يقول ابن رشيق في كتاب "العمدة": "خير للحاكم أن يكون نسراً من حوله الفرائس، من أن يكون فريسة من حولها النسور". ويبدو أننا، شعوباً كما الحكام، لا زلنا نتمثل هذا القول التليد. وإذا كانت فحوى ما أراده ابن رشيق أن الحاكم الأفضل هو ذلك الذي يتمتع بصفات القسوة والدكتاتورية، فيضمن لحكمه الاستمرار ويعفي المحكومين من جهد المشاركة، فإن الكاتب العربي التراثي يكون أدرك أن الدكتاتورية لا تقوم أو لا تستمر إلا على عنصرين متعاونين هما دكتاتور وشعبه. فالحاكم لا يمكن له أن يستبد إلا إذا وجد في رعاياه من يعينه على الاستبداد ووجد فيهم من يستسلم. إذاً لا تقلّ مسؤولية المحكومين عن قيام الدكتاتورية واستمرارها عن مسؤولية الدكتاتور نفسه، ونحن نجد عندما نقرأ تاريخ الإنسان السياسي أن حكم الفرد نقيض للحرية وأن كفاح الشعوب من أجل الحرية كان على الدوام كفاحها للحد من سلطة الحكام، فأي اتساع لمجال سلطة الحكم هو بالقطع انتقاص من مساحة حرية الناس وخصم من حسابهم وعليهم ألا يلوموا إلا أنفسهم على أيّ انتقاص من حرياتهم. ثم إن معرفتنا لنوازع البشر غير الملائكية يجب أن تجعلنا ندرك أن أي إنسان تسمح له فرصة الإنفراد بالسلطة سوف لن يضيعها إلا فيما ندر وهو لا بدّ له من أن يحرص على البقاء فور أن يتذوق حلاوة للجلوس في القمة منفرداً ، وإذا كانت هذه الحقيقة البشرية لا تبرر أي حق لأي دكتاتور في أية سلطة فإنها تفسّر وتشرح ميل الفرد الى الاستبداد، على أنه ورغم وجود المرشحين للدكتاتورية في أي شعب فإنها لا تقوم إلا إذا توفر الشرط الثاني وهو استعداد الشعب للانقسام بين حماة للمستبد وضحايا لممارساته. والحق أنه يمكن القول بقدر من الجرأة وبلا تجنٍ إن شرطي الدكتاتورية متوفران لدينا. بل يشكلان معظم تراثنا السياسي ويهيمنان على حاضر ثقافتنا، الأمر الذي يسيغ لنا الاستنتاج بأنه لن يكون في مستقبل العرب المنظور ولزمن طويل جداً أية فرصة للخلاص من الدكتاتورية بل إنها تبدو الخيار الوحيد المقبل والحتمية التي هي حقيقة قائمة وتنحو الى الاتساع. بالطبع ليس في هذا الكلام دعوة الى الدكتاتورية، فهي نظام كريه يغرق الناس في أوحاله، والأمر عندي ليس إلا قراءة للواقع وما ينتظر أن يصير إليه، قراءة محايدة تبحث في احتمالات المستقبل على أساس من الحاضر، ثم إني أكتب هنا عما يمكن أن يحدث وليس عما يجب أن يكون. إنني لا أدعو إلى الدكتاتورية ولكني ألفتُ الأنظار الى أنها الواقع الوحيد الموجود القادر على الاستمرار والتوسع في حياتنا السياسية ما توفر لها عندنا شرطاها الرئيسيان: المغامرون والشعوب المستسلمة. ولن يجد من يُلقي نظرة على ارجاء الأمة، أية صعوبة في اكتشاف قابليتنا، بل وميل بعضنا الى أية دكتاتورية. لقد كانت لدينا حركات سياسية وفكرية قومية لكنها انصرفت فانتهت الى دكتاتورية وعرفنا حركات اشتراكية سارت بنا في الطريق نفسه، ونشهد اليوم حركات إسلامية صلبها قائم على الدكتاتورية فلم يسعفنا تبديل العقائد والمذهبيات. إننا لا نعرف الديموقراطية إلا أضغاث أحاديث، وإذا كان بيننا من يسرف في الحديث عنها فما يفعل ذلك إلا ليحرج سلطة قائمة وسوف يتحول الى دكتاتور حتى لو وصل الى السلطة عن طريق اجراءات الديموقراطية. نحن عندنا - كما عند الآخرين - عناصر مؤهلة لأن تستبدّ، وهذا ليس عيباً. لكننا نتميز عن كثير من شعوب العالم الثالث بأننا مؤهلون لأن نتقاسم الأدوار بين أعوان للسلطة وضحايا لها، بل إن لدينا حنيناً جارفاً لحكم المستبد، ولعل ذلك كامن في خصال نحاول أن نداريها عن أنفسنا. نحن لن نرث تراثاً ديموقراطياً ويصعب العثور على تشابه بين ظروف وشروط تولي خليفة آخر في تاريخنا منذ وفاة الرسوم الكريم، كما لم ننشغل أبداً بالبحث عن آلية ميكانيزم لاختيار الحاكم ورقابته وعزله، رغم ما في تعاليم ديننا الحنيف من دعوات الى الحرية والعدل والحساب. ونحن لم ننزع في تاريخنا العربي الحديث الى الحرص على قواعد لتولي السلطة والخروج منها، الأمر الذي عمق جذور الفكر الدكتاتوري في ثقافتنا. ليس