توالت إحصاءات وكالات الأنباء لأعداد الرجال الذين نعموا بالحصول على حبوب "فياغرا" الزرقاء، من مختلف العيارات، على نحو إحصاء الجمعيات والمستشفيات لحصاد الأوبئة والطواعين. فمنذ أوائل نيسان أبريل إلى أواخر أيار مايو قفزت الأرقام الأميركية وحدها، في انتظار إجازة الوكالة الأوروبية للدواء ووزارات الصحة في أربع جهات الأرض، من الأربعين ألف وصفة طبية في الأسبوع الأول، إلى نحو الثلاثمائة ألف في الأسبوع الرابع إلى مليون رجل يتناولون العقار، أو يعاقرونه، في الأسبوع السابع، على زعم الناطق باسم "بفايزر"، المختبر الذي ينتج الحبوب الزرقاء. لكن وباء تناول العقار الجديد، الشافي من ضعف تغذية الدمِ المادةَ الإسفنجية وعضلات الذكر القضيب الملساء، على خلاف الأوبئة القديمة قِدَم السكن المكتظ على أطراف السبخات الراكدة أو في الموانئ وعقد المواصلات البحرية والبرية، هذا الوباء ينتشر ويفشو تحت ألوية طبابة خفاقة ومتفائلة، تستوقد الجذوات المنطفئة ناراً مشبوبة لا تنطفئ أو هذا ما تعد به. وهذا ما يبدو أن الرجال الذين يشكّون في "فحولتهم"، على قول الصحافة المصرية التي تسمي "فياغرا" "حبة الفحولة"، أو يرغبون في رجولة أظهر وأمنع، يصدقون الوعد به وينتظرونه أحر الإنتظار. والوباء عدوى ومحاكاة. وإذا دبت العدوى في الناس سرت فيهم سريان الخوف، أو الغضب، أو الحماسة، في الجماهير. وسوَّتهم جماهير أشبه بظواهر الطبيعة الهوجاء. فينبغي انتظار إقبال تسعة وعشرين مليون عِنِّين، أو كالعنين، على الحبة الشافية، إلى المليون الذين أحصوا إلى اليوم، ليتم الثلاثون مليون أميركي الذين يكابدون "الخلل الانتصابي"، بحسب الكلمة الوظيفية الشائعة. وهؤلاء هم ورثة أنفسهم، غداة ثلاثين سنة انقضت على تظاهراتهم الجماهيرية التي عمت الولاياتالمتحدة الأميركية، وبلدان أوروبا غرباً وشرقاً، وبعض آسيا الرأسمالية، في "ربيع" 1968. فمن يعالجهم الدواء اليوم، معظمهم من الذين بلغوا الخمسين عاماً أو جاوزوها إلى الستين. فهم ولدوا بعد الحرب الثانية وغداتها. وكانوا ثمرة موجة سكانية خصبة لم تشهد ضفتا الأطلسي مثلها مذ ذاك. وبلغ هؤلاء العشرين، إلى الخامسة والعشرين، في أواخر العقد السابع، أي في 1968 - 1970. وكان عددهم الاستثنائي، الجماهيري، سبباً في اضطلاعهم بدور سياسي واجتماعي جديد ومختلف عن الأدوار المعهودة التي سبقت دورهم. فهم كانوا سباقين إلى مزج التظاهر السياسي، والشعارات والبرامج السياسية، باللعب والغناء والمسرح. فدعوا، في ذروة الحرب الأميركية بفيتنام وفي أوج سياسة القوة السوفياتية في أوروبا غزو تشيكوسلوفاكيا إلى الإستعاضة بالحب، أي بالباه الحب على صورته الجسدية والجنسية، عن الحرب. ودعوا إلى المتعة من غير حاجز يحجز بين صاحب المتعة، على معنى الإنزال، ومتعته، أي إلى متعة نياغارية، شلالية، على ما تذكرت صناعة الصيدلة اليوم حين سمت الدواء "فياغرا". وتواطأوا تواطؤاً فاعلاً مع الحركات النسوية، ومع احتجاج السجناء وأطباء المجانين والمنحرفين الجنسيين على حظر المجتمع عليهم باسم السَّوية ومعاييرها و"علومها". ومالوا إلى حركات العالم الثالث