إن أخواي حسن وأحمد وأختي حسنية، والثلاثة أكبر مني، ولدوا في كفرتّا، وهي قرية كانت تملكها عائلة سرسق اللبنانية مع قرى أخرى في فلسطين. كان أبي يعمل هناك، ويقيم مع أمي وإخوتي ببيت صغير في القرية. أنا وأخي الأصغر، رزق، ولدنا في بيت اشترى أبي أرضه في أرض اليهود وأقام عليها الغرف الثماني. مالك الأرض، ومساحتها كانت خمسمئة متر، هو ابراهام خلفون الذي كان موظفاً مرموقاً في بلدية حيفا. كان يُشاع ان اليهود لا يبيعون املاكهم في فلسطين ولم يكن هذا صحيحاً بالتمام، إذ لم يلبث خلفون ان باعنا أرضه بعد الحاح قليل من زوجته التي كانت تطعم أولادها حليباً من بقراتنا وبيضاً من دجاجاتنا. أنا وأخي الأصغر رزق ولدنا في هذا البيت الذي قسّمه ابي نصفين: أحدهما للسكن والآخر للإيجار. توالى على الغرف الأربع مستأجرون كثيرون قدموا من لبنان ومصر والأردن للعمل في حيفا. أمّا غرفنا نحن فكانت تكفينا نحن الأولاد الخمسة مع أبي وأمي. بعد أخي رزق ولدت أمي أولاداً آخرين لم يبلغ أطولهم عمراً العام. أذكر أنني كنت ألاعب أحدهم، وهو عدنان، صغيراً، كما كنت ألاعب اختاً لي اسمها سنية ماتت وهي بعد لم تتجاوز شهرها العاشر. لم يعش لوالديّ مولود بعد أخي رزق. كانت أمي تقول إن رأسه "أقشر" أي لا أحد يعيش من بعده. وهو، في أية حال، لم يهنأ في حياته التي عاشها فقيراً، تأتيه المصائب الواحدة بعد الأُخرى. أدخلنا أبي المدرسة جميعاً. من وُلدوا قبلي درسوا في مدرسة الهندي التي لا يبقى تلاميذها فيها بعد المرحلة الابتدائية. أخي أحمد لم يطق المدرسة فكان يفرّ منها ليشتغل في الأفران أو في الباطون أو في أي شيء آخر. أخي رزق أيضاً تعلم فقط حتى الصف الرابع الابتدائي في مدرسة الإرشاد، معي، وكان دائماً كسولاً لا يطيق التعلّم، "وفجّ الرأس" كما كان يقول أبي. أنا، في مدرسة الإرشاد التي كان يديرها الأستاذ سامي صعب، بلغت الصف السابع الإبتدائي. في نهاية تلك السنة، كان عليّ أن اختار بين أن أذهب إلى عكا لأكمل دراستي وبين أن أشتغل لأساعد في إعالة الأسرة. في تلك السنة، وكان عمري خمسة عشر عاماً، ساءت صحة والدي فكان ذلك سبباً إضافياً في توجهي نحو العمل. بعض من كان معي في مدرسة الإرشاد أكملوا علمهم، وبينهم ابن خال لي صار يذهب إلى عكا كل يوم بالقطار. اشتغلت في دائرة المؤن. في أعوام الحرب تلك، وزّع الإنكليز بطاقات تموين كان يشتريها الناس ويأخذون بموجبها حصصهم من المؤن آخر كل شهر. اشتغلت مراسلاً لهذه الدائرة أنقل معاملاتها إلى التجار والدوائر. أمّا راتبي فكان إحدى عشرة ليرة فلسطينية شهرياً، وهذا مبلغ لا بأس فيه لشغل ولد في الخامسة عشرة من عمره. كان مركز الدائرة قريباً من مكاتب شركة "شل" التي تُزوِّد السفن الراسية في الميناء نفطاً. قال لي الشباب في "شل"، بعد أن صاروا يشاهدونني كل يوم، أن آتي كي أشتغل في شركتهم. هناك