خفت حدة أزمة الزواج المدني في لبنان ولا تزال ذيولها تتفاعل منذرة بعودتها مرة أخرى مع ما يستتبع ذلك من ردود فعل وتداعيات على سلامة المجتمع ووحدة الوطن الذي لم تندمل جراحه بعد. فعلى رغم زيارة المسؤولين إلى العاصمة السورية واتفاق الأطراف على طمر الموضوع راهناً لمواجهة ما هو أخطر وأعقد، عاد رئيس الجمهورية لطرحه أمام أحد الوفود المغتربة ليؤكد تمسكه به واعتباره مشروعاً حضارياً من شأنه ان ينقل لبنان من الطائفية إلى العلمانية. لو سلمنا بصحة الموقف، إلا أن الحقيقة أثبتت أنه تحول لنقيض ما يرجى منه وحمل معه ردوداً بعضها اتسم بالحدة وبعضها الآخر بما هو أدهى وأمر. لا شك في أن أي جهد يبذل على سبيل إلغاء الطائفية لا بد وأن يلقى الترحاب من كل صادق ومخلص يبغي الخير لبلده وأهله بعيداً عن الانتماءات المذهبية والاجتماعية والسياسية، في اعتبار ان الطائفية هي أم الشرور ومن رحمها ولدت حروب أهلية مدمرة بدءاً بحرب 1860 ومروراً بثورة الخمسينات وانتهاء بأم الحروب في السبعينات التي لا زلنا نعيش مآسيها لغاية الآن. لكن القضية لا تكمن في تشخيص المرض على الاطلاق لأن الجميع مجمعون على أن المرض هو الطائفية إنما في تحديد العلاج وسبل المداواة وما يستدعي ذلك من ترتيب للأولويات. فالزواج المدني في جوهره لا يشكل مشكلة ملحة ولا يجسد قضية مهمة في علاج الطائفية، لأن بوسع أي لبناني ذكراً كان أم أنثى أن يتزوج بالطريقة التي يرضاها وإن كان بالالتفاف على القوانين لتفادي شدتها وتعارضها مع ما يبغاه صاحب القضية. وبالفعل اختارت قلة من اللبنانيين، ومنهم وزراء ونواب، ان يكون زواجها مدنياً وذلك بعد القران على أراضٍ تجيز الزواج المدني ومن ثم عادوا وثبتوا عقود زواجهم في سجلات الطوائف التي ينتمون إليها، ولم تثر ضجة على الاطلاق ولم يحتج أحد بتاتاً. أما القول إن نسبة كبيرة من اللبنانيين تتجاوز العشرين في المئة اختارت الزواج المدني، فهو مخالف للواقع تماماً. فلا شك في أن نسبة الذين يعقدون زواجهم خارج البلاد كبيرة جداً والسبب ليس الاختيار، إنما الاجبار، بمعنى ان الذين يعيشون في بلاد الاغتراب التي تطبق الزواج المدني لا يجدون مناصاً من سلوك هذا الطريق ومع هذا فإن معظمهم يعمد مباشرة إلى عقد زواج شرعي، وإن لم يكن معترفاً به في تلك البلاد، لينسجم بذلك مع معتقده ودينه. فلو كان مسموحاً بالزواج الشرعي لتراجعت النسبة إلى أدنى مراتبها، لكن للضرورة أحكام. السؤال: إذا كان ممكناً للإنسان أن يعقد زواجاً مدنياً خارج بلده ويعود ويسجله في البلد الأم، فعلام إذن تثار هذه الضجة مع أن النسبة التي تختار هذا الزواج قليلة جداً؟ بل حتى لو سلمنا ان هناك مشكلة، فإن طرحها يزيد من حساسيتها ويرفع درجة تداعياتها، خصوصاً وأنها تمس هويات شخصية تتماهى إلى أبعد الحدود مع المعتقدات. المسلمون يعتقدون، وتوافقهم بذلك مختلف الطوائف، أن مسألة تنظيم أحوالهم الشخصية أمر يعود إليهم وليس من حق أية سلطة ان تحرمهم من مكاسب كانت أساساً سبباً لقبول لبنان وطناً لهم بعد تحررهم من الاستعمار الفرنسي، ويرون ان القبول بذلك يعيدهم إلى دوامة التضاد مع ما يؤمنون به وما تفرضه عليهم القوانين التي هي، كما يرونها، ليست إلا اجتهادات لا تعبر بالضرورة عن رأي الأكثرية التي هي سمة من سمات القوانين المتحضرة. فاستناداً إلى استطلاع أجرته صحيفة "السفير" اللبنانية تبيّن ان نسبة 95 في المئة من المسلمين السنّة و90 في المئة من الشيعة و55 في المئة من المسيحيين والدروز ترفض هذا الزواج، ما يعني أن نسبة 70 في المئة من اللبنانيين تعارضه ولا تقبل به. والأكثر من ذلك، أن هذا المشروع يتعارض مع الدستور ويطرح مشاكل قانونية لها انعكاسات اجتماعية. فالمادة 9 من الدستور تنص على: "ان حرية الاعتقاد مطلقة، والدولة بتأديتها فروض الاجلال