نشأت البلديات في لبنان قبل ان تنشأ الدولة. فأبصرت بلدية دير القمر النور عام 1864، وتبعتها بلدية بيروت عام 1867، ثم سائر البلديات تدريجاً. وبعد إعلان دولة لبنان الكبير، عام 1920، صدر قرار عن المفوض السامي الفرنسي قضى بابقاء البلديات القائمة وأوصى بانشاء بلديات جديدة في مختلف المناطق. واعتبر قرار آخر، عام 1922، نظاماً قانونياً للبلديات. وتمّ التوسع في انشاء البلديات بعد الاستقلال، فناهز عددها حالياً السبعمئة. وللبلديات أهمية نظراً للدور الذي تلعبه على صعيدي الديموقراطية والتنمية المحلية. فهي وسيلة أساسية لتربية المواطنين على الديموقراطية، لأنها تفسح في المجال أمامهم للمشاركة في القرار المحلي عبر المجالس المنتخبة، والتواصل مع هذه المجالس ومراقبتها ومحاسبتها. وهي تحد من هيمنة السلطة المركزية على ادارة الشؤون المحلية. والتنمية المحلية هي المهمة الرئيسية للبلديات. فليس في استطاعة السلطة المركزية ان تعير الشؤون المحلية القدر الكافي من الاهتمام، لذلك تحتاج التنمية الى ادارة محلية تتابع هذه الشؤون عن قرب. وبين التنمية والديموقراطية علاقة وطيدة. فالتنمية شرط من شروط تحقيق الديموقراطية. كما ان الديموقراطية عامل أساسي من عوامل التنمية الشاملة. واللامركزية الادارية، ومن ضمنها البلديات، صلة وصلٍ بين التنمية والديموقراطية. ومن ناحية اخرى تشكل البلديات جزءاً اساسياً من بنية الدولة. فالدولة اللبنانية اعتمدت في تنظيمها الاداري المركزية النسبية، أو اللاحصرية، واللامركزية الادارية التي تندرج البلديات في اطارها. وهذه البلديات هي ادارات محلية لها شخصية معنوية، وتتمتع باستقلال إداري ومالي. غير ان السلطة المركزية تمارس رقابة عليها عبر وزارة الشؤون البلدية والقروية، وبواسطة المحافظين والقائمقامين الذين يمثلون هذه السلطة في المحافظات والاقضية. والرقابة هذه ضرورية لوحدة سلطة الدولة، لكن لا يجوز ان تتعدى هذه الحدود، أو ان تقيد عمل المجالس البلدية وتجعلها عاجزة عن القيام بالمهام الموكلة اليها. والقانون المعمول به حدّ من الرقابة على المجالس البلدية، ومنحها صلاحيات واسعة. فينص على ان كل عمل له طابع عام أو منفعة عامة، في النطاق البلدي، هو من اختصاص المجلس البلدي. وجعل القانون معظم قرارات المجلس البلدي نافذة بذاتها، وذكر حصراً القرارات التي تخضع لتصديق هذه السلطة. واعترى تجربة البلديات في لبنان الكثير من الخلل، فالسلطة المركزية لم تعر البلديات الاهتمام الذي تستحق. فلم تفسح في المجال امام تجديد مجالسها في انتخابات دورية، بل عمدت الى تمديد ولاية هذه المجالس تكراراً، ما أدى الى إصابتها بشلل شبه تام. والامكانات المالية المتواضعة لمعظم البلديات حالت دون قيامها بالاعباء الملقاة على عاتقها، والجهاز البشري الذي تولى العمل البلدي كان دون المهمات. فاعتبرت رئاسة وعضوية المجلس البلدي للوجاهة ليس الا. وجرى التنافس بين العائلات في غياب الرؤية والبرنامج. والانتخابات التي تجرى حالياً تشهد تنافساً عائلياً تقليدياً في اطار ديموقراطي، تستخدمه بعض القوى والاحزاب لتدعيم وجودها السياسي من دون ان تعمل على اخراجه من طابعه التقليدي. غير ان الانتخابات هذه خطوة أساسية على طريق تطوير الديموقراطية في لبنان. فالديموقراطية لا تتطور الا بالممارسة، وتنشيط العمل البلدي جزء من هذه الممارسة.