أعطيت أجراً هو أربع وعشرون ليرة فلسطينية في الشهر، وهذا مبلغ كبير إذا ما قيس، مثلاً، بأجر البوليس الذي لم يزد على ثماني عشرة ليرة أو عشرين. اشتغلت في "شل" ساعياً كما في ]دائرة[ التموين. كان موظفو الشركة يرسلونني إلى البنك والى الميناء الذي أدخله بتصريح خاص استصدرته الشركة لي. منذ شهور عملي الأولى، وثقت إدارة الشركة بي وكانت مكونة من يهود وعرب ورئيس إنكليزي اسمه إيثوود قتلته العصابات اليهودية فيما بعد هو ورفيق له من ضمن موجة اغتيالات طالت البريطانيين يومذاك. ولقد فوّضت الشركة إليّ، لثقتها بي، سحب الرواتب كلها من بنك باركليس آخر كل شهر. في إحدى المرات هاجمني لصّان ظلا ينهالان عليّ ضرباً بالعصيّ حتى سقطت أرضاً فركضا بالحقيبة التي تحتوي على ثلاثمئة ليرة فلسطينية تقريباً. ظن اللصّان أنني متّ، لكني قمت أتعقّبهما وقد تبعت منهما حامل الحقيبة بعد ان افترقا واحداً في اتجاه سينما عين دور، والآخر في اتجاه مدرسة السيليزيان. أمسكت باللص وهو يحاول إفراغ ما في الحقيبة في كيس كان معه. كان الدم ينزف من رأسي، وإذ ظهر عسكري بريطاني قادماً من أحد المفارق فأخذت أصرخ Thief... Thief لص، لص، فاصطحبنا العسكري معاً إلى مركز البوليس الذي منه نُقلت إلى المستشفى الحكومي حيث أُسعفت. حيفا كانت غاصة بالعصابات الكثيرة من يهود وعرب. اختص اليهود بسرقة المصارف وصناديق مكاتب التحصيل التي منها مكاتب شركة البريد مثلاً. كانت عصابات اليهود منظمة، أمّا عصابات العرب فتشكلت من أفراد متفرقين قليلين اقتصرت سرقاتهم على نهب المارة في الطرقات. في تلك الأعوام. كانت حيفا مدينة عامرة مزدحمة تضمّ مقيمين من جميع أنواع البشر يأتونها للعمل. ميناؤها كان مركز نقل وإبحار ومحطة بحرية عسكرية وهو، لأهميته، كان يوفر الخدمات لفلسطين كلها لا لحيفا وحدها. الميناء، في أعوام الحرب تلك، أدى دوراً أساسياً في تمويل جيوش الإنكليز. ونحن كنا نقول إن ميناء حيفا لا يقابله حجماً وأهمية إلاّ ميناء الإسكندرية. أمّا القادمون إلى العمل، في الميناء وفي ما يتيحه دوره من أعمال في المدينة، فجاؤوا من مختلف مناطق فلسطين ومن سورية والأردن والعراق واليمن ومصر، وكان المصريون كثيرين جداً هناك، ومن لبنان كان هناك كثيرون طبعاً" وقد تعرفت إلى رجال من صيدا، مثلاً، وهم من عائلات البابا وحنقير وزنتوت ونقوزي وغيرهم من أهل صيدا والجنوب اللبناني الذين قصدوا حيفا للعمل. في حيفا لم يلقَ القادمون صعوبة في الإقامة، إذ كان كل المخاتير في أحيائها يعطون، لكل طالب، شهادة تقول إنه من مقيمي حيفا. بعد ذلك يذهب حامل الشهادة مزوّداً بصورته الشخصية إلى مكتب حاكم اللواء الإنكليزي ليحصل فوراً على هوية فلسطينية. آنذاك، في سنة 1946، بلغ عدد المقيمين بحيفا من يهود وعرب وسواهم نحو مئتي ألف نسمة. في الفترات العادية، لم تكن الحزازات تفرّق