للّه تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل إقامة الشعائر الدينية... وهي تضمن للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية". هذا النص بالذات يلزم الدولة بأن تحترم الطوائف ويحظر عليها مس معتقداتها أو النيل من مصالحها الدينية، كما يشير أيضاً إلى قبول الدولة ذلك وتعهدها بما التزمت به. ويشير هذا النص أيضاً إلى خشية الطوائف ووعيها المسبق لما يمكن أن تقدم عليه الدولة لاحقاً، فكان الإصرار على هذا النص وبهذه العبارات للحيلولة من أي تملص وارتداد. فالدستور اللبناني، الذي اعترف بأهمية الطوائف ودورها في بناء لبنان المتنوع في الثقافة والدين، فكان ان نص الدستور على دور فعال لرؤساء الطوائف بأن أفرد لهم في المادة 19 الحق في مراجعة المجلس الدستوري لإبطال ما يرونه مساساً بحقوقهم الدستورية ومتعارضاً مع قوانينهم الشخصية. ومن شأن هذا المشروع أن يخلق تناقضاً في حال إقراره بينه وبين قانون الأحوال الشخصية وعليه سيطرح السؤال أيهما الملزم والنافي للآخر؟ فلو ان أحداً على سبيل المثال تزوج مدنياً وعاد بعد فترة وتزوج زواجاً دينياً، فكيف يحل هذا التعارض؟ القانون الشخصي الديني يبيح الزواج ثانية، بينما المدني لا يبيحه، فإن قيل ان القانون المدني هو الملزم بذريعة ان الزواج الأول تم في إطاره، فمعنى هذا ان من تزوج في ريعان شبابه معتقداً ان الزواج المدني هو الأصح لا يحق له أن يغير رأيه لاحقاً مهما كانت الظروف حتى ولو اراد ان يعود لدينه. ومعناه أيضاً ان زواجه الثاني سيعرض على القضاء المدني لإلغائه، ناهيك ما يستتبع ذلك من مشاكل ان ترتب وفاة أو حمل او انجاب من الزواج الثاني. كيف يمكن ان يتم التعامل مع هذا الاشكال وهو غيض من فيض، أمر لا يزال بحاجة للإجابة. إن حكومات الأمم المتحضرة، واللبنانيين نحسبهم كذلك، لا يمكن أن تسيئ للدستور ولا يمكن ان تجبر مواطنيها على قبول أنظمة وقوانين تستهجنها، مهما كانت الحجج والذرائع. لكن يمكن لتلك الحكومات أن تعمل على اقناع جماهيرها بحجية منطقها وصواب فكرتها وعدالة قضيتها وتترك في النهاية القرار عبر اسلوب الاستفتاء الشعبي. فهل دعمت الحكومة اللبنانية إلى ترويج القضية وتسويقها للشعب اللبناني؟ الجواب: لا. إن المواطن الذي خرج للتو من حرب مدمرة لا يزال يعيش عقلية الحرب التي ضيقت افق تفكيره وقلصت مدى رؤيته بحدود القرية أو المدينة التي يستوطنها وحصرت اهتمامه بابناء مذهبه، غير قادر الآن على استيعاب مشروع هو في جوهره تقسيمي أكثر منه توحيدي. ولا بد والحال على ما عليه أن تكون ردة فعله عنيفة سواء كانت رفضاً أو تأييداً ما سيؤدي حتماً إلى شرخ ما تحقق من اجماع، وضرب ما توصل إليه من وحدة. كان الأولى والأنفع العمل على توفير المناخ الصالح لنقل المواطن من عقلية الانغلاق إلى عقلية الانفتاح حتى لا تثار النعرات الطائفية والحساسيات، وتساهم في صقل شخصيته وثقافته وتوسيع مداركه لكي يشارك بفاعلية في بناء الوطن واحترام حقوق الآخرين وقبول منطق الاختلاف بأفق رحب وسعة تفكير تؤهلانه لأن يتباهى بتعدد الأديان في وطنه وبترسخ قيم حقوق الإنسان وأولها حرية الاعتقاد التي ضمنها دستوره. لا شك في أن مسألة حقوق الزواج المدني مهما تفاعلت لا بد وأن يكون مصيرها الأفول ودخول دائرة النسيان لأنها قضية خاسرة ولا يمكن لأي سياسي أن يستمر طويلاً في رفع راياتها. فالمسلمون يرفضون المشروع وتشاركهم به مختلف الطوائف وإن بدرجات متفاوتة، فالقول إنه لا بد البدء بهذا الطرح وإلا فإن الوطن لن تقوم قيامته هو مخالف للواقع. وفرضه على المجتمع يتناقض مع مبدأ الاختيار الحر، واستخدامه كورقة مساومة في حسابات سياسية مخالف تماماً لمبدأ المصلحة العامة والانصاف. ولنعترف في الوقت ذاته ان طرحه ليس بجريمة وتداوله ليس خروجاً على المألوف.