كان توقيع المعاهدة الأردنية - الاسرائيلية نقطة تحول كبير في السياسة الأردنية، شهدت تراجعاً في الحريات والانجازات الوطنية. وسبق الانتخابات النيابية عام 1993 تشكيل حكومة جديدة، قامت بحل مجلس النواب وإصدار قانون موقت للانتخابات يقصد منه منع التعددية السياسية، وتداول السلطة والنفوذ، او تمكين حزب سياسي من التأثير والضغط، ونجح القانون بالفعل في تحقيق ذلك كله. ودخلت الحكومة في مرحلة سلام وتطبيع مع اسرائيل يغطيها مجلس نواب مؤيد لها، وعملية سياسية محكومة سلفاً بالفشل وانتفاء فرص التنافس والتدافع، او امكانية سلمية لتعدد المسارات والاحتمالات. لم يكن السلام الأردني - الاسرائيلي عادياً لكنه ربما يكون استراتيجياً. وهو أخذ طابعاً احتفالياً وتبعته عشرات اتفاقات التعاون بين الجانبين في مجالات المياه والنقل والسياحة والتجارة. وتبين ان التعاون هذا يشمل ايضاً الأمن والنواحي العسكرية. كانت الحالة في الأردن بعد توقيع اتفاق اوسلو تشبه الصدمة او الشعور بفقدان التوازن، ورأى الأردن ودول عربية اخرى في الاتفاق ضربة تضر بها سياسياً واقتصادياً، وحدثت اتصالات ومحاولات تنسيق اردنية - سورية لمواجهة الاتفاق وإفشاله، لكن الأردن تحرك باتجاه معاكس بعيداً عن السياق العربي لينافس منظمة التحرير في مسارها نفسه. ورافقت المعاهدة زيادة التوتر والاحتقان، وتراجع المسار الديموقراطي لمحاولة كبح معارضي التسوية، اذ اعتقل عدد كبير من المواطنين، وضيق على الصحافة والقضاء، والنواب، والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني. ودخلت الحكومة في مواجهة مع حركة "حماس" من دون سبب محلي يدعو الى ذلك، فأبعد موسى أبو مرزوق رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" واعتقل العشرات من قيادات وكوادر الحركة ومناصريها، ولم تقدم الحكومة تفسيراً لعمليات الابعاد والاعتقال سوى انسجامها مع الرغبة الاسرائيلية في ملاحقة "حماس" واضطهادها. ثم استدركت الحكومة موقفها، ربما بسبب تدهور عملية السلام او تفكيراً بمرحلة قادمة، فاستقبلت موسى ابو مرزوق بعد الافراج عنه، والتقى رئيس الوزراء المجالي قيادة "حماس" وهو أول لقاء يعلن عنه في الصحف، واستقبل الملك الشيخ احمد ياسين وزار خالد مشعل في المستشفى واستقبله في الديوان الملكي. وتراجعت العلاقات الأردنية مع الدول العربية خصوصاً سورية والعراق ووصلت الى حد الازمة عندما استضافت الحكومة عدداً من قيادات المعارضة العراقية، وأضرت الخطوة بعلاقات تجارية واقتصادية واسعة مع العراق، ولا زالت العلاقة تشهد قطيعة او فتوراً مع مصر ولبنان ومعظم دول الخليج. كان يفترض ان يؤدي انتخاب ليكود في عام 1996 ثم السياسات الاستيطانية والاضطهادية التي تمارسها حكومة ليكود بقيادة نتانياهو الى مراجعة العلاقات الاردنية - الاسرائيلية كما حدث مع دول عربية عدة دخلت في معاهدات او علاقات مع اسرائيل مثل مصر وعمان وقطر وتونس لكن العلاقات الأردنية - الاسرائيلية استمرت في وتيرة متصاعدة من الدفء والمجاملات والتنسيق... وربما التحالف. ثمة مؤشرات