كافالا تشرف على البحر . ينطلق من سفينة راسية على الميناء لحن شعبي راقص. يصعد ركاب الى السفن وينزلون. طائران أبيضان يحلقان فوق السفن، تنضم إليهما طيور أخرى لتجري مناورة بحرية فوق الميناء. أمام عيني ترسو السفن الكبيرة والمراكب الصغيرة واليخوت، من بعدها البحر البعيد الشاسع. الى الشمال، انطلاقاً من حدود الميناء، يمتد سور المدينة القديم. ومنه الى فوق، تتدرج منازل كافالا، المدينة اليونانية الجميلة الصغيرة الرابضة بهدوء على أكتاف تلالٍ صغيرة، كأنها بحجارتها البيضاء وقرميدها الأحمر، حمائم بيضاء بأعراف حمراء من قرميد. تصل المنازل الى القلعة. لقد ولد محمد علي باشا الكبير، الذي حكم مصر ووصلت جيوشه بقيادة ابنه ابراهيم باشا الى الشام، في هذه المدينة، حيث المنزل الذي ولد فيه ما زال قائماً أسفل القلعة، ومجسمات لنسائه السبع. على الطرف الغربي من القلعة كنيسة يونانية منسجمة مع المنازل بألوانها وهدوئها، والقلعة قائمة كتاج من حجر أغبر قديم فوق عُرْفِ المدينة، في أعلى برجها يرفّ العلم اليوناني، وتفترش أرضها وجدرانها الأعشاب والأزهار البريّة، وتنمو على جنباتها الأشجار. حين تشرف من أعلى فتحات السور على البحر المتوسط الهائل المتعرّج الشواطىء أمامك، تدرك كم أنّ هذا المكان، وما يشبهه من الجزر اليونانية، لم يكن بإمكانه أن ينتج سوى حكايات الأسفار والبحار والانتظار، وميثولوجيته أو خرافته القديمة حول الكائنات الأسطورية، وقوى الطبيعة. وكم أن الغناء والموسيقى والشعر والملاحم، والعقل والجسد والروح، والنحت والفلسفة والرياضيات، هي أيضاً، ابنة هذا المكان، بل هي روحه. تذكرت، وأنا في اليوم الأول للملتقى الشعري الذي عقد في هذه المدينة اليونانية تحت عنوان "موسيقى الشعر وشعر الموسيقى"، وشارك فيه حوالي ثلاثين شاعراً وناقداً وموسيقياً من دول حوض البحر الأبيض المتوسط ما خلا اسرائيل التي رُفِضَ طلبها بالمشاركة، قول الشاعر اللبناني الفرنكوفوني صلاح ستيتيّة، في تقديمه لقصائد فؤاد أبي زيد بالفرنسية: "المتوسطيّة هي البحر". فَحَوْل وردة المتوسط، وبكل لغات شعوبه، تمّ تمجيد ومديح للبحر والأسفار والحريّة، مثلما قال بودلير: "أيها الإنسان الحر، سوف تحتفل دائماً بالبحر". وكانت أصوات الشعراء والمغنين تتلاقى على اختلافها في ما يشبه جوقة أطلق عليها ستيتيّة تسمية "جوقة المتوسط"، حيث يتلاقى فيها صوت بول فاليري في "المقبرة البحريّة" بصوت فؤاد أبي زيد في قصائد الصيف، وقصائد سان جون بيرس بقصائد أونغاريتي وكازيمودو، ورينه شار بنيكوس كازانتزاكيس، وجوليان غريك بقسطنطين كافافيس وألبيرتي وسيفيرس... وطه حسين بمحمد ديب، ودينو كومبانا بكاتب ياسين، وآخرون بآخرين أيضاً، في ما سمّاه صاحب المقبرة البحرية "بالنشوة المتوسطيّة". فهذا البحر المفتوح من قديم الزمان مثل