الاستقلالية. فكانوا أصحاب "ثورة ثقافية"، حسبها بعضهم شَبَه تلك التي كانت مستعرة في صين ماوتسي تونغ وبين مماليكه وخصيانه، وكان ضحاياها الصينيون، شباباً وفلاحين. وحسبوا أن ثورتهم "الروحانية" موريس كلافيل، الكاثوليكي، ثم ميشال فوكو في ... الخمينية! لا بد أن تودي بالرأسمالية وب"قانون" القيمة الذي لا حياة لها إلا به. فها هم، باسم المتعة، وتبديدها غير المحسوب والعصي على عقلانية السوق، يصدِّعون قلب الرأسمالية، ويستولون على حصونها، على زعمهم. وهم ورثوا هذا الزعم من "الثورة" السوريالية، الشعرية والفنية، ومن تأليهها الحب "المجنون" والرغبة والمتعة والمرأة وما تتفتق عنه المصادفة على غير موعد ولا استباق - وهذا تعريف الثورة كذلك. وولد ربيع 1968، و"جيلُه"، أو فئة عمره ومذهبُ هذه الفئة في مباشرة الحياة وتناولها، وَلَد إقبالاً على الإستهلاك الجماهيري لم يُشهد من قبل. وهو ترعرع وشبّ في غمرة "الثلاثين سنة المجيدة"، تلك التي أعقبت الحرب، وامتدت من عام 1945 إلى 1973، سنة ارتفاع سعر النفط نحو أربعة أضعاف في غضون أسابيع قليلة، وبلغ في أثنائها متوسط نمو الانتاج السنوي، ومتوسط زيادة قوة الأجور الشرائية، أرقاماً تبدو اليوم، في البلدان الصناعية الكبيرة، خيالية 6 إلى 7 في المئة في بعض السنوات. وساد السلام القارة الأوروبية المنقسمة والموكولة إلى الهدنة النووية وإرهابها المخيم. فقَلَب هذا كلُه ثورة الرغبة والمتعة والتبديد إلى سعي في الاستقرار، وفي رغد العيش و"نوعيته". وارتقت الحياة الجنسية من مراتب "النوعية" وصورها مكانة أثيرة وعالية. وكان للنساء حظ كبير من معايير المكانة هذه وتعريفها، كما كان لهن دور راجح في توجيه الحياة الجنسية وجهة الاشتراك بين القرينين والشريكين. والذين يعْزون، اليوم، علاج التقصير الذكوري المتخلف عن السن والبيئة النفسية والإجتماعية والإرهاق، إلى شراكة النساء الجنسية، وقيامهن بإزاء قرينهن وشريكهن نداً وكفءاً، ورقيباً وحسيباً تالياً، هؤلاء ينسون أن النساء إنما طلبن لأنفسهن حياة جنسية جنسانية، على ما يقال تختلف عن المثال الذي صوره عامة الرجال، وطلبته فحولتهم المفترضة. فنددت معظم الحركات النسوية بغلبة المثال الذكري، مثال الفحولة "الماشِيَّة" من "ماتشو"، الكلمة الإسبانية التي تعني الرجل المُدِلَّ برجولته، على الذوق الجنسي. وأنكرت على عامة الرجال نازعهم الى فرض مثالهم هذا على النساء وذوقهن، ورأت في غلبة المثال الذكري صورة من صور التسلط الجنسي، وادامة ميزان قوى متعسف. فردت بعض النساء على المثال الغالب هذا بالعوة الى تعريف مثال نسوي يجلو الموارد الجنسية النسوية والأنثوية، ويرفع مرتبتها على مرتبة الموارد الذكرية. فقلَّلن من شأن الانتصاب أو الإنعاظ، في لغة الفقهاء" وشبهن الإيلاج بالاغتصاب" ووصفن الإنزال القذف المنوي، وقطعه رغبة الرجل ومتعة المرأة تالياً، بالغاية الذكرية الأنانية وغير المشتركة" ونعتن استعجال الرجل بلوغ متعته، واستعجاله الإيلاج والإنزال، وقناعته من الجماع بهذا، بالقصور والضعف. وعارضن هذا بجنسانية نسائية خاصة، ليست نظيرَ الجنسانيةِ الذكرية