ما بدأ على شكل خلاف بين رئيس الدولة وقائد الاركان، ما لبث ان تحول الى محاولة انقلابية، وما كان مجرد محاولة انقلابية، قد تنجح او تفشل ولكنها كان يفترض فيها ان تطوى سريعاً، ما فتئ ان استقر واستدام حرباً اهلية، مع كل ما يعنيه ذلك من تعميم للقتل والدمار، يفضي الى توتر اقليمي وينجر عنه تدخل خارجي، وبالتالي تعقيد للأزمة قد يطيل امدها ويزيدها استفحالاً. والكلام السابق يعني، بطبيعة الحال، حدثاً عينياً وحالة محددة، هي ما تشهده غينيا بيساو من معارك، منذ نحو الاسبوعين، بين متمردين من القوات المسلحة، قاموا بمحاولة للاستيلاء على السلطة منيت بالاخفاق، وبين وحدات بقيت وفية للسلطة الشرعية، او لنقل القانونية، لكنها تجد صعوبة بالغة في استعادة السيطرة على الاوضاع، بالرغم مما تلقاه من دعم، بالسلاح وبالجنود، من كل من غينيا كوناكري ومن السنغال المجاورين. لكن الكلام ذاك يمكنه، مع ذلك، ان يقال على نحو من التعميم والتجريد، لفرط انطباقه على اكثر من وضع ومن حالة افريقية، حتى ليمكن القول بأنه بات بمثابة السيناريو الافريقي بامتياز، لتفكك الكيانات "الوطنية" وتحللها، على ما تشهد بذلك حروب اهلية عدة، تعيشها بلدان من القارة السوداء عدة، انفجرت في ظروف ولاعتبارت مشابهة، ثم استمرت تجري ضارية شرسة منسية، بعد ان ازور عنها اهتمام العالم الخارجي وانصرف الى سواها. والحرب الاهلية الجارية حالياً في غينيا بيساو قد انفجرت لما قد يبدو أوهى الاسباب، على الأقل اذا ما قيس ذلك السبب بنتائجه، وذلك لدى إقدام رئيس تلك المستعمرة البرتغالية السابقة، جاو بيرناردو فيايرا، على عزل قائد اركان القوات المسلحة، الجنرال انسوماني مانيه، بتهمة "الاهمال"، اثر القاء القبض على مجموعة من العسكريين البيساويين، ضبطوا يهربون اسلحة لصالح مقاتلي "حركة القوات الديموقراطية" التي تناضل من اجل استقلال مقاطعة كازامنس، الواقعة في جنوبالسنغال، والخاضعة لسلطة داكار. غير ان الجنرال المذكور لم يقبل الامتثال لتلك العقوبة، فانتهز فرصة غياب رئيس الدولة، لحضور مؤتمر منظمة الوحدة الافريقية، فأراد الانقضاض على الحكم وأخفق في ذلك، فيما فشلت القوات النظامية، من ناحيتها، في القضاء على تمرده، وأمكن بهذا للسيناريو الذي سبقت الاشارة اليه ان يأخذ مداه. هكذا، وإذا كان الرئيس فيايرا قد اراد تجنب اغضاب الجار السنغالي القوي، ذلك الذي ضاق ذرعاً بما يلقاه متمردو كازامنس من دعم، منذ سنوات طويلة، من لدن البيساويين، فقام بعزل الجنرال المذكور، فانه اتخذ بذلك قراراً أدت انعكاساته الى تهديد نظامه، بل وحدة بلاده ذاتها. فالنظام القائم في بيساو بالغ الهشاشة، وهو ما اعترف به وزير خارجيته في تصريح ادلى به قبل ايام في العاصمة البرتغالية لشبونة، تلك التي ذهب اليها في زيارة يبدو انها بالفرار اشبه. وبما ان النظام على ذلك القدر من الوهن، فهو لا يقوى لا على مقاومة الضغوطات السنغالة خارجياً، ولا على تحقيق الامتثال لقراراته داخلياً. والوضع هذا فتح، بطبيعة الحال، الباب واسعاً امام التدخلات الاجنبية. فالسنغال ارسلت قواتها، رسمياً من اجل دعم السلطة الشرعية، خصوصاً ان هذه الاخيرة أبدت الاستجابة لمطالبها، لكن كذلك من اجل تحقيق بعض المآرب الخاصة بها، والمتمثلة في توجيه ضربة للخطوط الخلفية لمتمردي كازامنس، وفي قطع امدادتهم من السلاح، وشتى ضروب الدعم الاخرى التي يتلقونها من غينيا بيساو. كذلك فعلت غينيا كوناكري، حيث ارسلت قواتها