هذا فقط بل إن أحداثاً جرت علينا أو لنقل أجريناها على أنفسنا طورّت من أساليب المغامرين وخصوصاً العساكر منهم، في اقناعنا بروعة الدكتاتورية، فصار الدكتاتور هو وحده عدو الاستعمار وهو محقق الحرية وهو منقذ فلسطين من الصهيونية وما علينا إلا الالتفاف حوله، بل إن الأمر بلغ ببعض الجنرالات إلى اقناعنا بأننا في ظله نتمتع بأروع ديموقراطية، ولم يتورّع بعضهم عن الإدعاء بأنه حاكم مدني وقع خلع البدلة العسكرية. ومن منّا لا يسمى بعض المستبدين برؤساء جمهورية مع أن حظ أي ملك يتواضع أمام القدر المريع الذي يملكونه من السلطة ومن الثراء الباذخ الذي يسبحون فيه. على أننا وبقدر ما طورنا من أساليب وصور الدكتاتورية، قمنا بتطوير وتعميق مؤهلاتنا للعيش في ظلالها وحافظنا على قابليتنا لها، بغض النظر عن تذبذب موجات الأفكار السياسية بين قومية واشتراكية وإسلامية. لقد تعمّقت مفاهيم الدكتاتورية في ثقافتنا العصرية لدرجة أنّ الحاكم عندنا لا بّد له من أن يكون دكتاتوراً فهو يشهد موجات من المقت والكراهية لأي أسلوب من الحكم المتساهل أو الحليم ويكتشف أن الناس تضيق بالحرية مفضلة الحلم بالفتوحات والتقدم والغلبة على كل الأمم والشعوب على يد حاكم يحدثها عن الفتوحات الوهمية. إن شعوبنا تزدري الحكومة التي تشرح لها واقعها المتخلّف وتطالبها بجهد أجيال للمضي الى الأمام ويشتد إعجابها بعسكري جهير الصوت يحدثها عن أمجادها التي كانت ويعدها بأنها ستعود، وبالطبع فإن الحاكم الذي تشجعه على تجنب اتخاذ القرارات الصعبة اللازمة لأي تقدم ثم يرانا فرحى بوعود الانتصارات لا بد أن يجد نفسه مستبداً يستعذب الدكتاتورية. إننا نرى اليوم مستبدين موضع احتفاء واحتفال، وحتى عندما تضيق شعوبهم بأي منهم فإنها لا تسعى إلى استرداد حرياتها السليبة بل تتطلع الى مستبد جديد آملة في أن يكون على هواها وغافلة عن أن المستبد لا يستطيع، حتى لو أراد، أن يكون رؤوفاً بالمحكومين، ولذلك يبقى معظم الناس على اختلاف مستويات ثقافتهم في سباق إما الى خدمة مستبد أو لتأييد منقلب جديد. هكذا تتحالف نوازع الفرد إلى الدكتاتورية مع استعداد الشعوب للخضوع لها بما يجعل الواقع العربي يبدو وكأنه أسيراً لمستقبل لا مكان فيه لغير الدكتاتورية، ولعله لا يخفى على من يراقب الأمور منا أن في شعوب الحكومات العربية المعتدلة الوقورة من يحّن الى ظهور عسكري مغامر، وفيهم من يتمنى مستبداً يسلبه حرياته الضائق بها مقابل خُطب عنترية يتحدث فيها الزعيم عن محاربة الاستعمار وتحرير العالم من العبودية، وخيراً لو قام بتأليف كتيب صغير بأي لون من الألوان، وهكذا يمكن وصف الناس عندنا بأنهم إما رعايا لدكتاتورية أو متطلعون الى دكتاتورية، وهم جميعاً، على كل حال ليسوا ضحايا إلا لأنفسهم. إن مسيرة المستقبل العربي المنظور وحتى البعيد منه هي مسيرة "نحو الدكتاتورية"، فما أكثر المغامرين عندنا وما أشدّ ولعنا بالمستبد، قومياً كان أو اشتراكياً أو إسلاميا. ولعل الملاحظ لحركة الأحداث العربية ولما يغلب على ثقافتنا السياسية، سوف يجد أن الدكتاتورية القائمة مؤهلة للبقاء كما يكتشف أن دكتاتوريات جديدة ستكون موضع الترحيب، وسيلاحظ أن لا فكاك لنا من هذا المصير ما دمنا نحتفل بالمستبد ونزدري الحاكم الوقور. وفي النهاية أرغب في القول إنني لم أكتب هنا عما يجب أن تكون عليه الأحوال بل عما يمكن أن تكون عليه، فأنا لست بحاجة الى الحديث عن روعة الديموقراطيات وفساد الدكتاتوريات، خصوصاً العسكري منها. كما أني لا أقصد الى الدعوة إلى الاستبداد، لكني لا أجد كلما قرأت الواقع القائم، أو تخيلت صورة المستقبل، إلا متربصين بالسلطة غيلة بجوسون وسط شعوب تحنّ إلى قدومهم وتشتاق الى ما يزرعونه من أوهام وتعدهم سلفاً بأنهم لن يجدوا أية صعوبة في ترويضها وما عليهم أن يفكروا إلا في محطة الإذاعة ورئاسة الأركان وعليه يصبح من الأجدى بدلا من التبشير بالديموقراطية أن نتوجه بالدعاء الى الله أن يخفف من وطأة المستبد القائم وأن يشيع الرحمة بنا في قلب الوافد الجديد.