المقلوب. وزعمن أن هذه الجنسانية تقوم بإطالة الملامسة والملاطفة من غير تخصيص موضع وتشريفه على غيره. وذهبن إلى احتمال المواضع الظاهرة والخارجية للمتعة أكثر من احتمال البواطن لها. وأعلين من شأن المطاولة، ومن شأن الذرى الضعيفة والكثيرة على الذروة الساحقة والواحدة. ولخصن هذا كله فشخَّصن، في المثال الذكري شكلاً جوهرياً من أشكال السيطرة، ورفضاً للمساواة يضاهي التمييز العنصري والطبقي والثقافي بشاعة وفظاظة. وسوّغت حبة منع الحمل هذه الرغبات. فينبغي ان يؤدي الأخذ بالمثال النسوي، أو بشطر منه، إلى خلاف استقبال عقار "فياغرا" استقبال الفاتحين وهذا القول يجوز مجازاً وحقيقة ولو غداة ثلاثين عاماً على ثورة ربيع 1968 على المراتب، ومنها المرتبة الذكرية. أو ينبغي تمييز وظيفة الدواء والطبابة التي تؤديها الحبة الزرقاء من توكيلها بتجديد الفحولة، على ما يصنع أسوياء كثر وبعض المرضى بالقلب وبالنزلة الصدرية وبأورام البروستات يقدرون بنحو عشرين في المئة من أصحاب الطلب. لكن الإقبال الجماهيري، الوبائي، على معاقرة الدواء الجديد، عَرَض من أعراض قدرة المجتمعات الصناعية والليبرالية على وضع فتوحها العلمية والتقانية أو التكنولوجية في خدمة المساواة الجماهيرية التي تقوم من الديموقراطية مقام الركن والأصل. فالوظائف الحيوية كلها، أو معظمها، في مستطاع التقانة العلمية اليوم أن تصنع لها ما يشبه البدائل الصناعية على مثال الأطراف الصناعية، أو في مستطاعها تنشيط أدائها عملها بواسطة العقاقير. وغسل الكلى، وبطاريات النبض، واستبدال شبكة العين، وأعمال الزرع المختلفة، قرينة على هذا. ومن القرائن عليه تصنيع دواء "ليبيتور" الذي يمتص الكوليستيرول، و"إيفيستا" الذي يعالج سرطان العظم، ونجاح العلاج المثلث في لجم عوز المناعة السيدا... وليس ثمة علة مقنعة، اليوم، لقصر البدائل والمنشطات والمجددات على رتبة اجتماعية دون أخرى، أو على سن دون سن، أو على جنس دون جنس و"فياغرا - 2" أو "3" لا بد أن يؤدي "للجنس الثاني" ديته وحصته. فهذا يخالف مبدأ المساواة. وعلى صناديق الضمان الاجتماعي تسديد ثمن الطمأنينة التي يوفرها الدواء، على نحو ما تسدد تكلفة مواعيد التحليل النفسي. ولا يقدح في واجب التسديد، وهو ما بدأ بعض المعاقرين المطالبة به، ارتفاع أسهم شركات الصناعة الصيدلة في البورصات والأسواق المالية، ولاتوقعها أرباحاً قريبة من أرباح الصناعات الالكترونية. فيلتقي المبدأ الليبرالي بالمبدأ الديموقراطي، ويسند واحدهما الآخر. وتبقى، في دوامة تظاهرات الثقافة العلمية والمساواة الديموقراطية والحق الليبرالي، مفارقة نبهت إليها قلة من المعلقين. فسأل سيلفان ميمون، المعالج الفرنسي، عن اختبار الهوى الغرامي لضعف سيطرة المرء والمرأة على نفسه، وعن مصير هذا الاختبار بينما تعد الفتوح العلمية بعموم هذه السيطرة. وسألت كاتبة أميركية السؤال الذي ينظر في أم عين الرجل الزاهي برجولته: أليس في وسع المختبرات أن تصنع حبة تدعو الرجل إلى تذكر المرأة التي جامعها ومكالمتها بعد انقضاء ساعة على الجماع؟ "فما تصنع بالحنان، لا أب لك!"، لكانت قالت العرب.