كثيرة تدل الى حالة استياء شعبي وجماهيري ومعارضة للسلام مع اسرائيل تزيد كثيراً عن الحالة التي كانت سائدة عام 1994 عند توقيع المعاهدة، فقد كشفت مقاطعة الانتخابات النيابية التي اجريت عام 1997 عن حالة معارضة وتضامن مع المقاطعة لم يكن يتوقعها احد حتى الذين قاطعوا الانتخابات، وشهدت حادثة اطلاق النار على فتيات اسرائيليات من جندي اردني احمد الدقامسة تضامناً كبيراً وتفاعلاً سياسياً واعلامياً. وأشّرت استطلاعات الرأي التي اجراها مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية على حالة احباط شعبي كبير ويأس من جدوى عملية السلام، وتعامل الرأي العام مع مجموعة من الاحداث مثل عمليات "حماس"، واغتيال يحيى عياش، ومجزرة قانا، والاعتداء على المسجد الاقصى، وتوسيع المستوطنات، والاساءة الى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم باهتمام يؤيد ما ذهبنا اليه. تقول المصادر الرسمية ان الأردن استعاد حصته من المياه التي كانت تأخذها اسرائيل، لكن الوقائع تنفي ذلك، وتؤكد ان الأردن فقد مياهاً اضافية، وما حدث هو اعادة تقسيم مياه نهر اليرموك والسماح للأردن بتخزين حصته من المياه الشتوية في بحيرة طبرية على ان يضخها الأردن على نفقته، وهي كميات قدرت بخمسين مليون متر مكعب سنوياً، وتأخرت اسرائيل في تطبيق هذا الاتفاق حتى اليوم علماً انها أعلنت بأنها ستسمح بنقل 25 مليون متر مكعب بدلاً من الخمسين مليونا التي اتفق عليها. والأردن لا يحصل على شيء من مياه نهر الأردن، التي تبلغ 1400 مليون متر مكعب سنوياً، ويساهم بعد الاتفاقية بستين مليون دولار لتحلية مصادر مياه نهر الأردن مقابل لا شيء وتحصل اسرائيل على 14 مليون متر مكعب من الضفة الشرقية تقوم بضخها الى الجانب الفلسطيني الذي تحتله. اما الأراضي الأردنية التي وصفت بأنها محررة فبقيت في يد الاسرائيليين وأضيفت اليها اراض اضافية من الضفة الشرقية تزيد في الباقورة عن ثلاثة آلاف دونم، وصارت هذه الأراضي المحررة مستوطنات اسرائيلية في الأردن خاضعة للسيادة الاسرائيلية تماماً ولا سيادة أردنية عليها. وألحقت المعاهدة ضرراً كبيراً بالسياحة الأردنية، فصارت المواقع السياحية والتاريخية الأردنية جزءاً من برامج السياحة الاسرائيلية يزورها السياح من اسرائيل ثم يعودون في اليوم نفسه من دون ان يستفيد الأردن من زيارتهم شيئاً. وتحدثت الصحافة عن آلاف السياح الذين ألغوا اسفارهم الى الأردن ليحولوها الى اسرائيل مستفيدين من اتاحة زيارة الأردن مجاناً كخدمة اضافية تقدمها السياحة الاسرائلية، وتراجعت نسبة الاشغال في الفنادق الأردنية لتراوح بين 2 و5 في المئة فقط. ويميل ميزان التبادل التجاري لمصلحة اسرائيل بفارق يفوق الضعف تقريباً اذ بلغت الصادرات الأردنية الى اسرائيل خمسة ملايين دولار والصادرات الاسرائيلية اثني عشر مليوناً. وشهدت الحياة الاقتصادية والتنموية تراجعاً كبيراً، اذ تراجع ترتيب الأردن في سلم التنمية البشرية من المرتبة 70 بين دول العالم الى المرتبة 84. وتشهد الخدمات الصحية والتعليمية تراجعاً وترهلاً