هي بدورها، لخشيتها من نشوء بؤرة توتر مستديم على حدودها. لكن بؤرة التوتر تلك قامت وقضي امرها. اذ يستبعد ان يؤول النزاع الجاري في غينيا بيساو الى حل سريع، اكان ذلك الحل على شكل حسم عسكري، او على هيئة تسوية سياسية، وذلك لأسباب عدة ربما كان من بين ابرزها ان تلك المواجهة، مثلها في ذلك مثل سواها من المواجهات الافريقية بشكل عام، يبدو انها قد بدأت تتداخل مع العنصر الاثني وتلابسه. وهو عنصر نعلم مدى ما يتمتع به من طاقة تفكيكية هائلة بالنسبة لكيانات تلك المنطقة من العالم على الاخص. وهو، الى ذلك او تبعاً لذلك، بدأ يجتاز الحدود الوطنية ويفيض عنها. من ذلك ان إثنية "الديولا" تنتشر على جانبي الحددو بين كازامانس السنغالية وشمال غينيا بيساو، وهو معطى قد يجعل من تدخل قوات داكار يبدو في نظر ذلك القسم من المواطنين البيساويين، كأنه امر يستهدفهم، لا مجرد خطوة ترمي الى دعم السلطة الشرعية. وإذا ما اضيف ذلك النزاع الجاري في غينيا بيساو الى الحرب الاهلية الدائرة، بشراسة، منذ سنوات في سييراليون، والى تلك التي ما انفكت تعصف بليبيريا، فان ما يمكن قوله ان منطقة الغرب الافريقي دخلت بدورها في مسار من انعدام الاستقرار ومن التفكك قد يطول في امتداده منطقة البحيرات الكبرى وما جاورها غرباً وجنوباً، حيث جرت حروب بوروندي ورواندا وزائير والكونغو، وهي حروب قد لا تكون وضعت اوزارها الا موقتاً وفي انتظار جولات اخرى. وكذلك حروب منطقة الشرق والقرن الافريقيين حيث حرب جنوب السودان، والنزاع الاثيوبي - الاريتري، وسوى ذلك من النزاعات التي يبدو انها في حالة كمون قلق. ثم ان افريقيا السوداء يبدو انها آخر مناطق الانقلابات العسكرية في العالم، حيث اختفى هذا الاسلوب في الاستيلاء على السلطة من فضاءات كان يعد فيها تقليدياً، مثل اميركا اللاتينية والشرق الأوسط وبعض ارجاء آسيا، منذ السبعينات او نحوها، باستثناء بعض الحالات النادرة، حتى وإن لم ينجم عن ذلك، بالضرورة، ارساء للديموقراطية. وإذا ما تذكرنا ان التجربة تدل على ان الانقلابات العسكرية تقوم بها غالباً الجيوش الضعيفة، في الدول الهشة البنيان، وانها تنزع الى الاختفاء كلما تأكدت فكرة الدولة، وكلما اكتسبت القوات المسلحة صفة المؤسسة، وتدعمت في وظيفتها تلك، فان ذلك، معطوفاً على تلك النزعة الى التفكك على اساس اثني، يبرهن على مدى فشل "دولة الاستقلال" في ان تفرض نفسها انموذجاً قابلاً للبقاء والثبات في افريقيا، فيما قد يتبدى ذلك الفشل في القارة السوداء اكثر جلاء منه في اي من ارجاء العالم الثالث الاخرى. فالدولة الحديثة، الناجمة عن الاستقلال، بقيت هناك دون القدرة على تشكيل الحد الادنى من الكيانية الوطنية، حيث بقيت عاجزة تماماً عن ايجاد حل، وان نسبي، لمشكلة التفتت الاثني. بل ان الدولة الافريقية قد فشلت حتى في الجوانب الاجرائية من مهامها. اذ عديدة هي الدول في تلك القارة التي ما زالت تعتمد على القوة الاستعمارية السابقة حتى في دفع رواتب موظفيها، وقد يكون ذلك الفشل في الجوانب الاجرائية من بين العناصر المسببة لعجز الدولة عن ان تستقيم كمعبّر عن كنه وطني كياني. وربما كان ذلك من بين ما يجب ان يلفت انتباه المهتمين بأوضاع افريقيا، سواء في ذلك منظمة الوحدة الافريقية، او الأممالمتحدة، او الدول الكبرى، او تلك البلدان العربية التي تمتد افريقيا السوداء على حدودها الجنوبية، بحيث لا يمكن لاهتزاز استقرارها الا ان ينعكس عليها في وجه من الوجوه