كفّ، لم يكن ينقبض إلاّ لكي ينفتح من جديد. ولم يكن موجه موجاً فاصلاً بين الشعوب والحضارات التي تعيش على حوضه، بمقدار ما كان موجاً موصلاً لهذه الشعوب والحضارات، سواء في الحرب أو في السلم أو في التبادل التجاري، وكانت العواصم الثقافية والحضارية التي تكوّنت على ضفافه، من الاسكندرية الى جنوى، ومن أثينا الى مرسيليا، ومن مرسيليا الى اللاذقية وبيروت وسواها، بمثابة منارات تشعّ على صفحة البحر ويصل اشعاعها الى كل حوضه. فقد حمل الفينيقيون من قديم الزمان، من شواطئهم عبر هذا البحر الى اليونان وأوروبا، أبجديتهم وبضائعهم وأسماءهم أيضاً، حتى أن الفلسفة اليونانية القديمة اتسمت بالميسم الفينيقي، من فيلون الجبيلي الى زينون الصيدوني الى فرنوريوس الصوري... وها نحن اليوم، نجد في جزيرة تاثوس، طبيباً من بيت ساحور، ملكاً غير متوج لها، هو الدكتور هلال، يملأها بحيويّة الحياة والصوت والحبّ... حسناً... على اسم هذه "المتوسطية"، وبدعوة من رابطة أصدقاء الأدب والفنّ في مدينة كافالا، تلتقي اللغات المتوسطيّة في الموسيقى والشعر، في المدينة... تتداخل الفرنسية بالعربية باليونانية بالإيطالية بالتركية بالأسبانية، وتتبادل حساسياتها، في قلب وردة المتوسط. * * * موسيقى الشعر، شعر الموسيقى. أيهما الأول؟ ما العلاقة بينهما؟ كيف؟ إنها أسئلة تتدافع على المسرح البلدي الذي أقيمت فيه الندوات والأمسيات الشعرية والموسيقية، باللغات المتوسطية كافة مع ترجمتها الى اليونانية، وكأننا أمام تذكيرٍ نصيّ واحتفالي بتلك العلاقة الجوهرية بين هذين الفنين القديمين قدم الإنسان نفسه، والتي إذا فقدت يتعطّل بفقدانها جزء من الموسيقى وجزء من الشعر في وقت واحد.... بل كان هذا الملتقى أشبه ما يكون بعودة طائر الروح الذي هو الشعر، الى أصله في نفثة الموسيقى أو نفحتها، كما أشار الى ذلك الناقد السوري صبحي الحديدي، في بحثه العميق حول الشعر الإنشادي، أو الغنائي، وعصفور الروح المتوسطي، في شعر كلٍ من س÷يريس وإيليتس ودرويش، مشيراً بذلك الى الأساطير اليونانية والشرق - أوسطية التي تقول إنّ الشعر هو بمثابة طائر، ما أن تنفث الروحُ نَفَسها في نفحة الموسيقى، حتى يطير ويحلّق، معتبرةً أن الشعر هو ابن الموسيقى. ذلك لم يمنع من أنّ بعض الموسيقى، فيما بعد، تأسّس على الشعر أو على النصّ الشعري، كالأوبرا مثلاً. إلاّ أن الموسيقى لغة أثيريّة أولى مؤسسة على الأصوات. وهي أكثر تجريداً من الشعر المؤسس على الكلمات. فالموسيقى تخاطب النفس مباشرةً بلا وسائط، في حين أن الشعر أكثر تحيّزاً في لغته، وفي الإمكان اعتبار الموسيقى "لغة اللغات"... ذلك لا يمنع من أن تنطوي في الوقت عينه، على خصوصيتها... ذلك ما أشار اليه ديلان توماس، في ما أطلق عليه تسمية "هيئة الصوت"، ففي الإمكان معرفة تضاريس مكان ما من الأمكنة، من