كبيرين، وبلغت معدلات التضخم 7 في المئة عام 1997، بعدما كانت 6.5 في المئة عام 1996 و2.5 في المئة عام 1995. وتراجع التداول في السوق المالية بنسبة 33 في المئة وانخفضت قيمة الاسهم بنسبة 3 في المئة. وتحدثت الصحافة عن هجرة كبيرة للاستثمارات الأردنية الى الخارج، وبلغت في مصر وحدها مليار دولار، وتخلت الحكومة عن كثير من الادوار والخدمات كانت تؤديها مثل دعم المواد الأساسية والاعلاف والاتصالات والنقل، وتراجعت نسبة التوظيف عام 1997 بمقدار 90 في المئة عن الاعوام الفائتة، ومضت الحكومة في عمليات تقاعد واستيداع وفصل للموظفين قدرت حالاتها في الصحافة بأنها تزيد عن أربعين ألفاً. كان البرنامج الاقتصادي والتنموي في السنوات العشر الفائتة يقود الى انهيار للطبقة الوسطى في المجتمع وتآكل الدخول والتضخم والبطالة التي بلغت مستوى قياسياً 30 في المئة وازداد الفقر بدرجة عالية، حتى ان جمعية حماية المستهلك تقدرها بپ50 - 55 في المئة، وتضاعفت مشكلات المخدرات وجرائمها، وتراجعت اهمية الزراعة في الاقتصاد الامر الذي يعني انهيار الانتاج الغذائي، وكانت الصادرات الزراعية للعام الفائت 160 مليون دينار مقابل واردات قيمتها 630 مليون دينار ونشأ تفاوت كبير بين طبقات المجتمع، فيذكر تقرير التنمية البشرية ان 20 في المئة من السكان يزيد دخل الفرد منهم عن عشرة آلاف دولار سنوياً، وان 20 في المئة يقل دخلهم عن ألف دولار. ونشأ مع هذا التفاوت خلل كبير في بنية المجتمع والدولة، ففي الوقت الذي لم تعد الخدمات التعليمية والصحية والتنموية قادرة على تلبية احتياجات الناس فان هذه الخدمة كانت في احياء ومناطق اخرى في درجة متقدمة من النجاح والترف، وحدثت تشوهات في الاسكان والاستيطان والموارد، فأقيمت احياء بالغة الترف في مناطق زراعية، ويعاني معظم الناس في الوقت نفسه من ازمة اسكان حيث بات متعذراً للأسرة المتوسطة الحصول على مسكن مناسب بأجر معقول في حين ان وزارة التخطيط تقول انه يوجد 150 الف مسكن فارغ لا يقدر على شرائها او استئجارها المواطن العادي، وتذكر الاحصاءات الرسمية ان معظم المساكن تقل مساحتها عن القدر المعقول الملائم لأسرة عادية اقل من 60 متر مربع وان نسبة عالية منها بلا مرافق اساسية. مؤشرات الخلل والضلال في البرنامج الاقتصادي والتنموي كثيرة جداً يصعب الاحاطة بها في هذا المقام، لكن أسوأها على الاطلاق هو حالة التحالف والتنسيق بين الحكومة والمتنفذين وبين الاستثمارات والشركات المحلية والاجنبية التي تهيئ البلد والمواطنين الى حالة اقطاع فظيع يجعل ممتلكات البلد وموارده في أيدي حفنة قليلة، ويحول معظم الناس الى أُجراء وفقراء تحت رحمة الشركات والملاكين الجدد. وتدعم هذا التحالف مجموعة من التشريعات والسياسات والاجراءات تتبناها الحكومة لمصلحة المستثمرين والاغنياء ولذبح الملكيات والمشروعات الصغيرة، منها عمليات شراء الأرض الواسعة المنظمة التي تقوم بها شركات وشخصيات مجهولة، والغاء ملكيات ومشروعات صغيرة لمصلحة اخرى كبيرة احتكارية كما حدث في النقل والتاكسي والاتصالات. * كاتب اردني