بعد فترة وجيزة من تسلمه رئاسة الحكومة في المغرب، بدا عبدالرحمن اليوسفي مدركاً بأنه لم يعد هنالك مفر من الاستمرار في عملية الاصلاح الاقتصادي، اذ اشار لذلك بوضوح، دون اية مراوغة، من خلال الرسالة التي وجهها الى وزراء حكومته كافة. لكن التقرير الذي اعده صندوق النقد الدولي اخيراً، واطلعت عليه السلطات المغربية المختصة، يتجاوز بكثير التصورات الموضوعة. فلم تكتف المؤسسة المالية الدولية بالخطوط العريضة التي رسمها اقتصاديو الحكومة المغربية من أمثال: فتح الله ولعلو وزير الاقتصاد والمال والحبيب المالكي وزير الزراعة والرصيد البحري وغيرهم، لإبعاد شبح الضغوطات المستمرة على الاقتصاد الوطني، لكنها ذهبت بعيداً جداً في طرح اقتراحاتها التي هي، في واقع الأمر، كناية عن شروط جديدة تفرضها على هذا البلد الذي سبق وعمل بنصائحها وتحمل الامرّين عندما طبق برنامج اعادة هيكلة اقتصاده. ويطالب صندوق النقد بتجميد الاجور والتوظيف في الادارات العامة، ورفع الدعم عن المواد الأساسية وزيادة ضريبة القيمة المضافة والتخلي السريع عن ادارة بعض مؤسسات الخدمات العامة للقطاع الخاص، كذلك اعتماد سعر صرف مرن للدرهم. كل هذه المطالب والشروط تعتبر تحدياً لحكومة اليوسفي. هذا ما يعترف به خبراء الصندوق الذين يرون انه بدون هذه الاجراءات الجديدة القاسية، لا يمكن للنمو الاقتصادي ان يأخذ طريقه. والسؤال الآن هو: هل سيتمكن المعارضون السابقون لوصفات صندوق النقد الدولي المتشددة، والمدافعون ابداً عن المكاسب الاجتماعية، الرضوخ لهذه الاجراءات المتعارضة مع قناعاتهم والمخالفة لمبادئهم؟ دروس وشروط وتشاؤم جاء تسريب مضمون التقرير الذي اعده صندوق النقد الدولي والمؤلف منه 50 صفحة مترافقاً مع تقديم اليوسفي لبرنامج حكومته امام البرلمان المغربي والذي اكد فيه أن هذه الاخيرة لن ترفع حجم الضرائب في الموازنة المقبلة، على رغم وجود عجز تفوق نسبته الپ4 في المئة من اجمالي الناتج المحلي، مما زاد، حسب رأي المراقبين، الطين بلة. بمعنى آخر، بدد هذا التقرير، الذي حاول واضعوه تغليف مقاصده عبر الاشادة بالجهود المبذولة على مستوى الاقتصاد الجهوي، التي بذلتها السلطات المغربية. لكنه خلص الى الاشارة في خاتمته الى ضرورة اعتماد عدد من التوجهات التي يرى انه لا غنى عنها لتصحيح اوضاع المالية العامة. مثله في ذلك مثل المؤسسات المالية الاخرى، ولم يقترح صندوق النقد الدولي حلولاً للمعضلات غير تصحيح اوضاع الاقتصاد من خلال الموازنة. باختصار شديد، ماذا يريد صندوق النقد الدولي من المغرب بالضبط؟ اجاب على هذا السؤال، احد خبراء هذه المؤسسة فقال ان المطلوب بالدرجة الأولى في السنة المالية 1998/ 99، ان تسعى الحكومة المغربية الى تخفيض عجز الموازنة بالنسبة للناتج المحلي بحدود 2.7 في المئة. لذلك، يقترح الصندوق في الفصل المتعلق بالعائدات، ان تعمد الحكومة الى زيادة الضرائب من 0.7 في المئة الى 1 في المئة من الناتج المحلي، كذلك مراجعة النسبة المطبقة في مجال الضريبة على القيمة المضافة بحيث تنتقل من معدل 7 في المئة الى 10 في المئة، والغاء بعض الاعفاءات وأخيراً زيادة الرسوم على التبغ. وفي الفصل المتعلق بالنفقات، يقترح الصندوق تجميد الاجور والاقلاع عن التوظيف مجدداً في الادارات العامة