خلال سماع موسيقاه. لكن، أيضاً، في الإمكان تلمس هذه التضاريس، من خلال استيعاب شعر المكان. ولعلّ المسألة أشدّ تعقيداً من ذلك، فثمّة في علاقة الموسيقى بالشعر ما يسميه لودفيغ فتغنشتين Wittgenstein ب "الأذن الذهنية"، حيث يقول: "أن نقرأ النصّ الشعري العظيم، يعني أن نصغي الى الموسيقى وهي تتكلّم. لنتخيّلْ أن امرءاً ما لم يسبق له أن أصغى الى أي نوعٍ من أنواع الموسيقى، ثم جعلناه يستمع الى واحدة من مقطوعات شوبان الغنائية، هل سيلام هذا الرجل إذا جزم بأنه إنما استمع الى لغةٍ مستقلّة متكاملة، ينطق بها شعب ما، وأبقاها قيد الكتمان عن الشعوب الأخرى؟". إنّ في الشعر، بلا ريب، أكثر من الغناء والغنائية. إن فيه ما أشار اليه ت.س.إليوت في مقالته "أصوات الشعر الثلاثة": الصوت الغنائي، وهو الأول، ضمير المتكلم. وفيه الصوت الملحمي أو الصوت الوعظي. وفيه الصوت الدرامي. يضاف إليه، في الشعر الأكثر حداثة، الصوت السَرْدي والصوت القصصي... في الإمكان أيضاً ملاحظة هذه الطبقات عينها أو ما يشبهها في الموسيقى. فالموسيقى أساس في الشعر، حسب ما أشار الى ذلك شاعر فرنسي هو بوالو حين قال: الموسيقى قبل كل شيء، وكل ما يتبقّى "أدب". * * * المسرح في قاعة الأمسيات والاحتفالات جزء من عراقة المسرح اليوناني، إلا أنه جزء حديث ومعاصر. ثمة أولاً مقاعد الجمهور المتدرجة من أسفل المسرح إلى أعلى. ثمة خشبة المسرح والجدار المواجه للجمهور. يفصل بين الخشبة والجمهور فاصل ضيق من رمل. تتوزع المنصات على الخشبة على قسمين: مكان للإلقاء الإنفرادي، ومكان للإلقاء المزدوج، على كرسيين متجاورين يفصل بينهما طاولة، إحداهما للشاعر المتوسطي في لغته، أو المحاضر، والأخرى للممثلة أو الممثل اليوناني الذي يعيد القاء القصائد باليونانية. في جانب خلفي من الخشبة بيانو كبير. على الزوايا شموع تضيء المسرح، وتحته، في مكان غير مكشوف كلياً للعين، يجلس أربعة عازفين موسيقيين أمام آلاتهم المتنوعة، من فلوت وقانون وهارْب وغيتار، لمرافقة الشعراء مرافقة هادئة خلال إلقائهم لقصائدهم. جدار المسرح المواجه للجمهور عبارة عن لوحة سماء زرقاء موشحة بحزم أشعة، يتوسطها قمر أبيض، وفي الأسفل معالم غامضة لمنازل مدينة. ينبثق فجأة في دائرة الضوء المركزة في خلفية المسرح، شاب يوناني كأنه تمثال قديم من مرمر اللحم والدم، يتقدّم ببطء، ليقدّم فقرات الأمسيات، فقرة فقرة، شاعراً شاعراً، ومغنياً مغنياً، وموسيقياً موسيقياً. كل شاعر أو مغنٍ أو موسيقي باسمه واسم بلده ومختصر عن سيرته الإبداعية... يترجم التقديم مباشرةً من اليونانية لأكثر من لغة. وتتوالى أيام كافالا هكذا... يوماً يوماً، على صوت أمواج بحرٍ قريب. بعد كلمة الملتقى، ألقى كوستاس سترغيوبولوس، وهو شاعر يوناني وناقد أدبي وأستاذ في الجامعة، شهادة شخصيّة حول