بين اليهود والعرب. في شركة "شل" حيث عملت، كما في دائرة التموين، لم تقم بين الموظفين العرب والموظفين اليهود أية مشكلات بسبب اختلافهم. أمّا أنا، الساعي، فلم ألق انتهاراً من الموظفين اليهود، وإنْ كنت أشعر بأن الموظفين العرب يعاملونني معاملة أفضل. وأذكر أنني، في أيام عطلتي، كنت أذهب كي أشاهد أفلاماً في سينما "أنفي" الواقعة في حي اليهود "هَدار هكرمل". أمّا رواد السينما فمختلطون، عرباً ويهوداً. كانت الحياة مستقرة بيننا وبينهم، لكنها كانت تضطرب عندما تقوم الثورات التي منها ثورة 1936 التي استمرت حتى سنة 1939. تلك الثورة فصلت ما بين الفريقين في السكن. انتقل اليهود جميعهم من منطقتنا إلى حي هدار هكرمل ولم يعودوا قط إلى حيث كانوا من قبل. امرأة واحدة فقط عادت فأقامت بين العرب وكان اسمها سعدى اليهودية. كان لها فرن تخبز فيه خبزاً إفرنجياً. أمّا زوجها، الذي كان يشتغل عندها، فكان يركب الحمار الذي وُضع على جنبيه صندوقان حديديان يُملآن أرغفة لتباع هناك في هَدار هكرمل" ذلك بأننا، نحن العرب، لم نكن نحبّ الخبز الإفرنجي. أرض اليهود صار جميع سكانها من العرب بعد أن هجرها اليهود في إثر ثورة 1936. وقد صار اسمها، بسبب ذلك، اسماً على غير مسمّى. لذلك أُطلق عليها، بعد فترة، اسم "شارع الناصرة". في جوار البيت، كما في المدرسة، لم نعد نصادف إلاّ عرباً ولم نعش إلاّ مع العرب. كان علينا أن ننتظر حتى نكبر، وكان قد مضى وقت على الثورة، لنخرج إلى هدار هكرمل حيث كنا نشاهد اليهود في الشوارع وفي السينما. لكننا، آنذاك أيضاً، لم نختلط بهم. ليس أكثر من أن ندفع ثمن تذكرة الدخول للموظف اليهودي وننتظر من ثم، هناك عند مدخل الصالة المعتمة، ليُجلسنا يهودي آخر على مقاعدنا. لم أكن أخاف في هدار هكرمل لأن الحال كانت مستقرة عندهم من دوننا، كما كانت مستقرة عندنا من دونهم. لكل منطقته، وإنْ أغرانا الذهاب إلى هناك للتسلية، إذ لم يكن لدينا نحن العرب سينمات أو ملاهٍ نتردّد إليها. نحن في شارع الناصرة حي اليهود سابقاً بقينا من دون سينما أو ملهى حتى سنة 1947 حين أقيم مبنى سينما الوداد التي لم تعرض فيلماً واحداً بسبب اندلاع الحوادث ونزوحنا. بلدية حيفا هي التي بنت الملاهي في هدار هكرمل. أمّا نحن فكنا من دون ملاهٍ، على الرغم من أن البلدية كانت مشتركة بيننا وبينهم، وعلى الرغم من رئيسها اليهودي الذي ما زلت أذكر اسمه: شبتاي ليفي. شبتاي هذا كان يميّز في إدارته بين المنطقتين العربية واليهودية. حيّنا، على الرغم من إصرار اليهود على إسمه الأول، كان متروكاً مهملاً. أمّا هدار هكرمل فكان يُنظَّف ويُسوَّى ويزيَّن، وفيه أقيم بستان الملاهي الذي وُضعت فيه الألعاب وأكشاك البيع بين الفسحات والشجرات. في العمل فقط تكلّمت مع اليهود كلاماً يتعدّى العبارات السريعة: في ]دائرة[ التموين أولاً ثم في شركة "شل". في