المغربية ما عدا في المجالات التي تعتبر من الأولويات مثل التعليم والصحة. من جهة اخرى، يرى خبراء الصندوق ان التخفيض التدريجي للخدمة المدنية التي تشكل 1 في المئة من الناتج المحلي باتت مسألة اساسية لا يجوز ارجاؤها. ويقدم التقرير في هذا السياق مقارنة تفضي الى الاستنتاج، بأن حجم الرواتب في الادارة العامة ضخم للغاية. ففي حين ان هذه الكتلة الرواتبية تصل الى 6 في المئة من الناتج المحلي في مصر و7 في المئة في المغرب. انطلاقاً من هذا التشخيص، يشدد الصندوق على ضرورة ارجاع هذه النسبة الى نحو 9.5 في المئة. ليس فقط لأن هذا الحجم من شأنه ان يزيد في فجوة العجز العام، بل لأنه سوف يؤدي ايضاً الى نشوء صعوبات مالية لا بد وأن توجد تباطؤاً على صعيد التقليل من معدلات الفائدة. ومن الاقتراحات الاخرى المعروضة لتخفيض العجز، يعتبر الصندوق ان تخصيص ادارة عدد من قطاع الخدمات مثل التعليم العالي، يجب ان تكون في طليعة اهتمامات المسؤولين. ويأتي الغاء بعض اشكال الدعم على المواد الغذائية الأساسية التي تمثل 1.6 في المئة من الناتج المحلي، اضافة ايجابية يمكن ان تصب في خانة تضييق رقعة العجز المذكور. ويتعرض التقرير بهجوم حاد على "صندوق المقاصة" الذي يعرقل، حسب رأيه، اتمام عملية تحرير الأسعار، اي بشكل أدق، تحرير السوق المغاربية كليا. ومن جملة الاصلاحات البنيوية الاخرى المطلوبة، تطبيق مرونة اوسع على صعيد سوق العمل، مما يعني الاتجاه بأقصى سرعة ممكنة نحو تطبيق قانون جديد للعمل. الأمر الذي يبدو للوهلة الأولى متناقضاً مع الطروحات السابقة. لكن صندوق النقد الدولي عمد الى ادخال فقرة تحمل عنوان "تحسين الشروط الاجتماعية في المناطق الريفية على وجه الخصوص" على سلسلة الاصلاحات البنيوية. انطلاقاً من هذا المفهوم، قام خبراء هذه المؤسسة برسم الاطار العام لسياسة الاقتصاد الجمعي في المدى المتوسط والمبين على النحو التالي: نمو وفق وتيرة ثابتة بنسبة 6 في المئة سنوياً ابتداء من العام 2002، تعزيز الادخار الوطني؟ مضاعفة الاستثمارات، زيادة الأرباح الانتاجية من خلال رفع مستوى المؤسسات الصناعية. ومجموعة الاقتراحات - الشروط هذه تجعل سلفاً مهمة عبدالرحمن اليوسفي اكثر من صعبة.ولم تقف متطلبات صندوق النقد الدولي عند هذا الحد، اذ اقترحت المؤسسة الدولية على المغرب، بشكل غير مباشر، تحرير الدرهم كلياً، مما يمكن ان يُفرض هذه العملة الوطنية للمضاربات في وقت تبدو فيه هذه الاخيرة غير مستعدة لمواجهة هذه النوعية من الضغوطات. ورفض القطاع الخاص والسلطات المغربية المعنية الفكرة من أساسها، لكنهما وافقا في المقابل على وضع استراتيجية عامة تتمحور حول تنمية الصادرات. المغرب في دائرة الاستهدافات في مواجهة هذه الشروط الجديدة يحاول المسؤولون الحكوميون الجدد استنباط السبل والادوات والبدائل التي يمكن ان تساعدهم على التملص من ضغوطات صندوق النقد الدولي قبل فوات الأوان. لذا، يلحظ المراقبون توجه وزراء الاختصاص في حكومة اليوسفي نحو البنك الدولي وفروعه المقدمة من جهة، ونحو الاتحاد الأوروبي في محاولة لاستباق الأمور من خلال الارتباط ولو الجزئي مرحلياً، بالنظام النقدي الأوروبي "اليورو". وفي الوقت نفسه، تشهد الحكومة المغربية وأوساط الاقتصاديين داخل "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" الحزب الذي يقود الحكومة حالياً، نقاشات لا نهاية لها، تتمحور جميعها حول كيفية جعل عجز الموازنة ضمن حدود يمكن السيطرة عليها وعلى انعكاساتها. فإذا نجح المغرب بالتوصل الى نتائج موضوعية في هذا المجال، فباستطاعته عندئذ ان يفاوض صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات المالية العالمية من موقع، أقل ما يمكن ان يقال فيه، انه غير ضعيف. يبقى السؤال: ما هي وضعية المالية العامة للبلاد بعد مرور ثمانية اشهر على إقرار الموازنة؟ على هذا السؤال، يجيب عدد من خبراء الاقتصاد المغاربة ان نسبة انجاز العائدات بالمقارنة مع التوقعات لا تتجاوز الپ59 في المئة، كما ان الادخار الذي تحقق على صعيد الموازنة يشير الى نقص بلغ 73 مليون درهم. هذا في الوقت الذي تجاوزت فيه التدفقات المالية الصافية، المرتبطة بالدين الخارجي، الستة ملايين درهم. ويرى هؤلاى الخبراء ان تغطية عجز الخزينة يتطلب مضاعفة العائدات. زيادة على ذلك، تؤكد الدراسات التي اعدتها وزارة الاقتصاد والمال المغربية ان تنفيذ مضامين القانون المالي يمكن ان يفضي الى تدني في العائدات بقيمة 5.4 بليون درهم، في حين ان تطور حجم النفقات والمداخيل تؤدي الى ادخار في الموازنة لا يصل بالكاد الى حدود 1.7 بليون درهم، علماً ان التقديرات الموضوعة كانت تراهن على 7.2 بليون درهم. كل هذه المعطيات تجعل من القانون المالي للسنة المقبلة 1998/ 99 عرضة لصعوبات مهمة مرتبطة بجملة من الآليات التي يمكن لحكومة اليوسفي وضعها موضع التنفيذ في فترة وجيزة! مما يعني انه يتوجب عليها الدفاع عن سياستها الاقتصادية والمالية بشكل شبه يومي امام اقتراحات وشروط وربما انتقادات صندوق النقد الدولي، الذي يبدو انه وضع، عشية تسلم حكومة التناوب لمهامها، المغرب واقتصاده في دائرة استهدافاته للسنوات الثلاث المقبلة. لذا بات من المحتم على الحكومة المغربية ان تتصدى في الاشهر القليلة المقبلة الى التضخم الحاصل على صعيد الرواتب في الادارات العامة والتي تشكل 11.5 في المئة من ناتج الدخل القومي، اي ما يوازي ضعف الموجود لدى الدول النامية المشابهة. كما يتوجب عليها ايضاً ان تحد من الزيادة المكرسة للأعباء المتمثلة بالفوائد وتسديد اقساط الدين العام الذي يمتص 53 في المئة من العوائد الضريبية. هذا بالاضافة الى نسبة اقتراض الخزينة الذي يصل الى نحو من 79 في المئة من الناتج العام. في ظل هذا الواقع، يبدو من الصعب بمكان، تطبيق العروض المقدمة من قبل المؤيدين لنظرية "التوسع المالي"، الأمر الذي تعتبره المؤسسات المالية العالمية من اخطر الأضرار، على الرغم من التركيز الهادف لصندوق النقد الدولي تجاه اقتصاد المغرب، الا ان المؤسسات العالمية الأخرى ترى ان المخاطر المالية بالنسبة لهذا البلد تبقى ضعيفة في المدى القصير، لكنها تتوقع ان ترتفع باعتدال مع مرور الزمن، اي في المدى المتوسط. فعدم ثبات معدل النمو هو نتيجة هشاشة بعض البنيات الخاصة بهذا البلد. فهنالك من جهة آلية انتاجية ذات اداء غير كاف، ومن جهة اخرى مجتمع ريفي يعيش على هامش التقدم، هذا بالاضافة الى مؤشر على نمو الرأسمال البشري الذي، على الرغم من تطوره لا يزال ضعيفاً اذا ما قورن ببعض الدول المشابهة الاخرى.