الشعر والموسيقى، أردفها بثلاث قصائد من شعره. بعد ذلك ألقى الشعراء اليونانيون: كيكي ديمولا برودرولوس ماركوغلو، كاترينا أنجليكا روك، كوستاس بابا جورجيو، كلٌّ قصيدة باليونانية، لتتقدّم سليمة آيت محمد، الجزائرية البربريّة من جبال جرجرة، لتقدّم قصائدها بالفرنسية، من بعدها الشاعر الفرنسي دومينيك غرانمونت، ثم جاء دوري فقلت خمس قصائد قصيرة من مجموعاتي الشعرية، وألقتها بعد ذلك مترجمةً الى اليونانية، الممثّلة آنّا يرالي. واختتمت الأمسية الأولى التي هي أمسية الافتتاح، بالأسباني ألكس سوزانا. بعد الاستراحة، جاء دور الموسيقي الكاتالاني الأسباني إيلويس ايلياش، حيث عزف على البيانو وغنّى بصوت دافىء، أغنيات كثيرة شعبية وللحب، وحصد الكثير من التصفيق حين غنّى قصيدة لكافافي، عن العلاقات المثلية. جورج فيرّيس، الأستاذ في جامعة أريستوث في سالونيك، كان أوّل المتكلّمين في أمسية اليوم الثاني، وبحثه حول الشعر الدوميثيكي والأغنية الدوميثيكية اليونانية السائدة. تلاه الشاعر اليوناني ديمتريوس ليونزاكوس، والشاعرة ماريا كانترو، والشاعرة والناقدة اليزابيت ديميرغولو. الأستاذة في جامعة أريستوث نفسها، بملاحظات متوازية حول الشعر والموسيقى... بعد فاصل واستراحة، ألقى صبحي الحديدي ملخصاً بالإنكليزية عن بحثه المكتوب بالعربية "الشعر الغنائي وطائر الروح المتوسّطي"، تبعته ترجمة للمقال باليونانية. ثم جاء دور الشاعر اليوناني أفتيموس آسوس، وهو شاعر عربي حلبي الأصل والنشأة، انتقل الى اليونان، وكتب شعره بالعربية واليونانية، واشتهر بترجماته العديدة، وكان ينشر بعض أبحاثه بالعربية باسم أفتيموس آشو، وهو الذي قام بترجمة القصائد العربية المقدّمة للملتقى الى اليونانية. قال من بعده التونسي المقيم في فرنسا طاهر بكري قصائده بالفرنسية، ثم جاء دور الشاعرة ماريا كيرتزاكي، والشاعر الفرنسي سيرج بي/ الذي كان بمثابة مسرح في المسرح من خلال الطقوس التي قدمها خلال القاء قصيدته. الليلة الثالثة شملت بحثاً للإيطالي نيكولا كروستّي حول الموسيقى في شعر أليتس، تبعه الشاعر الفلسطيني غسان زقطان الآتي من رام الله بحنين أشعاره، فإلى الشاعر التركي أوزدمير انيس، فالشاعرة القبرصية نشوة ياسين، فالشاعر القبرصي كريستوس مافريس، فالشاعر اليوناني الكبير وآخر السرياليين اليونان هكتور كانا فاتوس الذي اعتمد على حفيف الأصوات وايحاءاتها في أشعاره، تبعه من إيطاليا كورّادو كالابرو، فالشاعر محمد الفيتوري من ليبيا الذي ألقى قصيدته الجميلة "معزوفة لدرويش متجول" وقصيدة أخرى مغناة، فالشاعر اليوناني كانا ثوريس، فمحمود خزام من فلسطين الذي ألقى كلمة في رقّة الشعر. * * * وداعاً كافالا... وإلى البحر من جديد... إلى جزيرة تاثوس، على مركبٍ كأنه مركب نشوان، بتعبير رمبو، أما تاثوس فجزيرة تذكّر بالجنّة