السنوات التي تتالت بعد سنة 1939، سنة انتهاء الثورة، هدأت الأحوال بيننا كما قلت، ثم إن أعوام الحرب العالمية الثانية دفعت البريطانيين في فلسطين إلى بذل المستطاع كي لا تقوم الاحتكاكات بيننا. كان البريطانيون يقولون أنهم مشغولون بالحرب ولا يريدون ان يتلهّوا عنها بالمشكلات الداخلية. أنا لم أكن أبغض اليهود في عملي وهم عاملوني معاملة موظف صغير بينهم. طبعاً، كنت أشعر بأن الموظفين العرب يعاملونني معاملة أفضل، وكان ذلك طبيعياً في ما أحسب. مع اليهود، أو مع الموظفين الصغار بينهم كنا نتبادل المزاح على الرغم من معرفتي، ومعرفتهم أيضاً، أننا قد نذهب، بعد انتهاء العمل، مسلحين إلى الجبهات. وما زلت أذكر جلوسنا، أنا وسائق إحدى سيارات الشركة، عند باب المكتب ذات صباح، وكنا نتمازح فأقول له: "غداً سنرميكم في البحر يا شلتسر". وكان يجيبني: "غداً نرى يا عردات من سيرمي الثاني في البحر". شلستر هذا أصيبت عينه برصاصة بينما كان مرابطاً على جبهة اليهود بعد دوام عمله، وصار يأتي بعد ذلك إلى الشركة مغطياً عينه العوراء بشريطة جلدية شبيهة بتلك التي يضعها موشيه دايان. حين أُعلن قرار التقسيم في الإذاعة اندلع رصاص سمعناه في الغروب، وسمعنا من بعده أن العرب واليهود اشتبكوا على جسر روشميا. تلك الرصاصات فعلت فعلها الفوريّ، فالتزم الناس أماكنهم وتوقفوا عن الاختلاط، لا في شارع الناصرة وهدار هكرمل فقط، بل أيضاً في مناطق حيفا جميعها. ثم صار الاختلاط غير ممكن بعد ذلك، إذ أقيمت المتاريس بين المناطق وأخذ الرصاص يلعلع كل يوم، في الليل وفي النهار. بعد ذلك بأيام قليلة أخذ اليهود يصيبون الأحياء العربية بالبراميل التي يحشونها بالمتفجرات ويدحرجونها من الأعلى، حيث هم، لتنفجر عندنا. كان رجال حولنا يتساءلون بعد كل برميل ينفجر، من أين جاؤوا بفكرة البراميل ومن علّمهم ذلك، إذ ان اليهود اهتدوا اليها بسرعة وقبل أن يوصلهم تصعيد الوضع إليها. بدأت في تلك الأثناء أيضاً موجة تفخيخ السيارات على نحو ما جرى في لبنان فيما بعد. إحدى السيارات المفخخة انفجرت في شارعنا فقُتل ناس كثيرون، بينهم جبر عبود الذي كنا نعرفه. كما انفجرت سيارة أُخرى، بحسب ما أذكر، بالقرب من الحسبة وسقط جرّاء الانفجار قتلى كثيرون" وهذا، طبعاً، إضافة إلى سيارات أخرى كثيرة. على الرغم من هذا الوضع المتأزّم والمتفجّر والذي انفصل فيه اليهود والعرب كل في منطقته، ظلت مكاتب شركة "شل" تفتح أبوابها كل يوم لموظفيها من عرب ويهود. بل إن المنطقة التي اسمها الكولونية الألمانية، وتقع فيها مكاتب الشركة، ظلت محيّدة عن النزاع إذ كانت تُعَدُّ منطقة إنكليزية يديرها الإنكليز ويمنعون الآخرين من التدخل فيها. "نحن هنا نأتي للعمل"، كان يقول لنا المدير الإنكليزي، قاصداً أن لا شأن لنا هنا بما يجري في مناطق حيفا الأُخرى. هكذا كنا، عرباً ويهوداً، نلتقي