لاحظ المتابعون عن قرب لرحلة الرئيس الأميركي التي استغرقت 12 يوماً الى ست دول افريقية ان معظم مؤشرات تحليل بواعث وأهداف الرحلة تعكس بشدة رغبة واشنطن واصرارها على تقليص الدور الفرنسي في القارة السمراء على المستويين الثقافي والاقتصادي من ناحية والفني والعسكري من ناحية أخرى. وجاء الاتصال الهاتفي الذي أجراه كلينتون مع الرئيس الفرنسي من داخل طائرة الرئاسة قبل وصوله الى واشنطن مؤيداً لهذه الاستنتاجات والتي ربما بسببها اقترح جاك شيراك ان تتم مناقشة شؤون دول القارة الافريقية وديونها وسبل تخفيف اعبائها المالية خلال قمة الدول الصناعية الثماني الكبرى التي ستعقد خلال الشهر الجاري في مدينة برمنغهام. ويعلل البعض هذا الاستنتاج بالمبادرة التي أعلنها كلينتون أثناء زيارته الى جمهورية جنوب افريقيا، والتي تتعلق بالتجارة والاستثمار مع دولها في ظل بنود القانون الذي وافق عليه مجلس النواب الأميركي في 12 شباط فبراير الماضي من أجل التنمية والتجارة والاستثمار في افريقيا، والذي على ضوئه طلبت الادارة الأميركية دعماً قدره 30 مليون دولار كتسهيلات للدول الافريقية الراغبة في ادخال منتجاتها الى الأسواق الأميركية. لكن مجرى الأحداث يدل على أن الخلاف الأميركي - الفرنسي أبعد من ذلك بكثير إذ يمكن الربط بين بدايته وبين سنوات تفرد واشنطن بلا منازع بقمة العالم كنتيجة مباشرة لانهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية... فهناك الاعتراضات الفرنسية على توسيع دائرة عضوية حلف شمال الأطلسي، وعلى الطرح الأميركي لمكونات السلام في الشرق الأوسط، وعلى أساليب الاحتواء المزدوج لكل من العراق وايران، وحصر الاستثمارات في مجال انتاج الطاقة المخزونة داخل أراضي دول بحر قزوين على رؤوس الأموال الأميركية، وكذلك أسلوب معالجة المؤسسات المالية الدولية لمشكلة انهيار اسواق المال الآسيوية. وليس من قبيل الصدفة ان تكتشف باريس زيف شعار الأبواب المفتوحة الذي أطلقته الادارة الأميركية منذ سنوات عدة بعد سقوط نظام القطبين، لأنها ادركت مبكراً ان مقاييس هذه الدعوة تعني عند التطبيق ليس فقط امتداد النفوذ الأميركي الى الأماكن التي كانت حكراً على النفوذ الشيوعي، بل الى كل مكان في العالم مهما كانت درجة المصالح التي تربط أصحاب النفوذ فيه بالإدارة الأميركية. ويتطلب مد وترسيخ النفوذ الأميركي الذي يتراوح بين الهيمنة والشراكة والحصار، والعمل على اضعاف وتهميش كافة القوى التي تحاول ان توجد نوعاً من التوازن مقابل التفرد الأميركي بمقدرات العالم حتى لو كانت مرتبطة استراتيجياً بتحالفات من أي نوع مع أميركا والتي تعمل لان تصبح هذه القوى مجرد أدوات مساعدة ملحقة بآلياتها التنفيذية كما حدث بالنسبة لمنظمة الأممالمتحدة التي تحولت على يدها في السنوات الأخيرة الى مجرد غطاء للدور والفعل الأميركيين على مستوى العالم. ولم تكتف الادارة الأميركية باضفاء شرعية دولية على ما تقوم به من خطوات وما تتخذه أدواتها من اجراءات، بل عمدت الى اضفاء أبعاد كونية لبعض تشريعاتها التي تصدرها مجالسها النيابية لتنظيم علاقاتها مع بعض دول العالم. فبعد سنوات طويلة من استصدار قانون هيلمز بورتون المحدود الفاعلية الذي يحرم على الشركات الأميركية وبعض الشركات الدولية ذات الصلة بالمواد الاستراتيجية التعامل مع نظام الرئيس فيديل كاسترو في كوبا، استصدرت الادارة الأميركية أخيراً قانون داماتو الأشد قوة والأكثر شمولية - لأنه صدر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي - والذي يمنع الشركات الأميركية وغير الأميركية من الاستثمار بما يزيد عن 40 مليون دولار مع كل من الحكومتين الليبية والايرانية لا سيما في مجال الطاقة. وعلى الرغم من أن معظم دول العالم اعتبرت ان ما ينص عليه هذا القانون ملزم فقط للشركات الأميركية إلا أن الشركات الفرنسية كانت البادئة بخرق الحظر الأميركي وتحدي العقوبات التي تفرضها تشريعات في محاولة منها لاضفاء صفة الكونية عليها بالقوة الجبرية. هكذا ينظر الى الاتفاق الذي وقعته منتصف العام الماضي في طهران شركة "توتال" الفرنسية لاستثمار حقل غاز "سوث بارس" الايراني في منطقة بحر قزوين بما قيمته بليونا دولار بالتعاون مع كل من شركة "غازبروم" الروسية وشركة "بتروناس" الماليزية. وشجع تأييد المفوضية الأوروبية لهذه الخطوة من منطلق انها لا تخالف القانون الدولي شركتين فرنسيتين هما "توتال" و"الف اكيتان" على ابرام عقد مماثل قبل نهاية العام الماضي مع الحكومة العراقية للاستثمار في مجال استخراج نفط حقل مجنون. وفي هذا