احتضنت مدينة نيويورك مهرجان الفن العربي الرابع في مطلع الشهر الجاري وسط ترحيب وحماسة بين اوساط الجالية العربية - الاميركية، وعلى الصعيدين الشعبي والرسمي الاميركي، اذ شهد اليوم الثاني اقبالاً اميركياً شكل حوالى 50 في المئة من الحضور. وكانت المؤسسة الرسمية، ممثلة ببلدية نيويورك، اعدت قبل يومين من انطلاقة فعاليات المهرجان حفل استقبال تكريماً لادارة المهرجان وقدمت جائزة تقديرية تسلمها الفنان الفلسطيني سيمون شاهين العقل المدبر للمهرجان كما وصفته مجلة اخبار الفن في نيويورك "تايم آوت". حضر فعاليات المهرجان اكثر من ثلاثة آلاف شخص غالبيتهم من ابناء الجالية العربية الذين عاشوا ليلة من ليالي الف ليلة وليلة في امسية المهرجان الأولى. فقد عبقت قاعة المسرح البلدي بأجواء شرقية خالصة بمحتويات برنامج السهرة الشعبي التقليدي، وبدأت الامسية مع الزجل اللبناني والزجالين المعروفين زغلول الدامور وفايز المغربي اللذين قدما لمحات من الفطنة وسرعة البديهة في الشعر الشعبي محيين ادارة المهرجان ومعلقين على قضايا اجتماعية معاصرة بالاضافة الى اللوحات التقليدية وما فيها من حوار ساخن بينهما يعتمد على العفوية والتلاعب بكلمات تحمل اكثر من العبر في مضامينها. وبعد فقرة الزجل، كرمت ادارة المهرجان الدكتور جهاد الراسي استاذ موسيقى الشعوب في جامعة كاليفورنيا، والكاتبة الاميركية الفلسطينية الاصل ناعوم شهاب على انجازاتهما واسهاماتهما في العطاء وإحياء الثقافة العربية. وبعد استراحة قليلة حان اللقاء مع سلطان الطرب، الفنان السوري صباخ فخري الذي كان نجم السهرة، حتى انه اعتلى خشبة المسرح لمدة ساعتين مضتا وكأنهما دقائق معدودة لشدة نشوته وانخراط سامعيه في اجوائه التراثية والشعبية والحسية في بعضها، وبراعته في الأداء والتنقل بين الايقاعات مستحوذاً على احاسيس الجمهور الذي غنى وصفق وتمايل وكان لديه الاستعداد للسهر حتى الفجر لو ان القانون يسمح بذلك! بدأ صباح فخري وصلته على مقام العجم بسماعي عجم عشيران للشيخ علي الدرويش، وموشحين: "داعي الهوى" و"ما لعيني ابصرت" كان استقبالهما من الجمهور حيادياً ومهذباً. ولكن ذلك تغير مع انطلاق صباح فخري بغناء دور "القلب مال للجمال" من الحان الشيخ سيد درويش. ثم هاجت القاعة بمن فيها عندما عرج المطرب الكبير الى القدود الحلبية والاغنيات مثل "يا مال الشام" و"طالعة من بيت ابوها". وفي اليوم الثاني تركزت فعاليات مهرجان الفن العربي في مبنى متحف بروكلين للفنون، وكان الاقبال منقطع النظير اذ حفل البرنامج الفني بالعديد من الفقرات. فقدمت مجموعة الشرق الادنى للموسيقى بقيادة الفنان سيمون شاهين مقطوعات من التراث لتعريف المستمع على الاطر والاشكال الموسيقية - الغنائية العربية. وشاركت في تقديم الفقرات الغنائية بمصاحبة الفرقة السوبرانو اللبنانية غادة غانم التي برعت في تقديم الموشحات والأغنيات مثل "يا ليل الصب" و"انا قلبي دليلي". كما قدم المغني الفلسطيني فهيم دندن اغنيتين لملحم بركات وسيد مكاوي حازا على اعجاب الجمهور بلياقة الأداء المتقن. وتجيء هذه الخطوة ضمن سعي ادارة المهرجان الى تقديم المواهب المحلية من ابناء الجالية العربية - الاميركية الى جانب نجوم الاغنية العربية بمادة غنائية راقية ومرافقة موسيقية مهذبة ورفيعة المستوى. فقد اجاد سيمون شاهين بتوزيع القطع الموسيقية والاغنيات بما يتناسب مع اصوات الآلات الموسيقية التي نجحت في انتاج زخم نغمي غاية في الدقة والاتقان. وكان طبيعياً ان تتسم الفقرة