يومياً ونشتغل معاً من دون مشكلات واستفزازات، لكن من دون مودة أيضاً. أمّا عبورنا الطرقات التي توصلنا، أو توصل كل منا، إلى الكولونية الألمانية قد كان آمناً كون الكولونية تقع وسط حيفا، أي في المنطقة التي تفصل طرف منطقة العرب عن منطقة اليهود. بعض من نعرفهم من أهل حيفا كان يقول، بعد النزوح، إن اختيار الإنكليز لتلك المنطقة ربما يدلّ على بعد نظرهم ومعرفتهم بما سيجري لاحقاً من أحداث. نحن العرب لم نكن خائفين في حيفا على الرغم من البراميل والسيارات المفخخة" كنا نقول إن هذا الذي يفعلونه هو من أفعال الجبناء. حتى إن اعتقادنا ذاك بجبنهم زوّد بعضنا شيئاً من الاستخفاف حتى تجاه السيارات المفخخة، إذ لم نكن نتصور من يفعلون ذلك إلاّ هاربين راكضين، بعد فعلتهم، لخوفهم منا. في شجاراتنا السابقة معهم كنا قد اختبرنا جبنهم. كان العربي يرفع سكينه في هدار هكرمل في وجه أحدهم فيفرّون جميعاً من الشارع عند رؤية السكين. أمّا في ما يتعلق بتنظيمهم العسكري وبالتدريب الذي حصّلوه تحت اشراف الإنكليز بغرض تجنيدهم للقتال في الحرب العالمية الثانية، فكنا نقول إن الأوان، أي أوان المجابهات العسكرية المنظمة، لم يحن بعد. ثم إننا، من ناحية ثانية، اعتقدنا ان بلوغ تلك المرحلة من المواجهة سيقتضي تدخّل الجيوش العربية طبعاً. حين كانت مدينتنا حيفا متحصّنة وراء متاريسها كانت مناطق كثيرة من فلسطين تشهد تحركاً على الجبهات. في البداية، سقطت طبرية في أيديهم، ثم طوّق العرب القدس وحدثت معركة القسطل الشهيرة التي استشهد فيها عبدالقادر الحسيني. في تل أبيب ويافا جرت اقتحامات أيضاً. ونحن هناك في حيفا، كان شعورنا بأننا نحقق الانتصارات عليهم. وكان هذا، حتى ذلك الحين، صحيحاً إلى حد بعيد. لكن مع توالي الاقتحامات أخذ يستبد بنا شعور معاكس نظراً إلى ما كان يصلنا من أخبار. كان اليهود أكثر تسلّحاً وتنظيماً من العرب بكثير. فالأسلحة التي زوّدهم بها الإنكليز في أثناء تدريباتهم في ليبيا أُبقيت معهم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. أمّا "الفيلق اليهودي" فكان مشهوراً إذ ظل تنظيمه قائماً بعد عودته من الحرب التي لم يتلقّ تدريبات لها إلاّ في فصولها الأخيرة، أي حين شارفت على الانتهاء. لقد أُبقيت أسلحة ذلك الفيلق مع رجاله اليهود. أمّا المتطوعون العرب مع الإنكليز، في تلك الحرب، فقد جُرِّدوا من سلاحهم بعد انتهائها وهم لم يُعطوا، لحظة تسريحهم، إلاّ قبّعات كحلية وبَدْلات كان نصيب كل متطوع اثنين منها. كما أُعطي المتطوع تعويضاً مالياً لقاء خدماته، ما لبث أن بدّده وأنفقه. منذ مطلع سنة 1948 فصلت القوات البريطانية بيننا وبينهم في حيفا، فركّزت بين المتاريس المقامة دبابات ومصفحات امتدت في موازاة خطوط التماس. وكان الهدف الذي أعلن لهذا الفصل إيقاف المناوشات والمعارك المحتملة الوقوع رداً على ما يجري