيال التجاري تحت ستار الاستيراد والتصدير، وجنت المال بفضل عقود مريبة مع شركاء مشبوهين من الاجانب. ومنذ التسعينات تحسن مناخ النشاط الاقتصادي في روسيا وتطور. واما الانظمة والقوانين الخاصة بالضرائب والجمارك فيجري تقويمها ببطء، فيما اصبحت السوق الروسية، المنفلتة توجهاتها في الماضي، اكثر تنظيما، كما قلت نسبة الحسابات المصرفية التي كانت تُفتح وتغلق خلال فترة زمنية قصيرة. ويجري حاليا وضع حد للفوضى المنظمة في حقل الاستيراد والتصدير، وهي الفوضى التي اتاحت فرص تجميع ثروات لعاملين في الحقل وتسببت في فرض عقوبات على بعض من اساء التصرف. ولكي يتمكن رجل الاعمال الاجنبي من تخطي كل تلك الامور عليه يحتاج الى مساعدين كفؤين يتكلمون اللغة ويفهمون العقلية البيروقراطية الروسية، واسلوب التعامل مع المسؤولين. ويعمل لحساب الشركات الاجنبية الناشطة في روسيا محامون روس، يقدمون المشورة لجهة القوانين المحلية، وموظفون ومدراء روس يعتبرون بمثابة الجسر بين اسلوب العمل الغربي في الشركات وحقائق ما بعد الشيوعية في روسيا. وغالبا ما يحتل الروس مناصب رفيعة في الشركات الاجنبية الناشطة في روسيا وهم عادة ذوو كفاءة ولا يسيؤون استخدام ما يمنح لهم من سلطات، ويعتبرون قوة تحريك مهمة في مواجهة البيروقراطية الروسية المعقدة. وعلى سبيل المثال، اعيد اخيرا تنظيم مصلحة الجمارك في موسكو لتصبح المسؤولية موزعة على سلطات ينفرد كل منها بمنطقة من مناطق العاصمة. ولولا اطلاع موظفي الجمارك مسبقا على خطة العمل الجديدة واتخاذهم تدابير لبقيت سلع مستوردة كثيرة قابعة في المستودعات من دون تخليص. وبات الاتجاه نحو الاحتكام للقانون بدلا من الرشوة هو الغالب في روسيا اخيرا. وكسب عدد من رجال الاعمال دعاوى قضائية في اقاموها على جهات حكومية بسبب اتباعها انظمة ليست ضمن دستور العمل. وبالتدرج قل عدد الضرائب المفروضة، وبالتدرج ايضا بدأت مواقف المسؤولين الروس تتحول الى الواقعية. لكن الفرق ما زال شاسعا بين اسلوب عمل اصغر رئيس روسي هو سرجي كيرينكو المعروف عنه النشاط والاقدام، وبيروقراطية الدولة الروسية التي يتطلب تجاوز اروقتها دليلا خاصا.. وبعض تزييت وتشحيم للادوات!