التالية بالهدوء والاتزان في اجواء روحانية املاها حضور الفنان النوبي حمزة علاء الدين بلباسه التقليدي وطقوسه الافريقية ملامساً آلة العود بهدوء وهو يدندن بهمس جملاً لحنية مقتبسة من اغنيات السيدة ام كلثوم قبل الدخول الى الغناء الذي كان مرة بالعربية وأخرى بالنوبية. والفنان علاء الدين يخلط بين الصوت النوبي والنغم العربي هامساً وكأنه يتسلل عبر امواج هوائية صحراوية. ثم كان للرقص حصة بارزة فقدم الفنان المصري يسري شريف وفرقته ثلاث رقصات على انغام من التراث ادتها فرقة الشرق الادنى للموسيقى، وتميزت برشاقة الحركة واحتفالية الألوان. وبينما احتشد الجمهور في قاعة مسرح المتحف متابعاً البرنامج الفني، شُغلت قاعات المتحف الاخرى بالعروض والورش الفنية ذات الهوية العربية. ففي الطابق الثالث من المتحف تطالعنا الدمى بالازياء العربية التقليدية خصوصاً الفلسطينية والسورية من مجموعة حنان وفرح المنيي ممثلة انحاء العالم العربي، خصوصاً الوطن الفلسطيني الكامل قبل النكبة. ومن الازياء التقليدية الى الورش الفنية، بداية بالتطريز وعالم الألوان الذي يسمو دائماً فوق الألم ليحكي تاريخ حضارة قديمة ومتجددة. وهنا يطلع الزائر عن كثب على اساليب التطريز، والشيء ذاته ينطبق على باقي الورش مثل رسم الحناء. والخط العربي وغير ذلك من ألوان فنية عربية قامت مجموعة من الفنانين تمثل انحاء مختلفة من الوطن العربي بانجاز نماذج منها امام الجمهور المتلهف لمعرفة هذه الفنون الدافئة في عالم سريع الايقاع شديد الوحدة. وخصصت ادارة المهرجان مساحة للاطفال الذين امضوا معظم الوقت في ممارسة الالعاب الشعبية مثل "السيجة" وغيرها، الى جانب الموسيقى والرسوم التي تعيد الى الاذهان ايام الصبى الأولى. ويذكر ان مهرجان الفن بدأ قبل اربع سنوات بمبادرة من الفنان الفلسطيني سيمون شاهين، وكانت بدايته متواضعة اعتمدت اساساً على المواهب المحلية لمدينة نيويورك ولمدة يوم واحد. ولكن النجاح الذي حققه المهرجان شجع القائمين عليه في المضي قدماً وتوسيع دائرته ليشمل اللقاءات الفنية والادبية على اعلى المستويات فيصبح ركناً اساسياً في النشاط الثقافي العربي في اميركا كاسباً اعتراف المؤسسة الرسمية. يقول سيمون شاهين "الفنان البارع والعبقرية التي تقف وراء هذه التظاهرة الفنية" كما نعتته الصحف الاميركية، ان المهرجان يتيح للحضور من نيويوركيين وغيرهم تذوق ثقافات وفنون العالم العربي، وذلك من خلال دعوة مجموعة من الفنانين لتقديم مختارات من الفنون العربية التقليدية والحديثة. وانطلاقاً من هذا الالتزام يشكل مهرجان الفن حافزاً ونموذجاً لمهرجانات وأحداث ثقافية عربية في جميع انحاء الولاياتالمتحدة. كما يساهم في رفع مستوى عرض هذه الثقافات والفنون مستبدلاً جو التسلية بأجواء ثقافية وتربوية جادة. ومن بين النجوم الذين سبق ان استضافهم المهرجان الفنان مرسيل خليفة. وعلى رغم النجاح الذي حققه المهرجان في سنواته الأربع، فانه يعاني من قلة الدعم العربي، اذ ان غالبية التبرعات والمنح لاقامة المهرجان تأتي من مؤسسات اميركية. ومن نوادر التحضير للمهرجان الرابع ان توجهت ادارة المهرجان لأحد المليونيرات العرب الاميركيين بإيعاز من مقرب منه فما كان من المليونير العربي الا ان سارع وبعث بشيك قيمته مئة دولار فقط! ومن المعروف ان مثل هذه التظاهرات يعتمد اساساً على التبرع والمجهود الدائم، ولكي يستمر لا بد من التفاتة عربية يمكنها ان تجعله اكثر اثراً وتأثيراً في الحياة الصاخبة لمدينة نيويورك.