في مناطق فلسطين الأُخرى. لكننا عرفنا آنذاك أن هذا الفصل ليس حيادياً وأنه من غير مصلحتنا نحن العرب، إذ سيجري الردّ علينا إن أطلقنا نيراننا على اليهود، بينما إن حدث عكس ذلك فلن يكون موقف الإنكليز هو نفسه. وقد أثبتت الأحداث صحّة ذلك في أية حال. إذ بينما كانت الدبابات جاثمة وفاصلة بين المنطقتين كان يجري هناك، حيث اليهود، الإعداد والتنظيم العسكريان. بعد طبرية، كانت حيفا المدينةالفلسطينية الأولى التي خطّط اليهود لإسقاطها. في أثناء ذلك كانت مناطقنا العربية قد خلت من العمال العرب غير الفلسطينيين ولم يبق منهم بيننا إلاّ متطوعون قليلون حملوا السلاح مع المقاتلين وراء المتاريس. قلَّ كثيراً عدد المقيمين بالمدينة في تلك الأثناء، كما أن حركة ناسها الباقين خفّت وتضاءلت، وهذا طبيعي بسبب تحوّلها من مدينة تجارية مهمة إلى ساحة للمعارك المحتملة. في الميناء تضاءل كثيراً عدد السفن الراسية، أمّا العبّارات التي تحمل البضائع من السفن إلى رصيف الميناء فظلت جاثمة في أماكنها بلا حركة. كانت القوات على جبهتنا تضمّ مقاتلين سبق أن قاتلوا مع الجيش البريطاني. كما كان بين أفرادها رجال بوليس فلسطينيون وحرس حدود ممن تلقّوا بعض التدريب بما يقتضيه نوع عملهم، طبعاً إضافة إلى المتطوعين الآخرين من فلسطينيين وبعض العرب. وكان ينظم هؤلاء جميعاً، على ما أذكر، ضابط أردني نسيت الآن اسمه. بدأت الاقتحامات اليهودية مباشرة بعد الانسحاب المفاجىء للقوات البريطانية من خطوط التماس. ومن المؤكد ان هؤلاء كانوا ينتظرون أن يكتمل استعداد اليهود ليخلوا لهم المجال. جرى الاقتحام الأول بتقدّمهم إلى مبنى مجلس الإصلاح. وشاركتْ في الاقتحام مصفحات يهودية فاجأت المتطوعين العرب فصاروا يطلقون عليها الرصاص من بنادقهم. في مدة لا تتعدّى نصف النهار سقط الموقع في أيديهم، أمّا المقاتلون العرب المرابطون فيه فاستشهد بعضهم وتراجع من بقي منهم حياً إلى المنطقة العربية. بعد سقوط مجلس الإصلاح، المطلّ على شارع الناصرة حيث نقيم، أصبحنا عرضة لرصاص اليهود ولهجومهم المحتمل. بعد أيام من احتلالهم الموقع ذاك أصيب الشيخ صالح، إمام جامع الحاج عبدالله، برصاص قنصهم بينما كان خارجاً من الجامع فسقط قتيلاً. دبّ الذعر في نفوس الأهالي، والبيوت التي اعتبرت خطّ دفاع بعد سقوط مجلس الإصلاح جرى إخلاؤها سريعاً وأُبعد من كانوا فيها إلى مناطق أكثر أمناً. لكن بعد مضي أيام قليلة أُخرى بدأت جولة اقتحامات جديدة لم تقتصر هذه المرة على منطقة واحدة في حيفا وإنما طالت مناطقها كلها. صار التراجع أسرع في اتجاه منطقة الميناء - وهي طبعاً حدّ حيفا الأخير - التي ما زالت آمنة لوقوعها تحت سيطرة الإنكليز وحمايتهم. أنا وعائلتي تراجعنا مع هؤلاء المتراجعين. لم ينتظر الناس سقوط المناطق التي تتعرّض للاقتحام، إذ كان الهلع تمكّن منهم بسبب ما كان يصلهم