السياق لا بد من تقويم الخلاف بين أميركا من ناحية وكل من فرنسا وروسيا من ناحية أخرى حول المشاكل التي يثيرها النظام العراقي من حين لآخر وموقف كل من موسكووباريس المعلن حيال ما يرونه من تعنت اميركي ازاء مطالبة بغداد برفع الحصار المفروض عليها منذ نحو سبع سنوات، وأيضاً ما هو مثار حالياً بين هذه الأطراف حول الملف النووي العراقي الذي ترى واشنطن أنه لم يحن الوقت بعد لاغلاقه وترى العاصمتان الأخريان أنه قد حان موعد اقفاله!!. ومن بين الدوافع التي تقود التكتيك الأميركي سواء في افريقيا أو في الشرق الأوسط أو في آسيا، النجاح الذي حققته الادارة الأميركية على مستوى بلدان أميركا اللاتينية خلال فترة حكم الرئيس كلينتون. فقد توقفت حروبها الأهلية وثوراتها الانقلابية وبدت حكوماتها مستقرة الى حد كبير في ظل ما تنتهجه من نظم شبه ديموقراطية أدت وفق تقارير المنظمات الدولية الى تحسن أوضاعها الاقتصادية بعد تبين أساليب السوق المفتوحة. ولكن الادارة الأميركية تتناسى في خضم دعوتها لدول افريقيا الى الدخول معها في شراكة ان التحولات التي تشهدها معظم دول أميركا اللاتينية أوجدت فروقاً اجتماعية فادحة فتحت باب الجريمة والعنف، كما أوجدت استثماراً جديداً في مجال تشكيل الميليشيات وفرق الدفاع الخاصة وسوق تهريب السلاح والمخدرات. وتتفق التقارير الدولية مع مثيلاتها الفرنسية ان سبيل الادارة الأميركية الوحيد الى تحقيق المبادرات الأربع التي اطلقها الرئيس كلينتون أثناء جولته في الدول الافريقية سواء في مجال التعليم أو في مجال تسوية المنازعات بالطرق السلمية أو في ما يتعلق بالتجارة والاستثمار أو تلك المتعلقة بالأمن الغذائي، سيتحقق فقط عن طريق تمكين النظم الحاكمة من إحكام قبضتها على مقدرات شعوبها مقابل تقليص والغاء دور القطاع العام، وتفتيت الروتين والغاء الجمارك، واصدار التشريعات التي تفتح مجالات الانتاج بلا حدود أمام الاستثمارات الأجنبية. والا بماذا نفسر تبنيها للنظام الأوغندي الذي لا يزيد في ديموقراطيته أو ليبراليته عن النظم التي تحاربها أميركا علناً، أو مباركتها للرئيس الغيني على رغم ماضيه الأسود في مجال حقوق الانسان؟ وكيف ننظر الى تغاضيها عن الأعمال الوحشية التي يقوم بها الجنرال ساني اباشا في نيجيريا واصراره على أن يكون المرشح الوحيد لانتخابات الرئاسة التي ستشهدها بلاده قريباً؟! وليس من المرجح أن تغفر فرنسا لأميركا اصرارها على محاصرة نفوذها الذي دام داخل القارة الافريقية عشرات السنين وتهميش دورها في جمهورية الكونغو الديموقراطية بعد أن سهلت لرجلها في منطقة البحيرات العظمى لوران كابيلا أن يدخل بقواته الى العاصمة كينشاسا ويطيح بحكم الديكتاتور موبوتو. فقد منيت باريس بخسائر اقتصادية وتجارية كبيرة الى جانب تواضع الاستثمارات الفرنسية مقارنة بالاستثمارات الأميركية التي فازت بعقد انشاء أكبر مصهر للزنك في العالم، وبامتيازات منجمية تغطي 80 ألف كيلومتر مربع من أغنى مناطق الذهب في الكونغو، وكانت السبب المباشر في حصول كابيلا على ما كان في حاجة إليه من سيولة نقدية لدعم تحركات قواته قبل أسابيع قليلة من توليه السلطة في العاصمة الكونغولية. لذلك يتوقع معظم المحللين الاقتصاديين ان تشهد قمة الدول الصناعية الثماني الكبرى والتي ستعقد الشهر الجاري في برمنغهام انقساماً حول مشروعية محاولة انفراد أميركا بالتجارة والشراكة مع دول القارة الافريقية التي لا تملك معظم أقطارها الواقعة جنوب الصحراء حتى مقومات التجارة البينية على المستوى الاقليمي، فما بالنا بالوقوف على قدم وساق مع أميركا من منطلق الشراكة في ما بينهما والتي بموجبها تفتح أسواق كلا الطرفين لمنتجات واستثمارات الطرف الآخر!!. وستستغل فرنسا وصف نائب مانديلا تابو مبيكي الذي يتوقع ان يتولى رئاسة جمهورية جنوب افريقيا بعده السنة المقبلة التحرك الأميركي بأنه خاطيء ومبني على غير أساس أو معرفة أو تقدير، لتتزعم معسكراً من الدول الصناعية الكبرى يضمها الى جانب المانيا واليابان ويطالب الادارة الأميركية بأن تحد من احتكارها لميادين التجارة والاستثمار مع افريقيا وان تتكاتف الدول الصناعية جميعاً لانشاء صندوق دولي لتقديم المساعدات التقنية والفنية الى الدول الافريقية للمساهمة في تطوير بنيتها الى جانب امدادها بالخبرات البشرية التي تساعدها على توفير عوامل الاستقرار والتحول التدريجي الى الحكم الديموقراطي واقتصاديات السوق، بدلاً من ربط ذلك بعلاقات آحادية مع أميركا لن يترتب عليها الا مزيد من عوامل الاضطراب المتمثلة في زيادة رقعة الفساد والجريمة.