من أنباء عمّا يجري في انحاء فلسطين. قبل أن نُخلي حيفا كنا علمنا بالمجازر التي حدثت في دير ياسين وفي حواسة وغيرهما. كما أنه بلغنا أن اليهود ذبحوا تواً رجالاً قبضوا عليهم في ناحية الجريني. كانت المنطقة العربية من حيفا مصابة بالهلع ولم تأتِ الاقتحامات إلاّ لتخرج الناس عن أطوارهم وتذهب بهم، متراجعين مذعورين، إلى البحر. في فترة المناوشات التي استمرت نحو خمسة أشهر، من تشرين الثاني نوفمبر 1947 إلى نيسان أبريل 1948، كان هناك من يسعى لتنظيم أمور الناس. وتشكلت لذلك جمعية في عموم فلسطين اسمها "جمعية المقاومة"، كان فرعها عندنا معروفاً باسم "قيادة حيفا"، وكان على رأسها رجل اسمه يونس نفاع عمل موظفاً في البلدية حتى اندلاع الاشتباكات. كما كان هناك جمعية قدّمت المساعدات إلى الناس، وقد سبق قيامها قرار التقسيم بكثير. هاتان الجمعيتان، وخصوصاً أولاهما، أمنتا للمقاتلين ذخائر وللناس أغذية ومؤناً. كان هناك بعض التنظيم في الفترة التي سبقت قيام اليهود باقتحاماتهم الأخيرة، لكن، في عملية النزوح، لم يكن أحدٌ ينظّم أحداً. لقد خرجت العائلات هاربة من دون أن يدلّها دليل حتى على طرقات التراجع. أمّا من كان اقتنى بارودة منهم، مثلي أنا الذي اشتريت بارودة من التجار، شأن سواي، بثلاثين ليرة إنكليزية، فتركها في بيته، إيثاراً للسلامة. في الميناء كان البشر مزدحمين وملتصقين بعضهم ببعض. لم يكن أحد يحمل شيئاً، إذ إن ذعر الفرار حال دون أن يُثقل الشخص نفسه بشيء يحمله. كل شيء بقي في البيوت. في الميناء بقينا منتظرين أربعة أيام أو خمسة إلى أن شاع بيننا أن حيفا سقطت. عندها بدأ الأهالي ما يمكن تشبيهه بفرارهم الثاني، لكن من رصيف الميناء إلى العبّارات والمراكب هذه المرة. نحن، أنا وأمّي وأخي الصغير رزق، كان نصيبنا العبّارات التي هي بلا درابزين ولا حواجز لاقتصار استعمالها على نقل البضائع من السفن، أمّا أختي حسنيّة وأخواي حسن وأحمد فتدبروا أمرهم في المراكب. وأمّا أبي فكنا من دونه لأنه كان توفي سنة 1946، أي قبل أن تبدأ محنتنا في حيفا. العبّارة التي كان ركوبها من نصيبنا أنا وأمي وأخي رزق لا تذهب إلى أبعد من عكّا، بينما من ركبوا المراكب وصلوا بها إلى صور وصيدا في لبنان. كانت العبّارة تتسع لمئتي راكب تقريباً، وتستغرق رحلتها إلى عكا نصف نهار، ثم تعود إلى حيفا لتنقل فوجاً آخر من الأفواج المنتظرة هناك. ومثلما كان الخروج فوضوياً من المدينة إلى الميناء، كان ركوب البحر فوضوياً أيضاً إذ كان التسابق هو الذي يضع أناساً في هذا الفوج وآخرين في الفوج الذي يليه. تنشر سوياً مع مجلة "الدراسات الفلسطينية" هذه السيرة لأسعد أبو العردات النازح منذ خمسين سنة من فلسطين. المجلة أعدت ملفاً للمناسبة تضمن دراسات ومقالات وشهادات ساهم فيها وليد الخالدي وبرهان الدجاني ومحمد سيد أحمد وأحمد عبدالرحيم وغيرهم.